وعد الله بالاستخلاف .. ومأساة حلب
أسامة محمد موسى
1438/03/16 - 2016/12/15 09:50AM
الوعد بالاستخلاف في الأرض (مأساة حلب)
أيها الإخوة الأخيار..
"أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حقٍ إلا أن يقولوا ربنا الله" .. لا يزال شلالُ الدمِ في الشامِ عموماً وفي حلب خصوصاً ينزفُ يوماً بعد يوم ويكشفُ حجم الضعف والتخاذل الذي وصلت إليه الأمة، ولا يزالُ إخواننا وأهلنا يهجّرون في هذا البردِ القارس ينامونَ على الحصارِ والضيم، وإن استيقظوا يستيقظون على الدمار والدماء والأشلاء .. فيهرعُ الناسً في الشوارعِ حائرين لا يدرون أين يذهبون؟ ولا أين يلجأون؟
إن الفاجعةَ التي تمرّ بالمسلمين في هذه الأيام بحلبَ والشام لتشبه الفواجعَ زمن غزو التتارِ لهم حينما أعانهم واليها النصيري آنذاك وأغراهم بالدخول إليها حتى دخلوا وفعلوا فيها الفظائع والجرائم حتى أنشأوا برجاً من جماجم القتلى من أهل السُّنّة وها هو التاريخُ يعيدُ نفسه .. فالنصيريون أدخلوا الروس والفرسَ والصليبيين قاتلهم الله أنى يؤفكون .. أرذل الأمم وشرُّ الملل والنِحل سلطهم الله علينا بعد أن كانوا عبيداً أذلاء
إِنِّي تَذَكَّرْتُ وَالذِّكْرَى مُؤَرِّقَةٌ .... مَجْدًا تَلِيدًا بِأَيْدِينَا أَضَعْنَاه
وَيْحَ الْعُرُوبَةِ كَانَ الْكَوْنُ مَسْرَحَهَا .... فَأَصْبَحَتْ تَتَوَارَى في زَوَايَاهُ
أَنَّى اتَّجَهْتَ إِلَى الإِسْلاَمِ في بَلَدٍ .... تَجِدْهُ كَالطَّيْرِ مَقْصُوصًا جَنَاحَاه
كَمْ صَرَّفَتْنَا يَدٌ كُنَّا نُصَرِّفُهَا .... وَبَاتَ يَحْكُمُنَا شَعْبٌ مَلَكْنَاهُ
عبادَ الله .. إن المخرجَ من أزماتِ المسلمين في هذا الزمان وفي كل زمان لن تكونَ إلا باتباع الهدي النبوي المؤيد من الله في حال الأزمات .. فها هو المصطفى ﷺ يصبّر صحابتَه رضوان الله عليهم وهم في أضيق الأحوال، يطاردون في كل فجاجِ مكة، ويعذّبون بأبشع الطرق، ولا يستطيعُ الواحدُ منهم أن ينقذ أخاه مما هو فيه، ويسمعون الاستهزاء بنبيهم والادعاء بأنه ساحر ومجنون وصابئ ولا يستطيعون دفع هذا الأذى ولم يؤمروا بالقتال بعد، وفي هذه الأحوال العصيبة يصبّرهم على ما هُم فيه، ويعدُهم بالنصر والتمكين، فيأتيه خبابُ بن الأرتّ رضي الله عنه ورسول الله متوسدٌ بردةً له في ظلّ الكعبة فيقول له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فيجيبه رسول الله فيقول: "قد كان مَن قبلكم، يؤخذ الرجلُ فيحفرُ له في الأرضِ، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشارِ فيوضع على رأسِه فيجعلُ نصفين، ويمشط بأمشاطِ الحديدِ ما دون لحمه وعظمه، فما يصدُّه ذلك عن دينه، واللهِ لَيُتمَّنَّ هذا الأمرَ، حتى يسير الراكبُ من صنعاءَ إلى حضرمَوت، لا يخاف إلا اللهَ، والذئبَ على غنمِه، ولكنكم تستعجِلون" لا تستعجلوا النصرَ يا عبادَ الله فهو آتٍ لا محالة بإذن الله .. نبيُّكم ﷺ أوذي كثيراً من المشركين في مكة نحواً من عشر سنين، وتمت مطاردته حتى اختبأ في الغار ووصل إليه المشركون ومع ذلك لم يتزعزع يقينُه بالله فلم يخيّبه الله .. يقول له أبو بكر رضي الله عنه: يا نبي الله لو أن أحدهم طأطأ بصره لرآنا! فيرد عليه المصطفى في تلك الحالِ الصعبة: "ما ظنُّك باثنين .. الله ثالثهما"؟ "إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا" حتى بعدَ أن هاجرَ إلى المدينة المنورة لم يكفّ صناديدُ قريشٍ عن ملاحقتهم وإيذائهم والتعرّض لهم، وصاروا يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح ولبثوا على ذلك ما شاء الله حتى إن رجلا من أصحابه قال : يا رسول الله ، أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا فيه السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لن تغبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليست فيهم حديدة " وأنزل الله عزّ وجل تلك الآية العظيمة التي فيها الوعدُ بالاستخلاف بعد تحقيق شرط ذلك الوعد ..
