وقفات مع شهر الله المحرم
إبراهيم بن سلطان العريفان
بسم الله الرحمن الرحيم
اتَّقُوا اللَّهَ؛ فَإِنَّ فِي تَقْوَاهُ سَعَادَةً لِلْعِبَادِ، وَهِيَ خَيْرُ مَا يُتَزَوَّدُ بِهِ لِيَوْمِ الْمَعَادِ ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[.
إخوة الإيمان والعقيدة .. تَتَوَالَى اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ، وَتَتَعَاقَبُ السُّنُونَ وَالْأَعْوَامُ، وَالْبَعْضُ فِي غَيِّهِمْ يَلْعَبُونَ وَبِدُنْيَاهُمْ مُنْشَغِلُونَ، فَلَا آمَالُهُمْ تَحَقَّقَتْ وَلَا سَاعَاتُهُمْ أُجِّلَتْ؛ بَلْ ذَهَبَتِ الْأَمَانِي وَوَقَعَ الْمَنُونُ؛ وَالنَّتِيجَةُ أَنَّهُمْ لَا لِدُنْيَاهُمْ حَفِظُوا، وَلَا لِآخِرَتِهِمُ اسْتَعَدُّوا؛ إِنَّمَا غَادَرُوا الدُّنْيَا كَمَا دَخَلُوهَا، وَرَحَلُوا إِلَى الْآخِرَةِ كَمَا وُعِدُوا بِهَا ]وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ[.
لَا تَكَادُ تَنْتَهِي مَوَاسِمُ طَاعَاتٍ حَتَّى تَعْقُبَهَا أُخْرَى، وَلَا تَنْقَضِي فُرَصُ خَيْرٍ حَتَّى تُطِلَّ عَلَيْنَا غَيْرُهَا.. وَهَا نَحْنُ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- عَلَى مَوْعِدٍ مَعَ تَوْدِيعِ عَامٍ هِجْرِيٍّ كَانَ خِتَامُهُ شَهْرًا مُحَرَّمًا، تَخَلَّلَتْ أَيَّامَهُ فَرِيضَةٌ عَظِيمَةٌ وَشَعِيرَةٌ جَلِيلَةٌ؛ إِنَّهَا فَرِيضَةُ الْحَجِّ، كَمَا نَسْتَقْبِلُ عَامًا هِجْرِيًّا جَدِيدًا يَفْتَتِحُهُ شَهْرٌ حَرَامٌ؛ وَهُوَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ.
وتَخْصِيصُ نِسْبَتِهِ إِلَى اللَّهِ دُونَ سَائِرِ الشُّهُورِ؛ فَيُقَالُ: شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، لأنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ فِيهَا الْقِتَالَ، وَكَانَ أَوَّلَ شُهُورِ السَّنَةِ أُضِيفَ إِلَيْهِ إِضَافَةَ تَخْصِيصٍ وَلَمْ يَصِحَّ إِضَافَةُ شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ إِلَى اللَّهِ إِلَّا شَهْرَ اللَّهِ الْمُحَرَّمَ.
وَقَدْ سَمَّى النَّبِيُّ ﷺ الْمُحَرَّمَ شَهْرَ اللَّهِ، تَدُلُّ عَلَى شَرَفِهِ وَفَضْلِهِ، فَلَيْسَ شَهْرٌ فِي السَّنَةِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ أَعْظَمَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْمُحَرَّمِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِهَا؛ لِذَا تَأَكَّدَ تَحْرِيمُ الظُّلْمِ فِيهَا، فقَالَ تَعَالَى ]إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ[.
عباد الله .. اسْتِحْبَابُ الصِّيَامِ فِيهِ، وَتَأْتِي أَفْضَلِيَّةُ الصِّيَامِ فِيهِ بَعْدَ فَضْلِ الصِّيَامِ فِي رَمَضَانَ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ) فيستحب الْإِكْثَارِ مِنَ الصِّيَامِ فِي شَهْرِ اللهِ الْمُحَرَّمِ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِفِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ، وَالْأَمْنِ مِنَ الْفَزَعِ يَوْمَ الْعَرْضِ فِي الْعَرَصَاتِ.
قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنَبٍ وَخَطِيئَةٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
معاشر المؤمنين .. من الأيام الفاضلة بِشَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي نَصَرَ اللَّهُ فِيهِ الْحَقَّ وَأَهْلَهُ الْمُؤْمِنِينَ (مُوسَى وَقَوْمَهُ)، وَهَزَمَ فِيهِ الْبَاطِلَ وَأَهْلَهُ الْكَافِرِينَ (فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ)، وَلَا يَزَالُ هَذَا الِانْتِصَارُ مَحَلَّ اعْتِبَارٍ إِسْلَامِيٍّ وَتَقْدِيرٍ وِجْدَانِيٍّ؛ فَشُرِعَ لَنَا صِيَامُهُ قِيَامًا لِلَّهِ بِشُكْرِهِ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللَّهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، كَمَا رَتَّبَ الشَّرْعُ عَلَى صِيَامِهِ ثَوَابًا عَظِيمًا شُكْرًا لِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ الشَّرِيفَةِ؛ فَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ مَرْفُوعًا (وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ).
