وعاشروهن بالمعروف
عاصم بن محمد الغامدي
1437/11/02 - 2016/08/05 07:28AM
[align=justify]{وعاشروهن بالمعروف}.
الحمد لله الذي خلق لنا من أنفسنا أزواجًا لنسكن إليها، وجعل بيننا مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون، أحمده حمد معترف بعيوبه، مستغفر لذنوبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله لا تغيره الأزمان، وتفتقر إليه جميع الأكوان، وهو الغني عما سواه من جماد وحيوان، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أفضل مخلوق، وأشرف عبد، وأعظم عابد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد، عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، وبادروا بالعمل الصالح، وعجلوا التوبة فإن الموت يأتي بغتة.
كيف يرجو حسن الجزاء من فرط في العمل، ومتى يبادر بالتوبة من سوّف بطول الأمل؟ السعادة لمن تدبر، والسلامة لمن تفكر، والفوز لمن اعتبر وتبصّر.
قفوا رحمكم الله وقوف المنكسرين، وتبتلوا تبتل العابدين، واسكبوا دموع الخائفين، {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد}.
عباد الله:
الأسرة أساس المجتمع، منها تفترق الأمم وتنتشر الشعوب، ونواةُ بنائها الزوجان، {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ}.
والأسرةُ هي المأوى الذي هيأه الله للإنسان يستقر فيه ويسكن إليه، وفي الزواج معمار الكون، وسكن النفس، ومتاع الدنيا، بقيامه تنتظم الحياة، ويتحقق العفاف والإحصان، يجمع الله بالنكاح الأرحام المتباعدة، والأنساب المتفرقة، وعد الله فيه بالغنى والسعة في الرزق، ولا خُلف لوعد الله: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}.
والأسرةُ هي اللبنة الأولى لبناء المجتمعات دينيًا وفكريًا وثقافيًا، فبصلاحِها تصلح الأوضاع، وبفسادها تفسدُ الأخلاق والطباع، ركناها وقائداها زوج وزوجة، يجمع بينهما ولاءٌ ووفاء، ومودةٌ وصفاء، وتعاطفٌ وتلاطف، ووفاقٌ واتفاق، وآدابٌ وحسن أخلاق، تحت سقف واحد في عيشةٍ هنية، ومعاشرة مرضية.
والرابطة الزوجية رابطة عظمى؛ صدرت عن رغبةٍ واختيار، وانعقدت عن خبرةٍ وسؤال وإيثار، عقدها مأمورٌ به شرعًا، مستحسنٌ وضعًا وطبعًا.
عباد الله:
ازدادت في السنواتِ القليلة الماضية، نِسَبُ الطلاق في المحاكم، فقد اقتربت في بعض الأعوام من ربع عدد عقود الزواج المسجلة، وكثير من هذه النسبة المخيفة سجلته محاكم منطقة مكة المكرمة.
وهذا أمر يستوجب دق ناقوس الخطر، فازدياد هذه النسب علامة على حجم الخلل الموجود في البيوت، وهو عبء على أولياء الأمور، ليقوموا بدورهم في التوجيه والإرشاد، وخير ما تأسى به الزوج سيرةَ خير البشر صلوات الله وسلامه عليه في تعامله مع أزواجه، وهي سيرة عطرة ملأى بالدروس والعبر، لا يمكن حصرها في ساعة من الوقت، لكن الوقوف على شيء منها مطلب، خصوصًا في مثل هذا الموسم الذي تكثر فيه مناسبات الزواج.
عباد الله:
عن عائشة أم المؤمنين –رضي الله عنها-قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي". [رواه الترمذي وقال: حسن غريب صحيح].
كان عليه الصلاة والسلام حسن العشرة، متمثلاً لقوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف}.
ومن حسن عشرته أنه يجلس مع زوجاته كل يوم يلاطفهن ويحادثهن، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح جلس في مصلاه وجلس الناس حوله حتى تطلع الشمس ثم يدخل على نسائه امرأةً امرأةً، يسلم عليهن، ويدعو لهن، فإذا كان يوم إحداهن كان عندها.
