وقفات مع عرفات 1444/12/5ه
يوسف العوض
عِبادَ اللهِ : إِنَّ الأُمَّةَ تَشْهَدُ في يومِ عَرَفةَ مَشْهَدًا مِنْ أَبْهَى مَظَاهِرِ العِبَادَةِ وَالوَحْدَةِ، حَيْثُ يَجْتَمِعُ الـمُسْلِمُونَ اليَوْمَ بِأَشْكَالِهِمِ الـمُخْتَلِفَةِ وَأَلْسِنَتِهِمِ الـمُتَعَدِّدَةِ تَحْتَ رَايَةِ التَّوْحِيدِ الَّتِي جَمَعَتْهُمْ فَوْقَ أَرْضٍ وَاحِدَةٍ يَدْعُونَ رَبًّا وَاحِدًا يَدْعُونَ اللهَ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ، إِنَّ مَوْقِفَ الـمُسْلِمِينَ عَلَى أَرْضِ عَرَفَةَ قَائِلِينَ "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ" مَوْقِفٌ تُشَدُّ لَهُ الأَبْصَارُ، وَتَحِنُّ لَهُ القُلُوبُ، وَ تَذْرِفُ لَهُ العُيُونُ شَوْقًا لِبِقَاعِ مَكَّةَ وَمِنًى وَرَغْبَةً فِي مَا يُقَامُ فِيهَا مِنْ مَنَاسِكٍ ، قاَل تَعَالَى ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ ﴾ أَمْرٌ بِالتَّمَسُّكِ بِالدِّينِ وَالوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ الدِّينِ وَالاِعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللهِ المَتِينِ ، ﴿ وَلاَ تَفَرَّقُواْ ﴾ لِأَنَّ فِي الفِرْقَةِ ضَعْفًا وَفِي الوَحْدَةِ قُوَّةً، وَيُذَكِّرُكُمُ اللهُ بِالنِّعْمَةِ العَظِيمَةِ ﴿ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ وَهِيَ نِعْمَةُ الإِيمَانِ بِاللهِ العَظِيمِ ،وبَيَّنَ اللهُ لَنَا فِي القُرْآنِ أَنَّ صَحَابَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَحَّدُوا وَاجْتَمَعُوا عَلَى الإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتَآلَفُوا وَتَآخُوا مُتَظَلِّلِينَ بِرَايَةِ "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ" مُوَجِّهِينَ أَنْظَارَهُمْ نَحْوَ هَدَفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ رَفْعُ هَذِهِ الرَّايَةِ وَالـمَسِيرُ عَلَى دَرْبِ التَّقْوَى وَالإِخْلاَصِ لِلَّهِ وَالتَّضْحِيَّةُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
عِبادَ اللهِ : إِنَّ الاِعْتِصَامَ الـمُنْجِيَ هُوَ الاِعْتِصَامُ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَمْ هُوَ عَظِيمٌ قَوْلُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا خَطَبَ فِي النَّاسِ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ، إِنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ أَخُو المُسْلِمِ، المُسْلِمُونَ إِخْوَةٌ، وَلاَ يَحِلُّ ِلامْرِئٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ إِلاَّ مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَلاَ تَظْلِمُوا، وَلاَ تَرْجَعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ".
عِبادَ اللهِ : قَالَ تَعَالَى : ﴿ وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ﴾ أَنْقَذَهُمْ مِنَ النَّارِ بِالإِسْلاَمِ، لِأَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الإِشْرَاكِ أَوْ عَلَى أَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الكُفْرِ كَنَفْيِ وُجُودِ اللهِ أَوِ الاِسْتِهْزَاءِ بِاللهِ أَوْ بِدِينِ الإِسْلاَمِ أَوْ بِنَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَّاءِ اللهِ أَوْ بِمَلَكٍ مِنَ الـمَلاَئِكَةِ يَدْخُلُ النَّارَ خَالِدًا فِيهَا أَبَدًا، لاَ يَخْرُجُ مِنْهَا وَلاَ يَرْتَاحُ مِنْ عَذَابِهَا.
عِبادَ اللهِ : إِنَّنَا نَدْعُوا لِلتَّمَسُّكِ بِكِتَابِ اللهِ، لِلتَّمَسُّكِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي وَرَدَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يفقههُ فِي الدِّينِ" .