هَذَا قَوْلُهُ ﷺ فِيهِ، وَأَمَّا عَنْ فِعْلِهِ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ. وَمَعْنَى "يَتَحَرَّى" أَيْ: يَقْصِدُ صَوْمَهُ لِتَحْصِيلِ ثَوَابِهِ، وَالرَّغْبَةِ فِيهِ.
وَعَنْ مَرَاحِلِ صَوْمِ النَّبِيِّ ﷺ لِعَاشُورَاءَ نَجِدُ أَنَّهَا كَانَتْ عِدَّةَ مَرَاحِلَ؛ فَفِي مَكَّةَ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصُومُهُ، فَصَامَهُ ﷺ وَلَمْ يَأْمُرْ أَصْحَابَهُ بِصِيَامِهِ، ثُمَّ لَمَّا ارْتَحَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَجَدَ أَهْلَ الْكِتَابِ يَصُومُونَهُ فَصَامَهُ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِصِيَامِهِ، ثُمَّ لَمَّا نَزَلَتْ فَرْضِيَّةُ صَوْمِ رَمَضَانَ صَامَ رَمَضَانَ، وَتَرَكَ الْأَمْرَ بِصِيَامِهِ، ثُمَّ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ عَزَمَ أَنْ يُخَالِفَ أَهْلَ الْكِتَابِ فِي صِيَامِهِ فَيَزِيدَ عَلَيْهِ التَّاسِعَ، لَكِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ ذَلِكَ ﷺ.
عباد الله .. إِنَّ سَلَفَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَخَلَفَهَا الْمُتَّبَعِينَ لَا يَعْرِفُونَ عَنْ عَاشُورَاءَ إِلَّا أَنَّهُ يَوْمُ نَصْرٍ وَتَمْكِينٍ لِمُوسَى وَقَوْمِهِ، وَهَلَاكٍ لِفِرْعَوْنَ وَجُنْدِهِ، فَصَامَهُ مُوسَى وَنَبِيُّنَا -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- وَرَغَّبَا فِي صِيَامِهِ، وَلَمْ يَجْعَلُوا مِنْهُ مُنَاسَبَةَ حُزْنٍ وَنِيَاحَةٍ أَوْ مَوْعِدَ انْتِقَامٍ وَثَأْرٍ أَوْ لِقَاءَ فُحْشٍ وَاخْتِلَاطٍ وَإِبَاحَةٍ أَوْ إِثَارَةِ الشَّحْنَاءِ وَإِحْيَاءٍ لِلْفِتْنَةِ وَإِذْكَاءٍ لِلْحُرُوبِ وَقَدْحٍ فِي الصَّحَابَةِ كَمَا يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ الْحُسَيْنِيَّاتِ وَالْحَوْزَاتِ.
عِبَادَ اللَّهِ: أَعْمَارُنَا هِيَ مَحَطُّ أَعْمَالِنَا، وَمَقَادِيرُ آجَالِنَا، وَفِي تَبَدُّلِ الْأَيَّامِ وَتَعَاقُبِ الْأَعْوَامِ حِكْمَةٌ وَعِبْرَةٌ، تَكْمُنُ فِي أَنْ يُقَدِّمَ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ تَوْبَةً نَاصِحَةً وَرَجْعَةً صَادِقَةً، يَغْسِلُ بِهَا مَاضِيَ دُنْيَاهُ وَيَسْتَقْبِلُ بِهَا مَوْعِدَ أُخْرَاهُ ]وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ أَعْمَالِنَا خَوَاتِيمَهَا، وَخَيْرَ أَيَّامِنَا يَوْمَ نَلْقَاكَ. اللَّهُمَّ أَصْلِحْ وُلَاةَ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَوَفِّقْهُمْ لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ عَمَلَهُمْ فِي رِضَاكَ، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ وَجَنِّبْهُمْ بِطَانَةَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ. اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الْغَلَاءَ وَالْوَبَاءَ وَالرِّبَا وَالزِّنَى وَالْحُرُوبَ وَالْمِحَنَ وَالْفِتَنَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ. اللَّهُمَّ أَصْلِحْ أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ مَوْتَانَا وَاشْفِ مَرْضَانَا وَعَافِ مُبْتَلَانَا.
وصلى الله على نبينا محمد ..
المرفقات
1720138002_شهر الله المحرم.pdf
1720138011_شهر الله المحرم.docx