وقد خاب من حمل ظلما

ناصر محمد الأحمد
1436/07/16 - 2015/05/05 02:02AM
(وقد خاب من حمل ظلما)
19/7/1436هـ
د. ناصر بن محمد الأحمد

الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: قال الله تعالى: (وقد خاب من حمل ظلما) يا لخيبة من يأتي يوم القيامة ظالماً، يأتي وهو يحمل أوزاراً على ظهره. (وقد خاب من حمل ظلما). فمن هو الظالم ومن هو المظلوم؟ أين الظالم وأين المظلوم؟ إنه هذا الإنسان المسكين، فهو الظالم وهو المظلوم، حيث ظلم نفسه وأوبقها، وظلم عباد الله عز وجل فأساء إليهم وأساء إلى نفسه وظلمها بما يعرضها له من العقوبات في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أََنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [البقرة : 57] وقال تعالى: (إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون) [يونس : 44].
الظلم، وما أدراك ما الظلم؟! إنه خلق ذميم، وذنب جسيم، وأذى عظيم، ووصف لئيم، يحلق الدين، ويأكل الحسنات، ويجلب الويلات والنكبات، ويورث العداوات والمشاحنات، ويثمر الأحقاد والضغائن، ويسبب القطيعة والعقوق، ويحيل حياة الناس إلى جحيم وشقاء، وكدر وبلاء.
أما والله إن الظلم لؤمٌ وما زال المسيء هو الظلومُ
إلى الديان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصومُ
ستعلم يا ظلومُ إذا التقينا غداً عند الإله مَنِ الملومُ
قال الله تعالى: (وقد خاب من حمل ظلما).
الظلم طبيعة بشرية، وجبلة متأصلة في النفوس كما قال تعالى: (وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولا) ( الأحزاب : 72 فهذا هو الأصل في الناس: الظلم والجهل إلا من زكَّاه الله بالإيمان والتقوى، والعلم والهدى، والعدل والإنصاف.
وقد صدق المتنبي حين قال:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفةٍ، فلعلة لا يظلمُ
قال الإمام الماوردي رحمه الله: "وهذه العلة المانعة من الظلم لا تخلو من أحد أربعة أشياء: إما عقل زاجر، أو دين حاجز، أو سلطان رادع، أو عجز صاد، فإذا تأملتها لم تجد خامساً يقترن بها".
والظلم أنواع شتى، وله صور كثيرة، ووجوه متنوعة عديدة، ولكن يمكن إجمالها في قسمين:
القسم الأول: ظلم النفس بالظلم الأعظم: وهو الكفر بالله تعالى والإشراك به سبحانه: قال الله تعالى: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُون) [البقرة : 254]، وقال عز وجل: (إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم) [لقمان : 13]، وهذا النوع من الظلم لا يغفره الله عز وجل لو مات صاحبه بلا توبة، وهو مخلد في النار. وكونه أعظم الظلم لأنه وضعٌ للعبادة في غير موضعها، وصرفها عن الله عز وجل الخالق الرازق رب العالمين إلى مخلوق ضعيف لا يملك نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
القسم الثاني: ظلم النفس بوقوعها في مظالم العباد: وهذا النوع من الظلم أخف من سابقه في كونه لا يخلد صاحبه في النار لو دخلها، ولكن الخطير فيه إثمه وعقوبته التي لا تزول إلا برد المظالم إلى أهلها، أو استباحتهم منها وإلا كان القصاص يوم القيامة بالحسنات والسيئات وليس بالدينار والدرهم، وكفى بهذا حاجزاً عن الظلم، وكفى به رادعاً وواعظاً للعبد المسلم في أن يتخفف من حقوق العباد، ويخرج من هذه الدنيا سالماً لا يطلبه أحد من العباد بمظلمة في دين أو نفس أو مال أو عرض. وهذه الأمور لا تكاد تخرج مظالم العباد عنها. وظلم الناس إنما ينشأ من الإضرار بهم في دينهم أو دنياهم ويكون ذلك بأمرين: إما بمنعهم حقوقهم. أو بفعل ما يضر بهم. وظلم الناس يصدق على أي إضرار يقع عليهم في إحدى ضرورياتهم الخمس: الدين، أو النفس، أو العقل، أو العرض، أو المال. سواءً بمنع ما يجب لهم من الحقوق أو فعل ما يضر بهم.
قال الإمام العلامة شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى: "والظلم عند الله عز وجل يوم القيامة له دواوين ثلاثة: ديوان لا يغفر الله منه شيئاً، وهو الشرك به، فإن الله لا يغفر أن يشرك به. وديوان لا يترك الله تعالى منه شيئاً، وهو ظلم العباد بعضهم بعضاً، فإن الله تعالى يستوفيه كله. وديوان لا يعبأ الله به، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه عز وجل، فإن هذا الديوان أخف الدواوين وأسرعها محواً، فإنه يُمحى بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفرة ونحو ذلك، بخلاف ديوان الشرك فإنه لا يمحى إلا بالتوحيد، وديوان المظالم لا يمحى إلا بالخروج منها إلى أربابها واستحلالهم منها، ولما كان الشرك أعظم الدواوين الثلاثة عند الله عز وجل حرّم الجنة على أهله، فلا تدخل الجنةَ نفسٌ مشركة، وإنما يدخلها أهل التوحيد، فإن التوحيد هو مفتاح بابُها، فمن لم يكن معه مفتاح لم يُفتح له بابها، وكذلك إن أتى بمفتاح لا أسنان له لم يمكن الفتح به". انتهى ..
أيها المسلمون: وإليكم بعض صور ظلم العباد على سبيل الاختصار:
من ذلك: ظلم العباد في دينهم: التسبب في صرف الناس عن دينهم وعقيدتهم وأخلاقهم، سواءً بإثارة الشبهات التي ينحرف بها العبد عن عقيدته الصافية فيقع في الكفر أو البدعة، أو بإثارة الشهوات التي توقع العبد في الرذيلة والفسق والفجور. فهذا كله من الظلم العظيم للناس في دينهم وأخلاقهم، وممن يتولى كِبَرَ هذا النوع من الظلم أصناف من الناس:
فالذين يسنون الأنظمة الجائرة التي تمكن للمفسدين في الأرض من نشر فسادهم والسماح لهم بل ومنحهم الإذن بما يخوّلهم تشييد صروحهم الإعلامية التي يفسدون من خلالها عقيدة الأمة وأخلاقها، سواءً بكلمة مقروءة أو مسموعة أو مرئية. وهذا من أعظم الظلم. (وقد خاب من حمل ظلما).
والناشرون الذين يبثون من خلال كتبهم ومجلاتهم وأشرطتهم كل ما من شأنه إثارة الشبهات والانحراف في أفكار الناس، أو إثارة الشهوات والانحلال سواء بالكتابات الهابطة أو الصور الساقطة، وكل هذا من ظلم العباد في دينهم. (وقد خاب من حمل ظلما).
والإعلاميون الذين تصدروا أماكن التوجيه في الوسائل الإعلامية المختلفة من تلفاز وإذاعة وقنوات، فنسوا دينهم ونسوا يوم الحساب، فوجهوا سمومهم إلى دين الأمة وأخلاقها بما يبثونه من شبهات ومغالطات، وبما يبثونه من أفلام قذرة وأغان خليعة تثير الشهوات وتقتل الغيرة والفضيلة. وكل هذا أيضاً من ظلم العباد في دينهم. (وقد خاب من حمل ظلما).
