وقفاتٌ صيِّبة مع تفسيرِ الحياةِ الطيبة

د. عبدالعزيز الشهراني
1442/01/15 - 2020/09/03 11:13AM

الحمد لله الرب الغفور، العفو الرؤوف الشكور، الذي وفَّق مَن شاء من عباده لتحصيل المكاسب والأجور، وجعل شغلهم بتحقيق الإيمان والعمل الصالح، يرجون تجارة لن تبور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الذي بيده تصاريف الأمور، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أفضل آمرٍ وأجلُّ مأمور، اللهم صلِّ وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم البعث والنشور.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله ...

عباد الله: الحياة الطيبة مطلب عظيم, وغاية نبيلة, بل هي مطلب كل الناس وغايتهم التي عنها يبحثون, وفي سبيلها يضحون ويبذلون، فما من إنسان في هذه الحياة إلا وتراه يسعى ويكدح بحثًا عن الحياة الطيبة وطمعًا في الحصول عليها, والناس جميعًا على ذلك متفقون, ولكنهم يختلفون في الوسائل والسبل التي توصلهم إلى هذه الحياة إن وصلوا إليها. ولعل  من أفضلِ ما يحدد لنا مفهوم الحياة الطيبة وسبيلها كتابُ اللهِ الكريم يقول اللهُ – جل في علاه - : {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

قال ابن كثير – رحمه الله – : هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحا - وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه من ذكر أو أنثى من بني آدم ، وقلبه مؤمن بالله ورسوله ، وإن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله - بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة .والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت . وقد روي عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب .وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه فسرها بالقناعة . وكذا قال ابن عباس . وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس أنها السعادة . وقال الحسن ، ومجاهد ، وقتادة : لا يطيب لأحد حياة إلا في الجنة .وقال الضحاك : هي الرزق الحلال والعبادة في الدنيا ، وقال أيضا : هي العمل بالطاعة والانشراح بها .والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " قد أفلح من أسلم ورزق كفافا ، وقنعه الله بما آتاه " .وروى الترمذي والنسائي عن فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " قد أفلح من هدي إلى الإسلام ، وكان عيشه كفافا ، وقنع به " . وروى الإمام أحمد  عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا [ ويثاب عليها في الآخرة ، وأما الكافر فيعطيه حسناته في الدنيا ] حتى إذا أفضى إلى الآخرة ، لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا " . انفرد بإخراجه مسلم .[انتهى ملخصاً]

أيها المسلمون: قال ابنُ سعدي – رحمه الله - : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فإن الإيمان شرط في صحة الأعمال الصالحة وقبولها، بل لا تسمى أعمالا صالحة إلا بالإيمان، والإيمان مقتض لها، فإنه التصديق الجازم المثمر لأعمال الجوارح من الواجبات والمستحبات، فمن جمع بين الإيمان والعمل الصالح { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } وذلك بطمأنينة قلبه، وسكون نفسه، وعدم التفاته لما يشوش عليه قلبه، ويرزقه الله رزقا حلالا طيبا من حيث لا يحتسب. {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ } في الآخرة {أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } من أصناف اللذات مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فيؤتيه الله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة.

أيها المؤمنون: والطيِّب : ما يطيب ويحسن . وضد الطيّب : الخبيث والسيّىء . وهذا وعد بخيرات الدنيَا . وأعظمها الرضى بما قسم لهم وحسن أملهم بالعاقبة والصحّة والعافية وعزّة الإسلام في نفوسهم . وهذا مقام دقيق تتفاوت فيه الأحوال على تفاوت سرائر النفوس ، ويعطي الله فيه عبادهُ المؤمنين على مراتب هممهم وآمالهم . ومن راقب نفسه رأى شواهد هذا. [قاله ابنُ عاشورٍ في تفسيره] .

فاتقوا الله عباد الله, واجتهدوا في طاعة ربكم، وتزوّدوا مِن حياتِكم لِمَعَادِكم، ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾

 أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ...

 

 

 

 

 

 

 

عباد الله: وللحياة الطيبة أسباب وشروط من أهمها: الصلاة فهي من أعظم الأسباب لتحقيق الحياة الطيبة، تشرح الصدرَ، وتُذهب ضيقه، وتُرسل في القلب نبضاتِ الطمأنينة والراحة، فلا يزال العبد كأنَّه في سجنٍ وضيق حتى يدخل فيها، قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَـاشِعِينَ}[البقرة:45]. وكان-صلى الله عليه وسلم- إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. أخرجه البخاري. ومن أهمّ أسباب الحياة الطيبة – كذلك - دوامُ الذكر، فالذكر طمأنينة للقلب، أمانٌ للنفس، حفظٌ لها من الشرور. والقلبُ الممتلئ بذكر الله قلبٌ قويّ، لا يخاف غيرَ الله، ولا يخشى أحدًا إلا الله؛ لأنه يستشعر دائمًا معيةَ الله ونصرتَه، فهو سبحانه القائل في الحديث القدسي: (أنا مع عبدي ما ذكرني وتحرّكت بي شفتاه)) أخرجه أحمد. ومن أسباب الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة هدايةُ الله للعبد إلى التوبة والاستغفار كلما أصاب ذنبًا أو همَّ بمعصية، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَـئِفٌ مّنَ الشَّيْطَـانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}[الأعراف:201. فالمؤمنُ الموفقُ السعيد من نظر في هذه الحياة وعرف حقها وقدرها فهي والله حياةُ طيبة طالما حاز فيها المرء قلباً صالحاً نقياً من الشوائب، ولساناً طيباً يتقول به الكلام الطيب ،وجوارح يسخرها في كل ما ينفع به نفسه وغيره. اللهم إني أسألك عيشة هنية وميتة سوية ومرداً غير مخز ولا فاضح .

هذا وصلوا رحمكم الله ...

المشاهدات 1478 | التعليقات 0