وعظ الأنام في ختام العام ( منقول بتصرف)
عوض آل دبيس
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها المسلمون: اتقوا الله فإن تقواه عليها المعوَّل، وعليكم بما كان عليه سلف الأمة والصدر الأول، واشكروه على ما أولاكم من الإنعام وطوَّل، وقصروا الأمل، واستعدوا لبغتة الأجل، فما أطال عبدٌ الأمل إلا أساء العمل،(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)الحشر:18
أيها المسلمون: بعد أيام قلائل تنخرم أوقات العام، وتتصرم منه الليالي والأيام، وتقوض أطناب الخيام، ويخسر كل واحد منا عاما كاملا من رصيد العمر الذي لا يعلم كم بقي منه إلا الله وحده: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت عام كامل يمر بنا كمر السحاب، أفراح وأتراح ، وصحة وأسقام، وسعادة وأحزان، وعرس وعزاء، وليل ونهار وبرد وحر، ورياح وسكون، وسفر وإقامة، وذنوب ، عام كامل ونحن نسير إلى القبور في الليل والنهار في اليقظة والمنام، نضيفها إلى مسير السنين الماضية، وحري بمسافر لا يقف لحظة أن يصل إلى مقصوده،
إن الشهور والأعوام، والليالي والأيام مواقيت الأعمال ومقادير الآجال، تنقضي جميعاً وتمضي سريعاً، والليل والنهار يتعاقبان لا يفتران، ومطيَّتان تقربان كل بعيد، وتبنيان كل جديد، وتجيآن بكل موعود إلى يوم القيامة، والسعيد لا يركن إلى الخُدَع، ولا يغترُّ بالطمع، فكم من مستقبِل يوماً لا يستكمله، وكم من مؤَمِّلٍ لغدٍ لا يدركه، (وَلَن يُؤَخّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
أيها المسلمون: أزف رحيل هذا العام وتصرمت أيامه ،وتفرقت أوصاله، وقد حوى بين جنبيه حكماً وعبراً، وأحداثاً وعظات، فلا إله إلا الله، كم شقي فيه من أناس، وكم سعد فيه من آخرين ؟ كم طفل قد تيتم، وكم من امرأة قد ترملت، وكم من متأهل قد تأيم؟ مريض قوم قد تعافى، وسليم قوم في التراب قد توارى، أهل بيت يشيعون ميتهم، وآخرون يزفون عروسهم، دار تفرح بمولود، وأخرى تعزى بمفقود، عناق وعبرات من شوق اللقاء، وعبرات تهلّ من لوعة الفراق، وآلام تنقلب أفراحاً، وأفراح تنقلب أتراحاً، أحد يتمنى دوام يومه ليتلذذ بفرحه وغبطته وسروره .
أيام تمر على أصحابها كالأعوام ،وأعوام تمر على أصحابها كالأيام . هذا عام من أعماركم بعد أيام تتصرم أيامه، إيذانا بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وأن ما بعدها دارٌ إلا الجنة أو النار، فاحذروا الدنيا ومكائدها، فكم غرّت من مُخلِد فيها، وصرعت من مكبّ عليها، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)).وكان ابن عمر يقول: ((إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك))
عباد الله: ذهب عامكم شاهداً لكم أو عليكم، فاحتطبوا زاداً كافياً، وأعدوا جواباً شافياً، واستكثروا في أعماركم من الحسنات، وتداركوا ما مضى من الهفوات، وبادروا فرصة الأوقات، قبل أن ينادي بكم منادي الشتات، ويفجأكم هادم اللذات، فالعمر قليل والأجل قريب ، ومهما طال الأمد فلكل أجل كتاب فعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يعظ رجلاً ويقول له: ((اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)) قيل لنوح عليه السلام ،وقد لبث مع قومه ألف سنة إلا خمسين عاما: كيف رأيت هذه الدنيا؟فقال :كداخل من باب وخارج من آخر
فيا من قد بقي من عمره القليل، ولا يدري متى يقع الرحيل، ويا من أقعده الحرمان وأركسه العصيان، كم ضيّعت من أعوام، وقضيتها في اللهو والمنام، كم أغلقت باباً على قبيح، وكم أعرضت عن قول النصيح، كم من حقوق أضعتها، ومناهي أتيتها، وشرور نشرتها، ونظرة أصبتها أنسيت ساعة الاحتضار؟! حين يثقل منك اللسان، وترتخي اليدان، وتشخصُ العينان، ويبكي عليك الأهل والجيران، أنسيت ما يحصل للمحتضر حال نزع روحه؟! حين يشتد كربه، ويظهر أنينه، ويتغيّر لونه، ويعرق جبينه،
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة، كان بين يديه ركوة فيها ماء، فجعل يُدخل يده في الماء، فيمسح بها وجهه ويقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)) رواه البخاري.
