وقفات للأحباب مع غزوة الأحزاب

يحيى بن علي الضامري
1441/06/26 - 2020/02/20 20:50PM

التاريخ

الخطيب

الجامع

المنطقة

13/جمادى الآخرة/1441هـ

يحيى الضامري

جامع النور (الشمباشي)

حريب- مأرب

 
الخطبة الأولى:
في شوال سنة خمس من الهجرة خرج عشرون رجلاً من زعماء اليهود وسادات بني النضير إلى قريش بمكة، يحرضونهم على غزو الرسول ، ويوالونهم عليه، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم، فأجابتهم قريش، وكانت قريش قد أخلفت موعدها في الخروج إلى بدر، فرأت في ذلك إنقاذا لسمعتها والبر بكلمتها . ثم خرج هذا الوفد إلى غَطَفَان، فدعاهم إلى ما دعا إليه قريشاً فاستجابوا لذلك، ثم طاف الوفد في قبائل العرب يدعوهم إلى ذلك فاستجاب له من استجاب، وهكذا نجح ساسة اليهود وقادتهم في تأليب أحزاب الكفر على النبي r والمسلمين .
وبعد أيام تجمع حول المدينة جيش عَرَمْرَم يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل، جيش ربما يزيد عدده على جميع من في المدينة من النساء والصبيان والشباب والشيوخ .
ولو بلغت هذه الأحزاب والجنود المجندة إلى أسوار المدينة بغتة؛ لكانت أعظم خطراً على كيان المسلمين مما يقاس، وربما تبلغ إلى استئصال الشأفة وإبادة الخضراء، ولكن قيادة المدينة كانت قيادة متيقظة، لم تزل واضعةً أناملَها على العروقِ النابضة، تتجسَّسُ الظروف، وتقدِّرُ ما يتمخَّضُ عن مجراها، فلم تكد تتحرك هذه الجيوش عن مواضعها؛ حتى نقلت استخبارات المدينة إلى قيادتها بهذا الزحف الخطير .

وسارع رسول الله  إلى عقد مجلس استشاري أعلى، تناول فيه موضوع خطة الدفاع عن كيان المدينة، وبعد مناقشات جرت بين القادة وأهل الشورى اتفقوا على قرار قدمه الصحابي النبيل سلمان الفارسي رضي الله عنه .
قال سلمان  : (يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خَنْدَقْنَا علينا) . وكانت خطة حكيمة لم تكن تعرفها العرب قبل ذلك .

وأسرع رسول الله  إلى تنفيذ هذه الحظة، فوكل إلى كل عشرة رجال أن يحفروا من الخندق أربعين ذراعاً، وقام المسلمون بجد ونشاط يحفرون الخندق، ورسول الله r يحثهم ويساهمهم في عملهم هذا .

وقال أبو طلحة : شكونا إلى رسول الله  الجوع، فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله  عن حجرين .
وواصل المسلمون عملهم في حفره، فكانوا يحفرونه طول النهار، ويرجعون إلى أهليهم في المساء، حتى تكامل الخندق حسب الخطة المنشودة، قبل أن يصل الجيش الوثني العرمرم إلى أسوار المدينة .
وأقبلت قريش في أربعة آلاف، وأقبلت غَطَفَان ومن تبعهم من أهل نجد في ستة آلاف. ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [ الأحزاب : 22 ] .
وأما المنافقون وضعفاء النفوس فقد تزعزعت قلوبهم لرؤية هذا الجيش ﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [ الأحزاب : 12 ] .

وخرج رسول الله  في ثلاثة آلاف من المسلمين، فجعلوا ظهورهم إلى جبل سَلْع فتحصنوا به، والخندق بينهم وبين الكفار . وكان شعارهم : [ حم لا ينصرون ] ، واستحلف على المدينة ابن أم مكتوم، وأمر بالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة .
ولما أراد المشركون مهاجمة المسلمين واقتحام المدينة؛ وجدوا خندقاً عريضاً يحول بينهم وبينها، فالتجأوا إلى فرض الحصار على المسلمين، بينما لم يكونوا مستعدين له حين خرجوا من ديارهم، إذ كانت هذه الخطة ـ كما قالوا ـ مكيدة ما عرفتها العرب، فلم يكونوا أدخلوها في حسابهم رأساً .
وصار الصحابة  كما قال الله تعالى : ﴿ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [ الأحزاب : 10، 11 ]

أما رسول الله  فتقنع بثوبه حين أتاه غَدْر قريظة، فاضطجع ومكث طويلاً حتى اشتد على الناس البلاء، ثم نهض مبشراً يقول : ( الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره ) [السيرة النبوية لابن هشام (3: 309) ودلائل النبوة للبيهقي (3: 403، 429 ـ 430)]

أيها المؤمنون: إن معركة الأحزاب لم تكن معركة خسائر، بل كانت معركة أعصاب، لم يجر فيها قتال مرير، إلا أنها كانت من أحسم المعارك في تاريخ الإسلام، تمخضت عن تخاذل المشركين، وأفادت أن أية قوة من قوات العرب لا تستطيع استئصال القوة الصغيرة التي تنمو في المدينة ؛ لأن العرب لم تكن تستطيع أن تأتي بجمع أقوى مما أتت به في الأحزاب، ولذلك قال رسول الله  حين أجلى الله الأحزاب : ( الآن نغزوهم، ولا يغزونا، نحن نسير إليهم ) [البخاري عن سليمان بن صُرَد].
 

إن مواقف رسول الله  في هذه الغزوة تحيِّر العقول، وتجعل المرء يشدُّ أذنَه خضوعاً وإجلالاً لتلك العظمة. إنه  وهو في أحلك الظروف، وأصعب المواقف، وأشدِّها على النفس (العدو من الأمام، وعن اليمين والشمال، ومن الداخل، والبرد الشديد، والخوف على الذُّرِّيَّة) ومع هذا كان  مقبلاً على ربه تعالى، في ثبات والتجاء، ثم هو يمنّي أصحابه الكرام بالنصر والتأييد، وفتح البلاد النائية (الشام، واليمن، والعراق) وكل ذلك قد تحقّق بإذن الله تعالى، مما زاد الصحابة الكرام  ثباتاً وإقداماً ورسوخاً، بالإضافة إلى زيادة الإيمان وحسن اليقين بالله تعالى وبرسوله الكريم .
وبلادُنا يا لبلادنا! تمر بأيَّامٍ عَصِيبَةٍ ، وأَحداثٍ عَاصِفَةٍ، ومُستَجَداتٍ مُخيفَةٍ، صِراعَاتٌ مُحتَدِمَةٌ، وَتَغريدَاتٌ مُقلِقَةٌ، ومَقَاطِعُ مُحزِنَةٌ، غَامِضَةُ الابتِداءِ، مُبهَمَةُ الانتِهاءِ، وهذِهِ واللهِ أَقدارٌ مَكتُوبَةٌ، وحِكَمٌ مَسْطُورَةٌ، نَسألُ الموَلى الفَرَجَ القَريبَ، لِلقَريبِ والبَعيدِ.
ولي معكم أيها الأحباب وقفات من غزوة الأحزاب علَّ الله أن ينفع بها:
 
الوقفة الأولى : خطر المنافقين.
إن أخطر ما تعانيه الأمة وجود المنافقين في صفوفها، يفتون العضد، ويعدون بالهزيمة ، ويناصرون أهل الباطل، وعلى الأُمةِ في هذا الوَقتِ بالذاتِ، أنْ تَحذَرَ من كُل نَاعِقٍ وَمُنافِقٍ ممن لا تُؤمَنُ غَوَائِلَهُم، ولا تَقِفُ مَكَائِدَهُم، ممن يَستَغِلُّونَ الأحدَاثَ الراهِنةَ بالطعنِ في الدِّينِ، والْحطِّ من المتُدَيِّنِينَ.
وقد أخبر الله عنهم في تسع آيات من سورة الأحزاب؛ من قوله ﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً﴾.  إلى قوله: ﴿وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً ﴾ [الأحزاب 11-20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ..
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الخطبة الثانية:
الوقفة الثانية: الدعاء الدعاء!! فهو من أقوى الأسلحة؛
 أتهزأ بالدعـــــــــــــــــاء وتزدريــــــه     وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهام الليل لا تخطي ولكـــن    لها أمـــــد وللأمــــــــد انقضـــاءُ
عن أبي سعيد الخدري  قال: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله، هل من شيء نقوله ؟ فقد بلغت القلوبُ الحناجر. قال: (نعم، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا) قال: فضرب الله عز وجل وجوهَ أعدائه بالريح، فهزمهم الله عز وجل بالريح. [رواه أحمد والبزار، وإسناد البزار متصل، وصوبه ابن كثير. لكن له شواهد هو بها حسن].

وروى مسلم وغيره من حديث عبد الله بن أبى أوفى  يقول دعا رسول الله  على الأحزاب فقال: (اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب اللهم اهزمهم وزلزلهم) ، فنصرهم الله؛ وأخزى عدوَّهم، فلم تقم لهم بعدها قائمة.
﴿ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً﴾ [ الأحزاب : 25].
 
الوقفة الثالثة: الصلاة وطاعة الله نجاة ونصر.

كان رسول الله إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة ، ولما عاد حذيفة من عند القوم يوم الأحزاب ليخبره الخبر برحيلهم وجد النبي  يصلي ويبتهل ويدعو.
إن طاعة الله تعالى؛ واللجوء إليه؛ والانطراح بين يديه؛ والتوبة والندم ورفع أكفِّ الضراعة إليه؛ حقيق أن يكشف ما حل بأمة محمد r قال الله جل وعلا : ﴿ ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربِهم وما يتضرعون ﴾  ]المؤمنون: 61] وقال سبحانه وتعالى: ﴿ وبلوناهم بالْحسنات والسيئات لعلهم يرجعون﴾[ الأعراف: 168]
الوقفة الرابعة : تأييد الله لعباده بجنود من عنده.

إن النصر على المعتدين ليس فقط بكثرة العدة والعتاد، ولم ينتصر النبي r في معركة قط كان فيها أكثر عدداً وعدة من أعدائه، لكن الله سبحانه قوي عزيز فقد أمد هذه القلة بنصر من عنده، وأعانهم بجند من جنده، وزودهم بثبات وطمأنينة فهونّ أمامهم المصائب والمحن، قال حذيفة -وهو عائد من مخيم القوم- : ثم إني خرجت نحو رسول الله  ، فلما انتصف الطريق ـ أو نحو من ذلك ـ إذا أنا بنحو من عشرين فارساً ـ أو نحو ذلك ـ مُعتَمّين، فقالوا: أخبر صاحبَك أن الله قد كفاه. قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً ﴾ [ الأحزاب : 9].
 
الوقفة الخامسة: سجن الشائعات والأخبار المؤلمة والتثبت منها وعدم نشرها.

لما بلغ النبي  من عيونه يوم الأحزابِ خبرَ نقضِ اليهودِ للعهدِ الذي أبرموه معه بعث رسول الله  السعدين؛ سعدَ بن معاذ سيد الأوس، وسعدَ بن عبادة سيد الخزرج، ومعهما عبدالله بن رواحة وخوات بن جبير، فقال: انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقاً؛ فالحنوا لي لحناً أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس.