عِبادَ اللهِ : لَقَدْ تَفَشَّى وَبَاءُ الجَهْلِ وَمَرَضُ التَّشَبُّثِ بِالبَاطِلِ وَالزِّيغِ، وَلاَ سَبِيلَ لِلْإِنْسَانِ اليَوْمَ فِي مُوَاجَهَةِ ذَلِكَ إِلاَّ بِالتَّمَسُّكِ بِالعِلْمِ بِعِلْمِ الدِّينِ وَالعَمَلِ بِذَلِكَ وَالتَّمَسُّكِ بِالوَسَطِيَةِ وَالاِعْتِدَالِ بِاتِّبَاعِ الحَقِّ قَالَ تَعَالَى : ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾.
عِبادَ اللهِ : إِنَّنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الفَضِيلَةِ الـمُبَارَكَةِ نُجَدِّدُ الدَّعْوَةَ لِلْعِلْمِ وَالوَسَطِيَةِ وَالتَّآخِي عَلَى أَسَاسِ الاِلْتِزَامِ بِحُدُودِ هَذَا الدِّينِ العَظِيمِ، وَلِلتَّعَلُّمِ وَمَعْرِفَةِ الإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَعْرِفَةِ الحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ لِيَصِيرَ عِنْدَ الـمُسْلِمِ الـمِيزَانُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي بِهِ يُمَيِّزُ الطَّيِّبَ مِنَ الخَبِيثِ وَالحَلاَلَ مِنَ الحَرَامِ وَالحَقَّ مِنَ البَاطِلِ وَالحَسَنَ مِنَ القَبِيحِ.
عِبادَ اللهِ : إِنَّ الحُجَّاجَ اليَوْمَ يُـمْضُونَ أَفْضَلَ أَيَّامِ العَامِ، أَيْ يَوْمَ عَرَفَة الَّذِي رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ "أَفْضَلُ الدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَة وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الـمُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٍ". وَيَوْمُ عَرَفَة يُسْتَحَبُّ لِغَيْرِ الحَاجِّ صِيَامَهُ فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِل عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَة "يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ وَالبَاقِيَةَ" أَمَّا الحَاجُّ فَيُسْتَحَبُّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُفْطِرًا فَلاَ يَصُومَ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الدُّعَاءِ وَالتَّهْلِيلِ وَقِرَاءَةِ القُرْآنِ فَهَذِهِ وَظِيفَةُ هَذَا الـمَوْضِعِ الـمُبَارَكِ، وَيَنْبَغِي لِلْحَاجِّ فِي هَذَا اليَوْمِ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ التَّضَرُّعِ وَالخُشُوعِ وَإِظْهَارِ الضُّعْفِ وَالاِفْتِقَارِ وَالذِّلَّةِ وَيُكْثِرَ مِنَ التَّلْبِيَّةِ رَافِعًا بِهَا صَوْتَهُ "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ" وَيُكْثِرَ أَيْضًا مِنَ الصَّلاَةِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنَ الاِسْتِغْفَارِ وَأَنْ يَتُوبَ مِنْ جَمِيعِ الـمُخَالَفَاتِ فَهُنَاكَ تُسْكَبُ العَبَرَاتُ وَتُسْتَقَالُ العَثَرَاتُ وَتُرْجَى إِجَابَةُ الـمَطَالِبِ فَقَدْ جَاءَ عَنْ النَبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يَعْتِقَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَة" وَجَاءَ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَا رُؤِيَ الشَّيْطَانُ أَصْغَرَ وَلاَ أَحْقَرَ وَلاَ أَدْحَرَ وَلاَ أَغْيَظَ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَة وَمَا ذَاكَ إِلاَّ أَنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ فِيهِ فَيُتَجَاوَزُ عَنِ الذُّنُوبِ العِظَامِ". وَجَاء في صحيح مسلم قالت عائشة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما مِن يَومٍ أَكْثَرَ مِن أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فيه عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِن يَومِ عَرَفَةَ، وإنَّه لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بهِمُ المَلَائِكَةَ، فيَقولُ: ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟ ".
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَاعْفُ عَنَّا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ اللَّهُمَّ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَوَفِّقْ حُجَّاجَ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ إِلَى مَا تُحِبُّهُ وَ تَرْضَاهُ وَأَعِنْهُمْ وَرُدَّهُمْ إِلَيْنَا سَالِمِينَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ.