وفاة النبي-صلى الله عليه وسلم-

عنان عنان
1436/11/12 - 2015/08/27 16:10PM
[size="4"]الخطبة الأولى

عباد الله: إن الموت طريق معهود مسلوك لا بد لكلِّ حيٍّ منه وبابٌ كل الناس داخلُه حيث كتب الله-عز وجل-الموت على كل أحد كما قال سبحانه وتعالى: " كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموتِ وإنما توفون أجورَكم يومَ القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ". ولم يستثنِ الله-عز وجل- من هذا الحكم أحداً من الخلق لا الأنبياءَ ولا غيرَهم
فلم يجعلِ اللهُ الخُلدَ لإحدٍ كما قال الله-عز وجل-: " وما جعلنا لبشرٍ من قبلك الخلدَ أفإن متَّ فهمُ الخالدون ".
فإذا كان هذا الأمر قد أصاب الأنبياء والمرسلين والأولياءَ والمتقين فما لنا عن ذكره مشغولون؟ وعن الإستعداد له متخلفون؟
" قل هو نبأٌ عظيمٌ* أنتم عنه معرضون ". الخلق كلُّهم متساوون في هذا الحكم لا فرقَ بينهم مهما حاول الإنسان البُعدَ عن الموت فلن يستطيعَ دفعَه يقول الله-عز وجل-: " قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ".

وأعظم المصائب التي أُصيبَ بها الإسلامُ والمسلمون هو موت نبينا محمدٍ-صلى الله عليه وسلم- هي تلك المصيبة العظمى والداهية الكبرى يقول عليه-الصلاة والسلام-: " إذا أصاب أحدَكم مصيبةٌ فليذكرْ مصيبتَه بي فإنها من أعظمِ المصائب ". وصدق رسول الله-صلى الله عليه وسلم- لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يُصاب بها المسلمُ بعدَه
إلى يوم القيامة
فبها انقطع الوحي وخُتِمَت النُّبوةُ وكان أولُ ظهور الشرِّ بإرتداد العربِ وغيرِ ذلك

اصبرْ لكلِّ مصيبةٍ وتجلدِ***واعلم بإن المرءَ غيرُ مخلَّدِ
وإذا ذكرت محمداً ومُصابَه***فجعل مُصابَك بالنبيِّ محمدِ.

أيُّ مصيبةٍ أعظمُ بمصيبةٍ من إنقطع بموته وحيُ السماءِ؟ عن أنسٍ قال: قال أبو بكرٍ: بعد وفاةِ النبي-عليه الصلاة والسلام- قال لعمر: انطلقْ بنا إلى أمِّ أيمنَ نزورُها كما كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يزورها قال: فلما انتهينا إليها بكت فقالا لها: ما يُبيكِ؟ فما عند الله خيرٌ لرسوله قالت: إني لأعلم أن ما عند الله خيرٌ لرسوله ولكن أبكي لأن الوحيَ قد انقطع من السماء قالت: فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها.

ومعرفة وفاة النبي-عليه الصلاة والسلام- وما جرى في ذلك لا ينبغي جهلُه لأن في ذلك تصبيراً لأهل المصائب وزيادةَ معرفةٍ بنبينا-عليه الصلاة والسلام- وبسيرته وأنه كالبشر لا تجوز صرف العبادة إليه ولا إلى غيره بل لا تُصرَفُ العبادةُ إلا للحيِّ القيوم الذي لا يموت
كانت وفاته-صلى الله عليه وسلم- في يوم الأثنين اثنتيْ عشرةَ من شهرِ ربيعِ الأول سنةَ احدى عشرةَ من الهجرةِ بإجماعِ أهل العلم إستهلَّت هذه السنة وقد إستقرَّ الرِّكاب الشريفُ النبويُّ بالمدينةِ النبويةِ المطهرةِ مَرْجِعَه من حَجَّةِ الوداعِ
وقد وقعت في هذه السنة أمورٌ عِظامٌ من أعظمها خطْبُ وفاةِ رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ولكنه-عليه الصلاة والسلام- نقله الله-عز وجل-من هذه الدار الفانية إلى النعيم الأبدي في محلةٍ عاليةٍ رفعيةٍ ودرجةٍ في الجنة لا أعلى منها ولا أسنى
كما قال سبحانه: " ولَلْآخرةُ خيرٌ لك من الأولى* ولسوف يُعطيك ربُّك فترضى ". وذلك بعد ما أكمل أداءَ الرِّسالةِ التي أمره الله-تعالى-بإبلاغها ونصح أمُّتَه ودلَّهم على خير ما يعلمه لهم وحذَّرهم ونهاهم عمن فيه مضرَّةٌ عليهم في دنياهم
وآخراهم.