قال فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم ، ثم أقبل السعدانِ ومن معهما إلى رسول الله  فسلموا عليه ثم قالوا عضل والقارة،  أي كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع خبيب وأصحابه، ومع ذلك ماذا قال النبي  لما سمع خبر القوم، قال رسول الله : (الله أكبر؛ أبشروا يا معشر المسلمين)[سبق تخريجه ص3].
ونحن اليوم وللأسف؛ أسارى رسائلَ وتغريدات؛ تفتُّ في عضد الأمة، وتزلزل بنيانها، هدفها خلخلة توازن المجتمع، فلا يكاد يمر يوم ولا ليلة؛ إلا وشائعات تبني وأخرى تهدم، وخبر يفرح وآخر يُحزن، وليس لها من الصحة أساس، ولا من الصدق بناء.
 
الوقفة السادسة : أهمية الائتلاف وتناسي الخلاف.
أيها المؤمنون: إن التاريخ يشهد أن من أهم أسباب سقوط الدول على اختلاف عقائدها ومللها ؛ التفرق والاختلاف.
وإنه ليجب الحذر ممن يَسعَونَ إلى تَغرِيبِ الأُمةِ وتخَريبِها، وَزَرْعِ بُذُورِ الفُرقَةِ بَينَها! في وَقتٍ أحوَجَ ما نَكُونُ إلى اجتِمَاعِ الكَلِمَةِ وَوِحدَةِ الصفِّ والتعَاضُدِ والتسَانُدِ.
سقطت الخلافة العباسية بعد أن تفرقت الدول الإسلامية في ذلك الوقت، فنشأت
الدولة البويهية، والمماليك، ودويلات الشام، ولم يبق للخلافة العباسية إلا مزعٌ متفرقةٌ متناثرةٌ من العالم الإسلامي، فلما زحف المغول إلى بغداد لم يقف في وجه زحفهم غيرُ أهلِ بغدادَ فقط، فأعملوا فيهم القتلَ حتَّى قتلوا أكثرَ من ثمانمائة ألف نسمة، كما قال غير واحد من المؤرخين . وسقطت الدولةُ الإسلاميةُ في الأندلس  بعد أن أصبحت دويلاتٍ متفرقةً متناحرة، لا هَمّ لأحدهم سوى التَّلقُّبِ بألقاب المِلِك والسلطانِ؛ حتَّى ولو كان على بقعة لا تجاوز حظيرة خراف .
ممَّا يزهدني فـــــي أرضِ أنـــــــــــدلسٍ *** أسمــــــــاءُ معتضــــــدٍ فيهــــــا ومعتمــــدِ
ألقابُ مملكةٍ في غيرِ موضعهــــــــا *** كالهرِّ يحكي انتفاخًا صولةَ الأسدِ
ونحن لو بقينا على حالنا لصرخنا وندمنا يوم لا ينفع الصراخ ولا الندم : "أُكِلْنَا يومَ أُكِلَ الثَّورُ الأبيض".
ومَن يريد لشعبنا أن يتقسَّمَ ويتفرق؛ هو من يطمع في نهب خيراته ورزقه، ولا يكاد يَخفى على ذي لب؛ أن الْحرب في اليمن بعد هذه السنوات أصبحت عبثية؛ تَحركها أياد خارجية غير مسؤولة، وأعانهم عليه قوم من بني جلدتنا؛ ليقضوا على البقية الباقية من حملة الدين ومبلغي الرسالة، ولينهكوا قوى الشعب ويأكلوا خيراته، وينفردوا بِقدراته، أيدٍ لا تريد لليمن أمنًا ولا استقراراً ، ولا نهوضاً ولا اقتصاداً ، بل تريد أن نمُدَّ أيدينا إليهم إذا احتجنا قوت يومنا ، ومن ثمَّ لن تنتهي هذه الْحرب ما دام المستفيدون منها لم يُحققوا آمالهم المرجوة من نهب خيرات البلاد، وإن تعددت أسماؤهم وطوائفُهم ، ﴿والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾[يوسف 21].
صلوا وسلموا...
المشاهدات 596 | التعليقات 0