وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثير (تناسب واقعنا)

خالد الشايع
1439/08/04 - 2018/04/20 00:05AM

الخطبة الأولى ( وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا )   4/8/1439

أما بعد فيا أيها الناس :  إن الله سبحانه اختص بعلم الغيب ، فلا يعلم أحد مافي الغد إلا الله ، كما قال سبحانه ( قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله ) ، والبشر أجمع لا يعلمون إلا الظواهر ، وعليها يقيسون مصالحهم ومضارهم ، وقد يقايس العبد ويتجه نحو مافيه العطب له وهو لا يشعر لأنه لا يعلم ما في الغيب ، ولهذا بين الله لنا هذا الأمر في آيات من كتابه ، ليتعلق المسلم بربه ولا يعتمد على نفسه فقال سبحانه ( وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )

فمن خلال هذه الآية يتبين للمرء أنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، وأن الأمر بيد الله ، فكان لزاما على العبد أن يتعلق بربه ولا يعتمد على نفسه الضعيفة التي لا تعلم شيئا .

أيها المؤمنون : نحن في هذه الحياة نسير على قدر الله ، الذي خطه لنا بعلمه الأزلي سبحانه ، وهو جل وعلا لطيف بعباده ، يقدر لهم الخير ، ويصرف عنهم الشر ، بقدر تعلقهم به ، وتوكلهم عليه ، والدنيا مليئة بالمحن والبلايا ، والشرور والفساد ، والمسلم مطلوب منه أن يعمل جهده في تلك الأمور حسب طاقته ، وكما أمر ، ويعلم أن لله حكمة في تقدير الأمور ، ولو كانت الأمور في ظاهرها تنبؤ بالشر والفساد ، ففي ثنايا المحنة تخرج المنحة ، وكم قصة وقعة وحادثة مرت على العبد تبين له معنى هذه الآية فيها جليا .

عباد الله : نحن نعيش هذه الأيام في صراع بين الحق والباطل ، ويواجه المجتمع تحولات قوية في خُلُقِه ، ويواجه العلماءُ والدعاة والمربون والأولياء هجماتٍ شرسةً على الفضيلة ، حتى أحبط في أيدي بعضهم ، وهنا تأتي هذه الآية ( وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) فالعبد يعمل بما أمر ، ويثق بالله أنه ناصرُ لدينه ، معزٌ لأوليائه ، كما قال سبحانه ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم )

ففي هذه الآية يأمر سبحانه عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم ، ومخبرا لهم أنه من أصلح أمره لا يضره فسادُ من فسد من الناس ، سواء كان قريبا منه أو بعيدا
قال ابن عباس عند تفسير هذه الآية : يقول تعالى : إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته به من الحلال والحرام فلا يضره من ضل بعده ، إذا عمل بما أمرته به .
وليس في الآية مستدل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذا كان فعل ذلك ممكنا ، وقد روى الإمام أحمد رحمه الله في مسنده من حديث  قيس قال : قام أبو بكر ، - رضي الله عنه - ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أيها الناس ، إنكم تقرؤون هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) إلى آخر الآية ، وإنكم تضعونها على غير موضعها ، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك الله ، عز وجل ، أن يعمهم بعقابه " .  وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة .

وروى أبو عيسى الترمذي في سننه من حديث  أبي أمية الشعباني قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له : كيف تصنع في هذه الآية؟ فقال : أية آية؟ قلت : قوله [ تعالى ] ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) فقال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " بل ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ، ودع العوام ، فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم " -  قيل يا رسول الله ، أجر خمسين رجلا منهم أو منا؟ قال : " بل أجر خمسين منكم " .
 عباد الله : إن المسلم مأمور بالعمل بما أمر ، وأن يدعو إلى الخير وينهى عن المنكر ، ولا يلتفت لكثرة الفساد فإنه لا يضره ، طالما أنه على الخير منكرا للشر ، فيصبر على ذلك حتى يعلي الله أمره ، وينصر حزبه ، ويهلك الظالمين .