عقد الإمام البخاري-رحمه الله- في صحيحه باباً في الوفاةِ النبويةِ وما جرى في ذلك أورد فيه جُملةً من الأحاديثِ الواردةِ في هذا الباب والتي تصف وفاةَ رسول الله-صلى الله عليه وسلم- كأنَّها تُرى رأيُ العين بدأ-رحمه الله- بذكر آخرِ سورةٍ قرأها النبي-صلى الله عليه وسلم- قالت أمُّ الفضلِ بنتُ الحارثِ-رضي الله عنها- سمعتُ النبي-صلى الله عليه وسلم- يقرأُ في المغربِ بالمرسلاتِ عُرفاً ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله.

ثم أورد ما جاء عن عمر وابنِ عباسٍ-رضي الله عنهم- في تفسير قول الله-تعالى- " إذا جاء نصر الله والفتح ".
قال ابن عباس-رضي الله عنهما-: " أجلُ رسول الله-صلى الله عليه وسلم-أعلمه إياه ". فقال عمر: " ما أعلم منها إلا ما تعلمَ ". ثم ذكر البخاري-رحمه الله- سمَّ اليهود للنبي-صلى الله عليه وسلم- في خيبرَ وأثرَ ذلك في وفاته
فأورد ما جاء عن عائشة-رضي الله عنها- كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يقول في مرضه الذي مات فيه : " يا عائشة ما أزال أجدُ ألمَ الطعام الذي أكلته في خيبر فهذا آوانُ إنقطاعِ أبهُري من ذلك السُّمِّ ". فجمع الله له بين النبوة والشهادة

ثم أورد ما جاء عن ابن عباسٍ-رضي الله عنهما- في وقت بداية شدة وجع النبي-صلى الله عليه وسلم- وأن ذلك كان يومَ الخميسِ قال ابن عباس: " يومُ الخميس وما يومُ الخميس؟ إشتدَّ برسول الله-صلى الله عليه وسلم- وجعُه وكان من شدة وجعه ومرضه لا يخرج إلى الصلاة
فعن أنسٍ-رضي الله عنه- أن المسلمين بيناهم في صلاة الفجر من يوم الأثنينِ وأبو بكرٍ يُصلي لهم لم يفجأهم إلا ورسول الله-صلى الله عليه وسلم-قد كشفَ سِترَ حُجرةِ عائشةَ فنظر إليهم وهم صُفوفٌ ثم تبسَّم يضحكُ فنكص أبو بكرٍ على عقيبه ليصلَ الصَّفَّ وظنَّ أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يريد أن يخرج إلى الصلاة فقال أنس: وهمَّ المسلمون أن يُفتتنوا في صلاتهم فرحاً برسول الله-صلى الله عليه وسلم- فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتَكم ثم دخل الحُجرةَ وأرخى السِترَ ".

ثم ذكر البخاري-رحمه الله- ما جاء عن عائشةَ-رضي الله عنها- في بيانِ اللحظاتِ الآخيرةِ في حياته-عليه الصلاة والسلام- وشدةِ نزول الموت به وعظم سكراته
قالت-رضي الله عنها-: " إن من نعمِ الله عليَّ أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- تُوفِيَ في بيتي وفي يومي وبين سَحْري ونحري وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته ودخل عليَّ عبد الرحمن أخوها وبيده سواكٌ وأنا مسندةٌ رسولَ الله-صلى الله عليه وسلم- فرأيته ينظرُ إليه وعرفت أنه يحبُّ السِّواكَ فقلتُ: آخذه لك؟ فأشارَ برأسه أن نعمْ فتناولته فاشتدَّ عليه فقلتُ:
ألينُه لك؟ فأشارَ برأسه أن نعم فلينته فأمرَّه وبين يديه رِكوةٌ أو عُلبةٌ فيها ماءٌ فجعل يُدخِلُ يديه إلى الماء ويمسح بهما وجهَه
ويقول: لا إلهَ إلا اللهُ إن للموتِ لسكراتٍ ثم نصب يدَه فجعل يقولُ: في الرفيق الأعلى في الرفيق الأعلى حتى قُبضَ ومالتْ يدُه-عليه الصلاة والسلام- وفي هذا فضيلة لعائشة-رضي الله عنها- وفيها حِرصه-عليه الصلاة والسلام- على السُننِ كالسِّواكِ حتى وهو في آخر حياته.

تقول عائشة-رضي الله عنها-: كنت أسمع أنه لا يموت نبيٌّ حتى يُخيرَ بين الدنيا والآخرة فسمعتُ النبي-صلى الله عليه وسلم- يقول في مرضه الذي مات فيه وأخذته بُحةٌ يقول: " مع الذين أنعم اللهُ عليهم " فظننتُ أنه خُيرَ وفي روايةٍ كان يقول: " اللهمَّ اغفرْ لي وارحمني والحقني بالرفيقِ الأعلى ".
عن أنسٍ قال: " لما ثَقُلَ النبي-صلى الله عليه وسلم- جعل يتغشَّاه-أي الموت- فقالت فاطمة-رضي الله عنها- " وا كربَ أبتاه فقال لها: ليس على أبيكِ كربٌ بعدَ اليوم فلما ماتَ قالت: يا أبتاه أجاب ربَّاً دعاه يا أبتاه جنةُ الفردوس مأوه يا أبتاه إلى جبريل ننعاه ".