تدبروا معي قول الله: "وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"
أسمعتم –أيها الأحبة-؟ وعدٌ من الله "ومن أصدقُ من الله قيلا"؟ لكنه وعَدَ مَنْ؟ الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فإيمانٌ بلا عمل لا ينفعُ صاحبه، من يريدُ النصر من الله، مهما حزِن ومهما فعل ومهما تظاهر بالغضب فإن ذلك لن ينفعه الإيمانُ مرتبطٌ بالعمل بأداء الأركان والواجبات يليه وعدٌ من الله بالاستخلاف في الأرض وتمكين هذا الدين وتبديل الخوفِ بالأمن، بشرطِ ماذا؟ "يعبدونني لا يشركونَ بي شيئاً" عبادةُ الله الخالصة له .. هل حققنا نحنُ هذا الشرط؟ هل عبدنا الله وحدَه حينما نلجأ إلى الدجالين والأولياء المزعومين؟ وهل عبدنا الله وحده حينما تتعلّق قلوبنا بما يسمى بالدول العظمى لحل قضايانا الإسلامية؟ وهل عبدنا الله وحده حينما نوالي أعداءَ الله ونعادي أولياء الله؟ فلنوفِ بعهدِ الله ليحقق اللهُ لنا وعدَه "وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم" ولذلك قال الله بعد تلك الآية التي فيها الوعد بالاستخلاف: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون" تعاهدوا صلاتَكم يا أمة محمد التي تريد النصر من عند الله .. أدوا زكواتكم .. أطيعوا نبيّكم فيما أمر واجتنبوا نواهيه فيما نهى وزجر .. لعلكم ترحمون، لعلّ رحمةَ الله تغشى إخواناً لنا مهجّرين مطاردين في حلب، لعلّ رحمةَ الله تحلّ بإخواننا في العراق الجريح، لعلّ رحمة الله تتنزّل على إخواننا المظلومين بأبشع أنواع الظلم والإبادة في بورما، لعلّ رحمةَ الله تؤيد إخواناً لنا في غزة وترفعُ الاحتلال والاضطهاد عن أحبةٍ لنا في فلسطين.
