وقفات تربوية

الخطيب المفوه
1433/06/13 - 2012/05/04 07:42AM

وقفات تربوية

خطبة ألقيت في جامع أبي عبيدة بحي الشفا
ألقاها : د / سعد بن عبد العزيز الدريهم .

بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله؛ فَلا مُضلَّ له ، ومن يضلل؛ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ e، وشرَّ الأمور مُحـدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
لو تأملنا أيها الجمع الكريم ، لوجدنا أن حياتنا تدار بطريق المقايضة ؛ حتى المشاعرُ والأحاسيس ؛ فأنا أُعطي من يعطيني ، وأمنع من يمنعني ، وأحبُّ من يحبني وأكره من يكرهني ، وأصل من يصلني وأقطع من يقطعني؛ فهذه سمة يتصف بها أهل هذا الزمن في تعاملهم ؛ فربما كانت طبيعة العصر هي من أوحت لهم بهذا الميزان وهذا التصرف ، ولم يعد هذا الميزان وهذه السمة أيها الجمع الكريم ، حصراً على من بعدت منزلته في النسب ، بل أضحت صفة تكسو علاقة الأقربين ؛ فأضحى الوصل يقاس بمبدأ المقايضة والتعاطي ، وهذا ولا ريب مؤشر حرمان وخذلان ، وبعد عن مدارج الرحمة.
لا نريد أن نتسع بالموضوع أيها الجمع الكريم ، فيصعب علينا الإحاطة به، ولكن سنجعله رهين العلاقة الاجتماعية « صلةِ الرحم » ؛ لأنه كثيراً ما يُربط بها ، وهو المحفز على صلتها أو قطيعتها ؛ فأنت أيها المحب ، ربما رأيت بعض التقاطع والتدابر بين بعض قرابتك ، فتأخذُك المحبة للخير لنصيحتهم؛ فكثيراً ما تجبهك في مثل هذه الحالة قول بعضهم : إنني أصل قرابتي وأتودد إليهم ولكني أواجه بعدم صلتهم أو زيارتهم أو اهتمامهم ، مما جعلني أحجم عن صلتهم وأقطع الرحم التي بيني وبينهم ، ومثل هذا الأمر وقع في حياة النبي r ؛ إذ جاءه رجل فقال : « يا رسول الله ، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني ، وأحسن إليهم ويسيئون إليَّ ، وأحلم عنهم ويجهلون عليَّ ؛ فقال : لئن كنت كما قلتَ فكأنما تسفهم المل ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك ».
فهذا الرجل المبارك من صحابة النبي r عمل الخير لقرابته ، ولكنهم واجهوا ذلك الخير بالنكران ؛ فهو وصلهم فواجهوه بالقطيعة ، وأحسن إليهم ، وواجهوه بالإساءة ؛ فكأنه فتَّ ذلك في عضده ، وقال في نفسه : ما الذي يجعلني أصبر على تلك المهانة وأنا في غنى عنها ، لكنه أحب قبل أن يُقدم على ذلك أن يستشير النبي r ؛ ليأتيه التوجيه من النبي r بالاستمرار على ذلك ؛ لأن الغاية من ذلك طاعة الله ، وهي حاصلة لمن وصل رحمه ، ولو واجهه أهل هذه الرحم بالقطيعة والعقوق ، ومن كان الله غايتَه تهون في سبيله العقبات ، كما أن الذي يصل الرحم المقطوعة ويصبر على ذلك ، موعود في ذلك بالنصرة والعون من الله « ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك » ، بل إن الواصل لرحمه السيئة ؛ وإن تبادر إلى ذهنه أنهم لا يهتمون أو يتأثرون بذلك ؛ إن ذلك ليؤثر فيهم تأثيراً بليغاً فكأنك تحثوا في وجوههم الرماد الحار « فكأنما تسفهم المل » . فزيارتك ومداومتك على ذلك مع قطيعتهم وجفائهم ، لأكبر نصيحة لهم وتوبيخ ، وبالاستمرار سيتغير منهم هذا السلوك ، وستنقلب إلى سلوك إيجابي ، فيتحولون من القطيعة إلى الوصل ، ومن الإساءة إلى الإحسان ؛ فيكون لك أجر ما يفعلون ؛ لأن من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، وفي هذا أكبر حافز أيها الجمع الكريم ؛ وكفى به مطلباً لذوي الهمم العالية ..
وهنا أيها الجمع الكريم ، مفهوم ربما غاب عن كثير من الناس ، وهو أن الوصل إنما يكون للرحم التي قطعت ، أما إن كانت للرحم موصولة فهذا مكافأة ، وصاحبها مأجور بنيته ؛ لذا نلحظ أن النبي r قال : « ليس الواصل بالمكافيء ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها » ؛ فأنت إذا جعلت وصلك لمن وصلك فأنت مكافئ له ، وإن جعلت الوصل لمن جفاك ؛ فأنت قد حققت الوصل في أجمل معانيه وأرقاها .