ولما علم أبو بكرٍ-رضي الله عنه- بوفاته-عليه الصلاة والسلام- أقبل على فرسٍ من مسكنه حتى نزل فدخل المسجد
فلم يكلِّمِ النَّاسَ حتى دخل على عائشة فقصد رسولَ الله-صلى الله عليه وسلم- وهو مُغشى بثوبٍ حبرةٍ فكشف عن وجهه ثم أكبَّ عليه فقبله وبكى ثم قال: بأبي أنت وأمي والله لا يجمعُ الله عليك موتتينِ أما الموتة التي كتبت عليك فقد مُتَّها
ثم إن أبا بكرٍ خرج وعمرُ بن الخطاب يُكلِّمُ النَّاسَ فقال: اجلسْ يا عمر فأبى عمر أن يجلس فأقبل الناس إليه وتركوا عمر
فقال أبو بكر: أما بعد فمن كان يعبد محمداً فإنَّ محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت
يقول تعالى: " وما محمدٌ إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلبْ على عقيبهِ فلن يضرَّ اللهَ شيئاً وسيجري اللهُ الشاكرين ". قال ابن عباس: " والله كأنَّ الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الأيةَ حتى تلاها أبو بكرٍ فلتقاها منه الناس كلُّهم فما أسمعُ بشراً من الناس إلا ويتلوها
وقال عمر: " والله ما هو إلا أن سمعتُ أبا بكرٍ تلاها فعقرتُ حتى ما تُقِلُّني رجلاي وأهويتُ إلى الأرض حين سمعته تلاها علمت أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قد مات ".

" الخطبة الثانية "

عباد الله: وبعد أن مات النبي-عليه الصلاة والسلام- غسله أصحابُه-رضي الله عنهم- ولم يجردوه من ثيابه ثم كفنوه في ثلاثة أثوابٍ بيضٍ سَحوليةٍ من اليمن تقول عائشة-رضي الله عنها- كُفِّنَ النبي-صلى الله عليه وسلم- في ثلاثة أثوابٍ بيضٍ سَحوليةٍ ليس فيها قميصٌ ولا عِمامةٌ ثم صلوا عليه فُرادى لا يأمُّوهم أحدٌ بإجماع أهل العلم وهذا خاص برسول الله-صلى الله عليه وسلم- ثم دفنوه يومَ الثلاثاءِ في بيته تحت موضعِ سريره والحدوا له في قبره ونصبوا اللَّبِنَ عليه نصباً
عن عبد الرحمن بن عوفٍ-رضي الله عنه- قال تُوفِيَ رسولُ الله-صلى الله عليه وسلم- يومَ الأثنين ودُفِنَ يومَ الثلاثاءِ
فلما دُفِنَ قالت فاطمة-رضي الله عنها يا أنس : " أطابت أنفسُكم أن تحثوا على رسول الله-صلى الله عليه وسلم-بالتراب "

وبعد دفن النبي-صلى الله عليه وسلم- إشتدَّ على أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- الحُزنُ وأنكروا الدنيا كلَّها
يقول أنس: " لما كان اليومُ الذي دخل فيه النبي-صلى الله عليه وسلم- المدينةَ أضاء كُلَّ شيءٍ فلما كان اليومُ الذي مات فيه أظلم منها كُلَّ شيء وما نفضنا أيديَنا من التراب وإن في دفنه حتى أنكرنا قلوبَنا ".
وكان من آخر وصاياه-عليه الصلاة والسلام- عند موته ما جاء عن عائشةَ وعبد الله بن عباسٍ-رضي الله عنهم- قالاً: " لما نزلا برسول الله-صلى الله عليه وسلم-طفقا يطرح خميصةً له على وجهه فإذا إغتمَّ كشفها عن وجهه وهو كذلك
يقول: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبورَ أنبياهم مساجدَ يحذر ما صنعوا
عن عليٍ قال: " كان آخر كلام النبي-صلى الله عليه وسلم-الصلاةَ الصلاةَ اتقوا في ما ملكت أيمانكم ".

عباد الله: إن على المسلم أن يحرص على سنن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ويقدم محبة النبي-صلى الله عليه وسلم-
على نفسه وولده ووالديه والناس أجمعين
قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه وولده ووالديه والناسِ أجمعين ".
ونحن نشهدك يا الله أننا نحبك ونحب رسولك أكثر من أنفسنا وأولادنا وأزواجنا ووالدينا والناس أجمعين.

وصلِّ اللهمَّ وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.


[/size]
المشاهدات 1609 | التعليقات 0