وقفات مع خِتام شهر رمضان

الحمدُ للهِ نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا. مَن يَهدهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هاديَ له. وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه. صلَّى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد، فيا عبادَ الله:

لقد شارفَ شهرُ رمضانَ على تمامِه، وبقي منه يومٌ أو يومان، وتَمتلئُ الأجواءُ بدعاءِ القَبول، وتتزينُ بالتهنئةِ بتمام الشهر، وحلولِ العيد.

فما أسعدَها من لحظاتٍ، حين يُكمِلُ المسلمون عِدَّةَ رمضان، وتعمُّ الفرحةُ قلوبَهم، بأن وفّقهم اللهُ للطاعة، وأعانَهم على العمل الصالح، كما قال سبحانه: ﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾.

وما أجملَ أن يدعوَ المسلمُ في خِتام عبادتِه، كما دعا خليلُ الرحمن، إبراهيمُ – عليه السلام – عندَ بناءِ البيت الحرام: ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾، ﴿ وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾.

أيها الصائمون:

إنَّ اللهَ سبحانه برٌّ كريم، ما شرعَ لنا صيامَ شهرِ رمضان وقيامَه إلا ليزيدَ إيمانَنا، ويغفرَ ذنوبَنا، ويرفعَ درجاتِنا، فنرجو من المولى الكريمِ أن يمنَّ علينا بالقبولِ والغفران، والعتقِ من النيران.

ومع ذلك، فإنَّ المؤمنَ الصادقَ يستصغرُ عملَه، ويشعرُ بالتقصيرِ فيه، ويخافُ من رَدِّه، وعدم قبوله، مهما كثُرت طاعتُه، لأنه يعلم أنَّ العملَ لا يُقبل إلا بالتقوى، ولا يُثمَّر إلا بالإخلاص.

قالت عائشةُ رضي الله عنها: سألتُ رسولَ اللَّهِ ﷺ عن هذِهِ الآيةِ: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾، أَهُمُ الَّذينَ يشربونَ الخمرَ ويسرِقونَ؟ قال: "لا يا بنتَ الصِّدِّيقِ، ولكنَّهمُ الَّذينَ يصومونَ ويصلُّونَ ويتصدَّقونَ، وَهُم يخافونَ أن لا تُقبَلَ منهُم." ﴿ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾. رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني.

فالمسلمُ يعلمُ أنَّه مهما اجتهد، فإنَّه لا يُؤدِّي حقَّ اللهِ تعالى كما ينبغي؛ لذلك يستغفرُ بعد كلِّ عملٍ صالحٍ، ويُحسنُ الظنَّ بربِّه، ويرجو رحمتَه، ولا يرى نفسَه من الناجين.

فينبغي للمؤمن أن يُكثِر من الاستغفار، ويختمَ شهرَه بالتوبةِ والإنابة، ليُكمِلَ النقص، ويَجبُرَ الخلل، وتُرفَعَ به الدرجات، وتُنالَ به الرحمات، ويُرجى به القَبول.

وكلُّ عبدٍ محتاجٌ إلى التوبة، مهما بلغَ صلاحُه ومنزلتُه، فها هو آدمُ – عليه السلام – يتلقّى كلماتِ التوبة، فيغفرُ اللهُ له، يقول سبحانه: ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾.

وها هو رسولُ اللهِ ﷺ، يقول: "يا أيها الناس! توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه في اليوم مائةَ مرة." رواه مسلم.

التوبةُ عبادةٌ عظيمة، فهي خضوعٌ وانكسار، وندمٌ واعتذار، وإقلاعٌ عن الذنب، وعزمٌ على عدم العَود، وابتعادٌ عن رُفقةِ السوء، ومجالسِ الغفلة، ومواطنِ السوء، وحساباتِ السوء، ومشاهدات السوء، ومتابعاتِ السوء.

التوبةُ يا عبادَ الله، صفاءٌ ونقاء، وبُكاءٌ ودعاء، وخوفٌ ورجاء.

التوبة بابُها مفتوحٌ، ما لم تُغرغرِ الروح.

قال ﷺ فيما يرويه عن ربِّه: "يا عبادي، إنكم تُخطِئون بالليلِ والنهار، وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعًا، فاستغفروني أغفرْ لكم." رواه مسلم

يا أهلَ الصيامِ والقيام، الخاسرُ حقًا من أدرك رمضان، ولم يُغفَر له، جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال: "رغم أنفُ رجلٍ دخل عليه رمضان، ثم انسلخ قبل أن يُغفَر له." رواه الترمذي، وصححه الألباني

فلنجتهد في بقيّة الشهر وإن قلّت الساعات، فالأعمالُ بالخواتيم، لنستقبل العيدَ ونحن من المقبولين، لا من المحرومين، ومن الفائزين لا من المفرِّطين.

﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾.

أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم، فاستغفروه، إنَّه هو الغفورُ الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتِنانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه. صلَّى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد، أيها المسلمون:

من تمامِ رحمةِ اللهِ، وجميلِ فضلِه، ولطيفِ حكمتِه، أن شرعَ لنا زكاةَ الفطر عندَ تمامِ شهرِ الصيام، شكرًا له سبحانه على ما أنعم، وتطهيرًا للصائمِ مما شابَ صومَه من لغوٍ أو رفث.

جاء عن عبدِ اللهِ بن عمرَ رضي الله عنهما، أنَّه كان يُقدِّم صدقةَ الفطر، ثم يغدو إلى المسجد، وهو يتلو قول الله تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴾.

وعن وجوبِ زكاة الفطر، قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: "فَرَضَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِن تَمْرٍ، أوْ صَاعًا مِن شَعِيرٍ علَى العَبْدِ والحُرِّ، والذَّكَرِ والأُنْثَى، والصَّغِيرِ والكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وأَمَرَ بهَا أنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلى الصَّلَاةِ." رواه البخاري ومسلم.

عبادَ الله:

زكاةُ الفطرِ فريضةٌ على كلِّ مسلم، تُخرَج عن نفسِه، وعن مَن تلزمه نفقته، كبيرًا كان أو صغيرًا، ذكرًا أو أنثى، حرًّا أو عبدًا.

ومقدارُها: صاعٌ من غالبِ قوتِ البلد، كالأرزِّ، أو التمرِ، أو الزبيبِ، أو البرِّ، أو الدُّخنِ، أو الذرةِ، ونحوِ ذلك.

ومن أراد صاعًا وافيًا فليُخرج ثلاثةَ كيلو جرامات تقريبًا.

ويُستحبُّ إخراجُها عن الجنين – وهو الحمل – لفعلِ عثمانَ رضي الله عنه، ولا يجب.

ويبدأ وقتُ إخراجِها من غروبِ شمسِ آخرِ يومٍ من رمضان، وينتهي بصلاةِ العيد، ويجوزُ تقديمُها قبلَ العيدِ بيومٍ أو يومين.

ويجبُ أن تُعطى لفقراء المسلمين في بلدِ مُخرِجِها، ويجوزُ نقلُها إلى بلدٍ آخر أشدَّ فقرًا، ولا يجوزُ دفعُها لكافر.

ويجوزُ إعطاءُ الفقيرِ فطرتين أو أكثر، وتُؤدَّى بنيةٍ خالصةٍ لله تعالى، مع اختيارِ الطيّبِ من الطعام، وإعطائِه برفقٍ واحتساب.

فاتقوا اللهَ عبادَ الله، وأخرجوا زكاةَ فطركم طيبةً بها نفوسُكم، طاهرةً من العيوب، كاملةً غيرَ منقوصة، واحتسبوا أجرَها عند الله، فإنَّها بركةٌ في المال، ونماءٌ في الرزق، وطُهرةٌ للنفس، ومواساةٌ للإخوان.

هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمةِ المهداة، والنعمةِ المُسداة، نبيّكم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، كما أمركم الله بذلك فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾.

اللهم اختمْ لنا شهرَ رمضانَ بالعفوِ والمغفرة، والقبولِ والعتقِ من النيران.

اللهم تقبَّلْ مِنَّا صيامَنا وقيامَنا، وصلاتَنا ودعاءَنا.

اللهم إنك عفوٌّ كريم، تُحبُّ العفوَ، فاعفُ عنَّا.

اللهم اجعلنا ممن قام ليلةَ القدر إيمانًا واحتسابًا.

اللهم آتِنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذابَ النار.

اللهم وفِّقْ ولاةَ أمورِنا لما تحبُّ وترضى، وهيِّئ لهم البطانةَ الصالحةَ الناصحة.

سبحانَ ربِّكَ ربِّ العزَّةِ عمّا يَصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.

المرفقات

1743129825_وقفات مع ختام شهر رمضان.pdf

1743131421_وقفات مع ختام شهر رمضان (جوال).pdf

المشاهدات 768 | التعليقات 0