عبادَ الله .. إن الله قد أوفى بعهده مع نبيّه، ومع أصحاب نبيّه، بعد أن كانوا مطاردين مهجّرين لا يأمنون على أنفسهم فعندما حققوا شرط العبودية لله وحده، لم يمت رسول الله ﷺحتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين ، وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها . وأخذ الجزية من مجوس هجر ، ومن بعض أطراف الشام ، وهادنه هرقل ملك الروم وصاحب مصر والإسكندرية - وهو المقوقس - وملوك عُمان والنجاشي ملك الحبشة ، الذي تملك بعد أصحمة ، رحمه الله
ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة ، قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق ، فأطد جزيرة العرب ومهدها ، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس بقيادة خالد بن الوليد ، رضي الله عنه ، ففتحوا طرفا منها، وجيشا آخر بقيادة أبي عبيدة ، رضي الله عنه ، ومن معه من الأمراء إلى أرض الشام ففتح الله لهم بصرى ودمشق وبلاد حوران وما والاها، وثالثاً بقيادة عمرو بن العاص ، رضي الله عنه ، إلى بلاد مصر، وتوفاه الله عز وجل، واختار له ما عنده من الكرامة. ومنّ على الإسلام وأهله بأن ألهم الصديق أن استخلف عمر الفاروق ، فقام في الأمر بعده قياماً تاماً ، لم يجرِ الأمرُ بعد الأنبياء -عليهم السلام- على مثله ، في قوة سيرته وكمال عدله . وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها ، وديار مصر إلى آخرها ، وأكثر إقليم فارس ، وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان ، وتقهقر إلى أقصى مملكته ، وقصر قيصر ، وانتزع يده عن بلاد الشام فانحاز إلى قسطنطينة ، وأنفق أموالهما في سبيل الله ، كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله ، عليه من ربه أتم سلامٍ وأزكى صلاة.
ثم في عهد الحيي عثمان رضي الله عنه امتدت المماليك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها ، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك : الأندلس ، وقبرص ، وبلاد القيروان ، وبلاد سبتة مما يلي البحر المحيط ، ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين ، وقتل كسرى ، وباد ملكه بالكلية. وفتحت مدائن العراق ، وخراسان ، والأهواز ، وقَتَل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا ، وخذل الله مَلِكَهم الأعظم خاقان ، وجُبي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه . أتدرون ببركة ماذا؟ قال العلماء: وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن..
ألم يعدهم نبيهم الصادق المصدوق ﷺ فقال لهم كما في صحيح مسلم: "إنَّ اللهَ زوى لي الأرضَ . فرأيتُ مشارقَها ومغاربَها . وإنَّ أُمتي سيبلغُ ملكُها ما زُوىَ لي مِنها . وأعطيتُ الكنزينِ الأحمرَ والأبيضَ" لقد وجدوا تلك البشارات واقعاً حياً بعد وفاة نبيهم ﷺ عندما آمنوا بوعوده وامتثلوا أوامره وطبقوا سنن الله الكونية التي لا تتبدل ولا تتغير ..
عندما كان عدي بن حاتم الطائي جالساً عند النبي ﷺ وهو مَلِكٌ في قومه أتى النبيَّ ﷺ رجلٌ يشكو إليه الفاقة والفقر، ثم أتى إليه رجلٌ يشكو قطع السبيل أي قطاع الطرق، يشكون ذلك أمام ملِكٍ لم يدخل في الإسلام بعد، فقال له النبي ﷺ: " يا عدي، هل رأيت الحيرة"؟ قال: قُلْت : لم أرها، وقد أنبئت عليها،(وهي مدينةٌ في جنوب العراق) قال ﷺ : "فإن طالت بك الحياة، لترين الظعينة ترتحل من الحيرة، حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدًا إلا الله - قُلْت فيما بيني وبين نفسي : فأين دعار طيء الذين قد سعروا في البلاد - ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى" . قال فقُلْت : كسرى بن هرمز ؟ قال : "كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة، لترين الرجلُ يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة، يطلب من يقبله فلا يجد أحدًا يقبله منه" صلى الله على الذي لا ينطق عن الهوى، قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنتُ فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم الحياة، لترون ما قال أبو القاسم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقصد أن يُطاف بالذهب والفضة فلا يوجد من يقبلها، وقد حصل هذا في زمن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله ورضي عنه..