وسبحان ربي أيها الأحبة في الله ، عندما قمت باستقراء لمن حولي من الواصلين والقاطعين ، وجدت أن أكثر الناس وصلاً هم أهل النجاح والفلاح دنيا وأخرى إن شاء الله ، وهم أهل الثناء والتبجيل من قبل قرابتهم، بل هم ذوو الشهرة وإليهم المفزع عند حصول ما يكدر ، وتلك عاجل بشراهم ، لقد أبى الله سبحانه إلا أن يصل من وصل الرحم ، ويقطع من قطعها ، بل من قطع الرحم متوعد باللعن طرداً وإبعاداً عن رحمة الله )فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِيْنَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ( .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ..
أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه ، ونشكره على توفيقه وامتنانه ، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه ، وسلم تسليماً .
أما بعد :
فيأيها الأحبة في الله ، التوسط حسنة بين سيئتين ؛ بين سيئة الإفراط وسيئة التفريط ، وهكذا الناس أو أكثرهم بين مُفْرِطٍ وَمُفَرِّط ، وليس الأول بممدوح وكذلك الثاني ، وإنما المِدْحَة والثناء إنما هي لأهل التوسط في الأمور، ولو طبقنا هذا الأمر على أمور الحياة والمعاش لأعجزنا الاستقراء ، ولكن سنجعله حديثاً موجهاً للأسرة ولرب الأسرة الأب ؛ فلو نظرنا في وضع الأسرة خاصة الزوجة أو الأم ، لوجدنا أن بعض الأزواج قد جعل لها الحبل على غاربه دون حساب وهذا خطأ ، كذلك يشاركه في الخطأ ذلك الذي حجَّم دور الزوجة ؛ فألغى شخصيتها ؛ حتى إنها لفرط ذلك لم تعد ذا قدرة على سياسة البيت والأولاد ..
والخير أيها الأحبة في الله ، في التوسط ، وذلك بأن تعطي زوجتك الثقة وتوكل لها الأعمال ، وتستشيرَها حتى في أعمالك الخاصة والعامة ، وكم من رأي حكيم كان من ذلك العقل الأنثوي الذي طالما سخرنا منه واستقللناه ، وفي حديث النبي r مع أم سلمه خير شاهد ؛ فقد أمر النبي r الصحابة أن يحلقوا لكنهم لم يبادروا ؛ فدخل النبي r على أم سلمة لمغضباً ؛ فحكى لها الأمر ؛ فأشارت عليه أن يخرج ولا يكلمَ أحداً ، وأن يحلق ؛ فلما فعل ذلك بادر الصحابة إلى ذلك حلقاً ..
كما أن من الحكمة أيها الأحبة ، أن نعود نساءنا على تحمل بعض الأمور وسياستِها ؛ لأنك لا تدري عن صروف الدهر ؛ فلو حدث حادث لا قدر الله تكون تلك الزوجة على دراية بما تفعل ؛ فتكون العائلة بمأمن عن الابتزاز والحاجة ، ولو نظرنا فيمن حولنا لرأينا أن النجاح لبعض البيوت كان بسبب حكمة امرأة ، بل إن بعض النساء في علاجها للأمور خير من علاج بعض الرجال ؛ فلا تستهينوا أيها الجمع ، بنسائكم فأعطوهم الثقة وازرعوها فيهم ، وستجدون ثمارها يانعة ، كما أنك أيها الرجل إذا أوكلت بعض أعمالك لامرأتك خاصة فيما يتعلق بالبيت سيجعل ذلك تلك المرأة على دراية بما تلقاه من متاعب ، وهو خير علاج يجعلها تقدِّر نفقات البيت ؛ فلو أتيت إلى امرأتك بعد نزول الراتب ، وقلت لها : هذا مصروف البيت ؛ فأنت من سيتولى إدارته والنفقةَ عليه في هذا الشهر ، وكن لها مراقباً ولا تتدخل ؛ ستلحظ أن تلك المرأة التي ربما كانت مبذرة ؛ تختصر لك الكثير وربما وفرت لك النصف من ذلك المصروف ؛ خاصة إذا قلت لها : ما بقي من المصروف فهو لك ، وهذا أيها الجمع الكريم مجرب ؛ فأعطوا النساء الثقة وكونوا عوناً لهن ، وسترون أي راحة تلبستم بها بعد ذلك ، وكما قلت سلفاً : لأن تترك امرأتك قوية تأمن على ذريتك من بعدك خير من أن تتركها لا خبرة لها في الحياة ، والله أسأل أن يهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ؛ إنه جواد كريم.
أيها الأحبة في الله ، صلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه
المرفقات

وقفات تربوية.doc

وقفات تربوية.doc

المشاهدات 2588 | التعليقات 1

جزاكما الله كل خير