ياعباد الله:أين من عاشرناه كثيراً وألفنا، أين من مِلنا إليه بالوداد وانعطفنا، كم عزيز دفنّاه وانصرفنا، كم قريب أضجعناه في اللحد وما وقفنا فهل رحم الموت منا مريضاً لضعف حاله وأوصاله؟! هل ترك كاسباً لأجل أطفاله؟! هل أمهل ذا عيال من أجل عياله؟! أين من كانوا معنا في الأعوام الماضية؟
أتاهم هادم اللذات، وقاطع الشهوات، ومفرّق الجماعات، فأخلى منهم المجالس والمساجد، تراهم في بطون الألحاد صرعى، لا يجدون لما هم فيه دفعاً، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ينتظرون يوماً الأمم فيه إلى ربها تُدعى، والخلائق تُحشر إلى الموقف وتسعى، والفرائص ترعُد من هول ذلك اليوم والعيون تذرف دمعاً، والقلوب تتصدع من الحساب صدعاً
فيا من تمرّ عليه سنة بعد سنة، وهو في نوم الغفلة والسِنة، يا من يأتي عليه عام بعد عام، وقد غرق في بحر الخطايا وهام، قل لي بربك لأي يوم أخرت توبتك؟! ولأي عام ادخرت أوبتك؟ إلى عام قابل، وحول حائل؟! فما إليك مدة الأعمار، ولا معرفة المقدار فبادر التوبة واحذر التسويف، وأصلح من قلبك ما فسد، وكن من أجلك على رصد، وتعاهد عمرك بتحصيل العُدد، فقد أزف الرحيل وقرب التحويل، والعمر أمانة، سيُسأل عنه المرء يوم القيامة، فأين الاستعداد ليوم تدنو فيه منكم الشمس؟!
فتوبوا إلى ربكم ياعباد الله قبل أن يشتمل الهدم على البناء، والكدر على الصفاء، وينقطع من الحياة حبل الرجاء، وليحاسب كل واحد منكم نفسه، فقد سعد من لاحظها وحاسبها، وفاز من تابعها وعاتبها. وهلموا إلى دار لا يموت سكانها، ولا يخرب بنيانها، ولا يهرم شبابها، ولا يتغير حُسنها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه)) أخرجه مسلم. اللهم إنا نسألك الجنة ونعيمها ونعوذ بك من النار وجحيمها
بارك الله لي ولكم
الخطبة الثانية
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ على كل حال وفي كل مكان، أمركم بذلكم ربكم فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)آل عمران:102. أيها المسلمون، إن الأيام تُطوى، والأعمار تَفنى، والأبدان تَبلى، والسعيد من طال عمره وحسن عمله، والشقي من طال عمره وساء عمله، فعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، أي الناس خير؟قال : ((من طال عمره وحسن عمله))، قال: فأي الناس شر؟ قال: ((من طال عمره وساء عمله)) فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل، والأعمال بالخواتيم، والمرء يموت على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه. فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يُبعث كل عبد على ما مات عليه)) أخرجه مسلم.
فيا عبد الله: هلاّ عاهدت الله ونحن نودع عاما كاملا على أن يكون حالك في العام المقبل أجدى وأنفع حتى تأتي في مثل هذا اليوم حين الحصاد ونهاية العام لتجد صحائفك أبهى وأجمل. فهذا باب التوبة مفتوح، وقوافل التائبين تغدو وتروح، فالبدار البدار إلى توبة نصوح، قبل الممات والفوات،(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)) أخرجه مسلم.
فأحسن فيما بقي، يُغفر لك ما مضى، فإن أسأت فيما بقي، أُخذت بما مضى وبما بقي. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِير)
صلوا وسلموا
المرفقات
1658457433_وعظ الأنام في ختام العام 23-12-1443هـ.docx