نسأل الله أن يعزّ الإسلام والمسلمين، وأن يريَنا الإسلامَ عزيزاً بقوته ومنّه
الخطبة الثانية:
أما بعد: معاشرَ المؤمنين، إننا قد ذكرنا وعدَ الله لنا بالاستخلاف وذكرنا المبشّرات التي بشّر بها نبيّه ﷺ ووقعت حين استضاءت الأمةُ بنور الوحيين لا لنركنَ إلى الدعةِ ونزيد في التخاذل .. إنما لنتفاءل في عاقبة هذا الدين ولنحقق شرطَ ذلك الوعد وهو العبودية الخالصةُ لله جل في علاه، وأن نبرأ من الثقة إلا في الله، ومن التوكل إلا على الله، ومن التسليم إلا لله، ومن الإنابة إلا لله، ومن الرجاء إلا ما في يدي الله، فشعارُنا حقيقةً لا قولاً "إن صلاتي ونسُكي ومحيايَ ومماتي لله رب العالمين" احرص على أن تكون ممن أقام شرعَ الله على نفسه ومن يعولُ من أهلِ بيتِه، لأن سنن الله الكونية لا تحابي أحداً "إن الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفُسهم" كثرةُ الصراخِ والعويل لن تأتي بالنصر، أقِم شرعَ الله على نفسِك وانصره في نفسِك لتلحق بركبِ عبادِ الله المؤيدين بنصر الله، أوقفِ الآن تعاملَك بالربا لنصر دين الله، حافظ الآن على الصلاةِ نصرةً لشعيرةِ الله، علّم أبناءك القرآن حفظاً وتلاوةً وتدبّراً نصرةً لكلامِ الله، وهكذا في كل شؤونك ..
إننا أمةَ الإسلام لم يأمرْنا الله تبارك وتعالى بامتلاك أسلحةٍ تفوق أسلحةَ العدو، إنما أمرَنا بدايةً أن ننصرَ الله في نفوسنا، ونقيمَ شرع الله فيما بيننا ثم نعدّ ما نستطيعُه من القوة وتكفّل لنا بالنصرِ المحقق، وهذا لا يكون إلا لأمةِ الإسلام .. فعلى الأمة أن تستيقظ من سُباتِها، فدينُها عظيمٌ يستحقّ التضحية وبذل الأرواح والأموال في سبيل نصرته.. ووالله لن ينصرَنا إلا الله "وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم"
أسأل الله جلّ في علاه أن يُنعم على إخواننا في حلب بالنصر والظفر، اللهم بدّل خوفهم أمنا، اللهم بدّل خوفهم أمناً، وذلّهم عزا، وحصارهم تحريرا، وبردهم دفئاً وسلاماً يا رب العالمين..
اللهم أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، وأنزل عليهم النصر والثبات ..
أيها الإخوة الأخيار..
"أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حقٍ إلا أن يقولوا ربنا الله" .. لا يزال شلالُ الدمِ في الشامِ عموماً وفي حلب خصوصاً ينزفُ يوماً بعد يوم ويكشفُ حجم الضعف والتخاذل الذي وصلت إليه الأمة، ولا يزالُ إخواننا وأهلنا يهجّرون في هذا البردِ القارس ينامونَ على الحصارِ والضيم، وإن استيقظوا يستيقظون على الدمار والدماء والأشلاء .. فيهرعُ الناسً في الشوارعِ حائرين لا يدرون أين يذهبون؟ ولا أين يلجأون؟
إن الفاجعةَ التي تمرّ بالمسلمين في هذه الأيام بحلبَ والشام لتشبه الفواجعَ زمن غزو التتارِ لهم حينما أعانهم واليها النصيري آنذاك وأغراهم بالدخول إليها حتى دخلوا وفعلوا فيها الفظائع والجرائم حتى أنشأوا برجاً من جماجم القتلى من أهل السُّنّة وها هو التاريخُ يعيدُ نفسه .. فالنصيريون أدخلوا الروس والفرسَ والصليبيين قاتلهم الله أنى يؤفكون .. أرذل الأمم وشرُّ الملل والنِحل سلطهم الله علينا بعد أن كانوا عبيداً أذلاء