والتجار الذين لا يهمهم دين ولا خلق وإنما همهم الدينار والدرهم، ولا يهمهم المصدر الذي يجلب لهم المال أمن حلال هو أو من حرام. فراحوا يتاجرون بما فيه إفساد للدين ونشر للرذيلة وقتل للفضيلة، وذلك بما نراه اليوم من تجارة الكتب الهدامة التي تضلل الناس وتحرفهم عن دينهم، أو التي تنشر أسباب الخنا والفجور من كتب الغرام وعرض صور النساء الفاجرات على غلاف المجلات وفي ثناياها، كما يلحق بهذا من يتاجر ببيع الوسائل المروّجة لذلك، وغير خافٍ على أحد ما ينشر في هذه الوسائل اليوم من شر وفساد، وكل ذلك من ظلم العباد في دينهم. (وقد خاب من حمل ظلما).
وأولئك الآباء أو الأبناء، الذين يسعون لملء بيوتهم من هذه الوسائل المدمرة للدين والأخلاق، فيخربون بيوتهم بأيديهم ويظلمون أنفسهم ومن تحت أيديهم بما يسببونه لهم من الانحراف والفساد والضياع بجلب الكتب والمجلات وأجهزة الفساد إلى أهليهم، فيحملون أوزارهم وأوزار الذين يضلونهم. (وقد خاب من حمل ظلما).
والذين يسهمون في الدلالة على الشر وأهله، والصد عن سبيل الله، والتنفير من أهل الخير وتشويه سمعتهم عند الناس. (وقد خاب من حمل ظلما).
كما يدخل في ظلم الناس في دينهم كل من أسهم في ذلك بندوة أو محاضرة أو مقالة أو كتاب أو مسرحية، مما فيه تضليل للناس أو إفساد لأخلاقهم: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُون) [النحل : 25]. قال الله تعالى: (وقد خاب من حمل ظلما).
من يُقَصّر من العلماء وطلبة العلم في تعليم الأمة أمر دينها فيتركها في لهوها وفسادها لا تُؤمر ولا تُنهى، أو تركها حائرة فيما ينـزل عليها من النوازل دون هدايتها إلى وجه الحق في ذلك، كما أن من الظلم المبين كتم الحق عنها أو لبسه بالباطل. (وقد خاب من حمل ظلما).
كما يُلحق بمن سبق أولئك الذين يُقَصّرون في تعليم أبنائهم أو آبائهم أو زوجاتهم فروض العين وما ينجون به من عذاب الله تعالى، فترك هؤلاء على جهلهم مع القدرة على تعليمهم يعد ظلماً في دينهم. (وقد خاب من حمل ظلما).

بارك الله ..


الخطبة الثانية :
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: الظلم مرتعه وخيم، وشؤمه جسيم، وعاقبته أليمة، وقد توعّد الله أهله بالعذاب والنكال الشديد، فقال تعالى: (وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيما) ( الفرقان : 37 ) وقال تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء) ( إبراهيم : 42-43 وإنه والله لوعيد تنخلع له القلوب الحية، وتقشعر له الجلود المؤمنة، وكفى به زاجراً عن مقارفة الظلم أو الإعانة عليه.
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم ترجع عقباه إلى الندمِ
تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك، وعين الله لم تنمِ
ومن صور ظلم العباد إكمالاً لما تقدم:
التعدي على كل نفس معصومة بقتل أو ضرب أو سجن أو تعذيب. ويدخل في ذلك كل من باشر الاعتداء بنفسه أو أمر به أو أعان عليه أو أشار به أو فرح به أو شمت أو قعد عن نصرة المعتدى عليه وهو يقدر على ذلك. قال الله تعالى: (وقد خاب من حمل ظلما). قال صلى الله عليه وسلم: "من ضَرَبَ بسوط ظلماً اقتُصّ منه يوم القيامة". رواه البخاري في الأدب الفرد. وقال صلى الله عليه وسلم: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء". رواه مسلم. فإذا كان هذا حال العجماوات فيما بينها فكيف الحال بما يقوم به البشر من الظلم. (وقد خاب من حمل ظلما).
وما من يد إلا يد الله فوقها ولا ظالمٌ إلا سيُبلى بأظلمِ
ووقوع القتل العمد الصريح للمعصوم قد يكون قليلاً، لكن الذي يقع كثيراً هو القتل بشبهة أو تأويل، وهذا يكثر أيام الفتن والقتال بين طوائف المسلمين أعاذنا الله من ذلك وهذا هو الذي حَذِرَهُ جماعة من السلف واعتزلوا فيه الطوائف المتقاتلة وتذكروا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً". رواه البخاري.