اللهم أصلح فساد قلوبنا ، وانصرنا  على عدونا يارب العالمين

                                        الخطبة الثانية

أما بعد فيا أيها الناس : إن الحوادث التي تقع أمامنا في كل بلد وقطر ، توضح لنا معنى قوله تعالى ( وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) ولعلنا نمر على بعض منها :  ـ قصة إلقاء أم موسى لولدها في البحر ، ظاهر القصة الشر المحض ، فإلقاء موسى في البحر معناه الهلاك المتحقق ، ولولا أن الله ربط على قلبها لما ألقته ، فلم تكن تعلم ماذا ينطوى وراء ذلك الإلقاء من الخير للأمة في زمنها ، ألتقطه آل فرعون الذين إن وجدوه سيقتلونها ، وكأنه تحد من الله لهم ، فألقى الله محبة عليه ، فكل من رآه أحبه وتعلق قلبه به ، كما قال سبحانه ( وألقيت عليك محبة مني ) فعاش وتربى في قصر فرعون الذي أراد قتله ، فعندئذ يتضح لنا معنى قوله ( وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا)
  وصدق ربنا: ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )

  وتأمل في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام تجد أن هذه الآية منطبقةٌ تمام الانطباق على ما جرى ليوسف وأبيه يعقوب عليهما الصلاة والسلام.

فقد قدر الله على يوسف الإلقاء في الجب وأن يباع كالعبد ، ويسجن ، ثم يرى الملك تلك الرؤيا ، التي أخرجت يوسف وأنقذ الله الناس ببركة يوسف ، وكيف رد الله والدي يوسف له وأخواته ، مقرين بفضله ومكانته ،  وصدق الله ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون

 و تأملوا في قصة الغلام الذي قتله الخضر بأمر الله تعالى، فإنه علل قتله بقوله: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف: 80، 81]!
إذا رزقت بالولد ، ذكرا أو أنثى ، فالله هو المقدر للخير لك ، وهو أعلم بما ينفعك وما يضرك ، فلا تكره الذكر أو الانثى بل احمد الله على العطية وقل الخيرة فيما اختار الله ، وحتى لو لم ترزق بذرية و كنت عقيما ، فاحمد الله ، وقل وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ، وكما قال سبحانه (ِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ(49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ )

 ـ وفي الصحيحين  لما مات زوج أم سلمة: أبو سلمة رضي الله عنهم جميعاً، تقول أم سلمة رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها. إلا أخلف الله له خيرا منها».
قالت: فلما مات أبو سلمة، قلت: أي المسلمين خير من أبى سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه؟ ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه!

وانظر للصحابة في صلح الحديبية كيف عارضوا الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يرون الصواب معهم ، حتى تبين لهم بعد ذلك أن الخير كل الخير في ما اختاره الله لهم .

ـ وفي الواقع قصص كثيرة جداً، رجل فاتته الطائرة لما نام في المطار ولم يشعر،  فلما أفاق إذا بالطائرة قد أقلعت قبل قليل، وفاتته الرحلة، فضاق صدره، وندم ندماً شديداً، ولم تمض دقائق على هذه الحال التي هو عليها حتى أعلن عن سقوط الطائرة، واحتراق من فيها بالكامل!
عندها علم هذا الرجل معنى قوله ( وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا )

معاشر المسلمين : عندما ترون الدين يحارب ، والفضيلة تنتهك ، وصوت الباطل يعلوا فلا يصيبكم اليأس ، فالله غالب أمره ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون ، وكذا إذا رأيتم أهل الباطل ينتصرون في الشام ، وفي العراق ، وفي كل صقع يذل فيه المسلمون ، ويسجنون ، فقولوا لله الأمر ،  ولو شاء ربك مافعلوه ، ولكن له سبحانه حكمة ، سيظهر وجهها بعد حين .

اللهم أرنا الحق حقا ....

المشاهدات 1764 | التعليقات 0