إِنِّي تَذَكَّرْتُ وَالذِّكْرَى مُؤَرِّقَةٌ .... مَجْدًا تَلِيدًا بِأَيْدِينَا أَضَعْنَاه
وَيْحَ الْعُرُوبَةِ كَانَ الْكَوْنُ مَسْرَحَهَا .... فَأَصْبَحَتْ تَتَوَارَى في زَوَايَاهُ
أَنَّى اتَّجَهْتَ إِلَى الإِسْلاَمِ في بَلَدٍ .... تَجِدْهُ كَالطَّيْرِ مَقْصُوصًا جَنَاحَاه
كَمْ صَرَّفَتْنَا يَدٌ كُنَّا نُصَرِّفُهَا .... وَبَاتَ يَحْكُمُنَا شَعْبٌ مَلَكْنَاهُ
عبادَ الله .. إن المخرجَ من أزماتِ المسلمين في هذا الزمان وفي كل زمان لن تكونَ إلا باتباع الهدي النبوي المؤيد من الله في حال الأزمات .. فها هو المصطفى ﷺ يصبّر صحابتَه رضوان الله عليهم وهم في أضيق الأحوال، يطاردون في كل فجاجِ مكة، ويعذّبون بأبشع الطرق، ولا يستطيعُ الواحدُ منهم أن ينقذ أخاه مما هو فيه، ويسمعون الاستهزاء بنبيهم والادعاء بأنه ساحر ومجنون وصابئ ولا يستطيعون دفع هذا الأذى ولم يؤمروا بالقتال بعد، وفي هذه الأحوال العصيبة يصبّرهم على ما هُم فيه، ويعدُهم بالنصر والتمكين، فيأتيه خبابُ بن الأرتّ رضي الله عنه ورسول الله متوسدٌ بردةً له في ظلّ الكعبة فيقول له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فيجيبه رسول الله فيقول: "قد كان مَن قبلكم، يؤخذ الرجلُ فيحفرُ له في الأرضِ، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشارِ فيوضع على رأسِه فيجعلُ نصفين، ويمشط بأمشاطِ الحديدِ ما دون لحمه وعظمه، فما يصدُّه ذلك عن دينه، واللهِ لَيُتمَّنَّ هذا الأمرَ، حتى يسير الراكبُ من صنعاءَ إلى حضرمَوت، لا يخاف إلا اللهَ، والذئبَ على غنمِه، ولكنكم تستعجِلون" لا تستعجلوا النصرَ يا عبادَ الله فهو آتٍ لا محالة بإذن الله .. نبيُّكم ﷺ أوذي كثيراً من المشركين في مكة نحواً من عشر سنين، وتمت مطاردته حتى اختبأ في الغار ووصل إليه المشركون ومع ذلك لم يتزعزع يقينُه بالله فلم يخيّبه الله .. يقول له أبو بكر رضي الله عنه: يا نبي الله لو أن أحدهم طأطأ بصره لرآنا! فيرد عليه المصطفى في تلك الحالِ الصعبة: "ما ظنُّك باثنين .. الله ثالثهما"؟ "إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا" حتى بعدَ أن هاجرَ إلى المدينة المنورة لم يكفّ صناديدُ قريشٍ عن ملاحقتهم وإيذائهم والتعرّض لهم، وصاروا يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح ولبثوا على ذلك ما شاء الله حتى إن رجلا من أصحابه قال : يا رسول الله ، أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا فيه السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لن تغبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليست فيهم حديدة " وأنزل الله عزّ وجل تلك الآية العظيمة التي فيها الوعدُ بالاستخلاف بعد تحقيق شرط ذلك الوعد ..