ومن الظلم: ترويج المخدرات والخمور والدخان والإغراء بتناولها، ومعلوم ما في ذلك من الأضرار المعلومة. (وقد خاب من حمل ظلما).
والمتاجرة في الملبوسات والأزياء النسائية المحرمة التي تصف الجسد أو تكشف بعضه تشبهاً بالكافرات، ويدخل في ذلك من يشتري مثل هذه الأزياء لأهله ويأذن لهم بالخروج فيها والتبرج بها، كما أن المرأة المتبرجة تعد هي الأخرى ظالمة للناس بتعريضهم للفتنة. (وقد خاب من حمل ظلما).
والتجارة بفتح المؤسسات السياحية المتخصصة بتسهيل السفر إلى بلاد الكفر بقصد ارتياد أماكن الفجور. (وقد خاب من حمل ظلما).
والاعتداء على أعراض العباد بالغيبة والنميمة والفحش والسخرية والاستهزاء، والكذب عليهم، ويشتد الإثم في ذلك عندما توجه هذه الآفات إلى أهل الخير من العلماء والدعاة والمصلحين. (وقد خاب من حمل ظلما).
والاعتداء على أموال المعصومين سواء بسرقة أو إتلاف أو بالتحايل والخداع، وسواء كان المسروق عيناً أو نقداً. ويدخل في ذلك السرقة من الأموال العامة للمسلمين كبيت المال والصدقات وغنائم المجاهدين. قال الله تعالى: (وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَة) [آل عمران : 161]. وقال عليه الصلاة والسلام: "إن رجالاً يخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة". رواه البخاري. ويلحق بذلك كل من استُؤمن على مال لحفظه أو استثماره ثم خان صاحب المال أو فرّط في حفظه وتنميته، ويشتد الإثم إذا كان الاعتداء أو التفريط في حفظ المال العام والأوقاف وأموال اليتامى. (وقد خاب من حمل ظلما).
واحذر من المظلوم سهماً صائباً واعلم بأن دعائه لا يحجبُ
والاستيلاء على أموال المعصومين بالغصب والقوة، ويتضح هذا جلياً في ظلم الأرض والعقار حيث يُستولى على الأراضي وتغير المنارات، وفي هذا جاء الوعيد الشديد؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: "من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوّقه الله يوم القيامة من سبع أرضين". (وقد خاب من حمل ظلما).
أيها المسلمون: هل من سبيل إلى التوبة من حقوق العباد؟.
الجواب: نعم، فباب التوبة مفتوح للتائبين الصادقين، ومن ذا الذي يحول بين العبد والتوبة والله عز وجل يقول: (إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعا) [الزمر : 53]. لكن التوبة من حقوق العباد أصعب بكثير من تلك الذنوب التي بين العبد وربه وليس للمخلوق فيها حق، ذلك أن حق الله عز وجل مبني على المسامحة، وحق المخلوق مبني على المشاحّة. لذا فإن التوبة من حقوق العباد يُشترَط لها شرط إضافي على شروط التوبة المعروفة ألا وهو: التحلل من أصحاب الحقوق، سواء برد المظالم إلى أهلها أو مسامحة أهل الحقوق لمن ظلمهم وتنازُلهم عن حقوقهم عليهم، ومن هنا تأتي صعوبة التوبة من حقوق العباد ومشقتها. والموفق من جنبه الله تعالى الوقوع في الظلم أصلاً، أما من وقع منه الظلم للعباد في دين أو نفس أو عرض أو مال فإنه يحتاج إلى عزيمة قوية وزهد في الدنيا ورغبة في الآخرة يدفعه إلى رد الحقوق إلى أهلها والتحلل منهم قبل يوم الفصل والقضاء.

اللهم ..
المشاهدات 2910 | التعليقات 0