تدبروا معي قول الله: "وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"
أسمعتم –أيها الأحبة-؟ وعدٌ من الله "ومن أصدقُ من الله قيلا"؟ لكنه وعَدَ مَنْ؟ الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فإيمانٌ بلا عمل لا ينفعُ صاحبه، من يريدُ النصر من الله، مهما حزِن ومهما فعل ومهما تظاهر بالغضب فإن ذلك لن ينفعه الإيمانُ مرتبطٌ بالعمل بأداء الأركان والواجبات يليه وعدٌ من الله بالاستخلاف في الأرض وتمكين هذا الدين وتبديل الخوفِ بالأمن، بشرطِ ماذا؟ "يعبدونني لا يشركونَ بي شيئاً" عبادةُ الله الخالصة له .. هل حققنا نحنُ هذا الشرط؟ هل عبدنا الله وحدَه حينما نلجأ إلى الدجالين والأولياء المزعومين؟ وهل عبدنا الله وحده حينما تتعلّق قلوبنا بما يسمى بالدول العظمى لحل قضايانا الإسلامية؟ وهل عبدنا الله وحده حينما نوالي أعداءَ الله ونعادي أولياء الله؟ فلنوفِ بعهدِ الله ليحقق اللهُ لنا وعدَه "وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم" ولذلك قال الله بعد تلك الآية التي فيها الوعد بالاستخلاف: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون" تعاهدوا صلاتَكم يا أمة محمد التي تريد النصر من عند الله .. أدوا زكواتكم .. أطيعوا نبيّكم فيما أمر واجتنبوا نواهيه فيما نهى وزجر .. لعلكم ترحمون، لعلّ رحمةَ الله تغشى إخواناً لنا مهجّرين مطاردين في حلب، لعلّ رحمةَ الله تحلّ بإخواننا في العراق الجريح، لعلّ رحمة الله تتنزّل على إخواننا المظلومين بأبشع أنواع الظلم والإبادة في بورما، لعلّ رحمةَ الله تؤيد إخواناً لنا في غزة وترفعُ الاحتلال والاضطهاد عن أحبةٍ لنا في فلسطين.
عبادَ الله .. إن الله قد أوفى بعهده مع نبيّه، ومع أصحاب نبيّه، بعد أن كانوا مطاردين مهجّرين لا يأمنون على أنفسهم فعندما حققوا شرط العبودية لله وحده، لم يمت رسول الله ﷺحتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين ، وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها . وأخذ الجزية من مجوس هجر ، ومن بعض أطراف الشام ، وهادنه هرقل ملك الروم وصاحب مصر والإسكندرية - وهو المقوقس - وملوك عُمان والنجاشي ملك الحبشة ، الذي تملك بعد أصحمة ، رحمه الله
ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة ، قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق ، فأطد جزيرة العرب ومهدها ، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس بقيادة خالد بن الوليد ، رضي الله عنه ، ففتحوا طرفا منها، وجيشا آخر بقيادة أبي عبيدة ، رضي الله عنه ، ومن معه من الأمراء إلى أرض الشام ففتح الله لهم بصرى ودمشق وبلاد حوران وما والاها، وثالثاً بقيادة عمرو بن العاص ، رضي الله عنه ، إلى بلاد مصر، وتوفاه الله عز وجل، واختار له ما عنده من الكرامة. ومنّ على الإسلام وأهله بأن ألهم الصديق أن استخلف عمر الفاروق ، فقام في الأمر بعده قياماً تاماً ، لم يجرِ الأمرُ بعد الأنبياء -عليهم السلام- على مثله ، في قوة سيرته وكمال عدله . وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها ، وديار مصر إلى آخرها ، وأكثر إقليم فارس ، وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان ، وتقهقر إلى أقصى مملكته ، وقصر قيصر ، وانتزع يده عن بلاد الشام فانحاز إلى قسطنطينة ، وأنفق أموالهما في سبيل الله ، كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله ، عليه من ربه أتم سلامٍ وأزكى صلاة.
ثم في عهد الحيي عثمان رضي الله عنه امتدت المماليك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها ، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك : الأندلس ، وقبرص ، وبلاد القيروان ، وبلاد سبتة مما يلي البحر المحيط ، ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين ، وقتل كسرى ، وباد ملكه بالكلية. وفتحت مدائن العراق ، وخراسان ، والأهواز ، وقَتَل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا ، وخذل الله مَلِكَهم الأعظم خاقان ، وجُبي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه . أتدرون ببركة ماذا؟ قال العلماء: وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن..
ألم يعدهم نبيهم الصادق المصدوق ﷺ فقال لهم كما في صحيح مسلم: "إنَّ اللهَ زوى لي الأرضَ . فرأيتُ مشارقَها ومغاربَها . وإنَّ أُمتي سيبلغُ ملكُها ما زُوىَ لي مِنها . وأعطيتُ الكنزينِ الأحمرَ والأبيضَ" لقد وجدوا تلك البشارات واقعاً حياً بعد وفاة نبيهم ﷺ عندما آمنوا بوعوده وامتثلوا أوامره وطبقوا سنن الله الكونية التي لا تتبدل ولا تتغير ..
عندما كان عدي بن حاتم الطائي جالساً عند النبي ﷺ وهو مَلِكٌ في قومه أتى النبيَّ ﷺ رجلٌ يشكو إليه الفاقة والفقر، ثم أتى إليه رجلٌ يشكو قطع السبيل أي قطاع الطرق، يشكون ذلك أمام ملِكٍ لم يدخل في الإسلام بعد، فقال له النبي ﷺ: " يا عدي، هل رأيت الحيرة"؟ قال: قُلْت : لم أرها، وقد أنبئت عليها،(وهي مدينةٌ في جنوب العراق) قال ﷺ : "فإن طالت بك الحياة، لترين الظعينة ترتحل من الحيرة، حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدًا إلا الله - قُلْت فيما بيني وبين نفسي : فأين دعار طيء الذين قد سعروا في البلاد - ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى" . قال فقُلْت : كسرى بن هرمز ؟ قال : "كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة، لترين الرجلُ يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة، يطلب من يقبله فلا يجد أحدًا يقبله منه" صلى الله على الذي لا ينطق عن الهوى، قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنتُ فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم الحياة، لترون ما قال أبو القاسم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقصد أن يُطاف بالذهب والفضة فلا يوجد من يقبلها، وقد حصل هذا في زمن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله ورضي عنه..
نسأل الله أن يعزّ الإسلام والمسلمين، وأن يريَنا الإسلامَ عزيزاً بقوته ومنّه
الخطبة الثانية:
أما بعد: معاشرَ المؤمنين، إننا قد ذكرنا وعدَ الله لنا بالاستخلاف وذكرنا المبشّرات التي بشّر بها نبيّه ﷺ ووقعت حين استضاءت الأمةُ بنور الوحيين لا لنركنَ إلى الدعةِ ونزيد في التخاذل .. إنما لنتفاءل في عاقبة هذا الدين ولنحقق شرطَ ذلك الوعد وهو العبودية الخالصةُ لله جل في علاه، وأن نبرأ من الثقة إلا في الله، ومن التوكل إلا على الله، ومن التسليم إلا لله، ومن الإنابة إلا لله، ومن الرجاء إلا ما في يدي الله، فشعارُنا حقيقةً لا قولاً "إن صلاتي ونسُكي ومحيايَ ومماتي لله رب العالمين" احرص على أن تكون ممن أقام شرعَ الله على نفسه ومن يعولُ من أهلِ بيتِه، لأن سنن الله الكونية لا تحابي أحداً "إن الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفُسهم" كثرةُ الصراخِ والعويل لن تأتي بالنصر، أقِم شرعَ الله على نفسِك وانصره في نفسِك لتلحق بركبِ عبادِ الله المؤيدين بنصر الله، أوقفِ الآن تعاملَك بالربا لنصر دين الله، حافظ الآن على الصلاةِ نصرةً لشعيرةِ الله، علّم أبناءك القرآن حفظاً وتلاوةً وتدبّراً نصرةً لكلامِ الله، وهكذا في كل شؤونك ..
إننا أمةَ الإسلام لم يأمرْنا الله تبارك وتعالى بامتلاك أسلحةٍ تفوق أسلحةَ العدو، إنما أمرَنا بدايةً أن ننصرَ الله في نفوسنا، ونقيمَ شرع الله فيما بيننا ثم نعدّ ما نستطيعُه من القوة وتكفّل لنا بالنصرِ المحقق، وهذا لا يكون إلا لأمةِ الإسلام .. فعلى الأمة أن تستيقظ من سُباتِها، فدينُها عظيمٌ يستحقّ التضحية وبذل الأرواح والأموال في سبيل نصرته.. ووالله لن ينصرَنا إلا الله "وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم"
أسأل الله جلّ في علاه أن يُنعم على إخواننا في حلب بالنصر والظفر، اللهم بدّل خوفهم أمنا، اللهم بدّل خوفهم أمناً، وذلّهم عزا، وحصارهم تحريرا، وبردهم دفئاً وسلاماً يا رب العالمين..
اللهم أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، وأنزل عليهم النصر والثبات ..