وفي آخر النهار يجالس كل واحدة منهن جلسة يحادثها فيها، ويلاطفها ويقبِّلها من غير مسيس، كما أخبرت عائشةُ رضي الله عنها، وتخيلوا ما في ذلك من تأنيسٍ لهن، وتطييبٍ لقلوبهن، فكان نساؤه لا يفقدنه بل يرينه في كل يوم.
ومع كثرة مشاغل النبي صلى الله عليه وسلم، وعظم أعبائه، إلا أنه كان يسهر مع زوجاته، ويستمع منهن طرائفَ الأخبار، فقد حدثته عائشةُ رضي الله عنها بحديث أم زرع الطويل، وفيه أن إحدى عشرة امرأةً تعاهدن في ليلة وتعاقدن على أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئًا، فوصفت كل واحدة منهن زوجها، فكانت أحسنهن وصفًا لزوجها وتعدادًا لنعمه عليها زوجة أبي زرع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: "كنت لك كأبي زرع لأم زرع" [أخرجه البخاري ومسلم].
فأين هذا ممن أشغلته تجارته وأعماله، أو أصحابه وأسفاره، حتى هجر زوجته وأهله من حيث لا يشعر، يخرج من عندهم في الصباح، ولا يعود إلا في وقت متأخر من الليل، ليهوي على فراشه جثة هامدة؟
وكان من حسن عشرته عليه الصلاة والسلام وفاؤه لزوجاته، وحفظه لحقهن، وعدم نسيان فضلهن وسابق عهدهن، تقول عائشة رضي الله عنها: "ما غرت من أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة، ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صديقات خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة، فيقول: "إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد". [رواه البخاري ومسلم].
ولم يكن عليه الصلاة والسلام يجد غضاضة في التصريح بحب زوجاته، فقال عن خديجة: "إني قد رزقت حبَّها". ولما سأله عمرو بن العاص أي الناس أحب إليك؟ قال عليه الصلاة والسلام: "عائشة". وكان يقبِّلهن قبل خروجه من البيت، بل يقبِّلهن وهو صائم كما أخبرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
ومن المواقف العظيمة، التي تبين تقدير النبي صلى الله عليه وسلم لحق الزوجية، أنه حبس جيش المسلمين مرة ليبحث عن عِقد فقدته عائشة رضي الله عنها، وليس مع الناس ماء، فجاء أبو بكر رضي الله عنه، يعاتبها، تقول عائشة رضي الله عنها: "عاتبني أبو بكر، وجعل يطعن بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه على فخذي" [رواه البخاري ومسلم].
ولم يكن عليه الصلاة والسلام يتأفف من زوجاته، أو يبتعد عنهن حتى فترة عادتهن الشهرية، بل اتكأ في حجر عائشة وهي حائض وقرأ القرآن، والتحفا بلحاف واحد وهي حائض.
وكان يدلل زوجاته، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا: "يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام"، وكان يناديها أحيانًا يا حميراء، وهو تصغير حمراء، وهي البيضاء المشوبة بحمرة.
وكان يصحبهن إلى الولائم معه، فعن أنس رضي الله عنه أن جارًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فارسيًا كان طيب المرق، فصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء يدعوه، فقال عليه الصلاة والسلام: "وهذه"؟ -يقصد عائشة-فقال: لا، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا"، فعاد يدعوه والنبي صلى الله عليه وسلم يرفض دعوته حتى دعا عائشة في الثالثة، فقال عليه الصلاة والسلام: "نعم"، فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله. [رواه مسلم].
ومن حسن عشرته صلى الله عليه وسلم مسحه لدموع زوجته صفية لما مرض جَمَلُها في طريق السفر، وقد كان من أحسن الجِمال، فبكت رضي الله عنها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حين أخبر بذلك فجعل يمسح دموعها بيده. [رواه أحمد وصححه الألباني].
عباد الله:
{لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا}. أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله الذي لم يزل في قدره عليّا، ولم يك قط له سميّا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيرا، أما بعد عباد الله:
فإن حسن العشرة لا يقتضي انعدام المشكلات، والخطر ليس في وجودها، بل في انعدام حلها بالحكمة والإنصاف، حتى تتفاقم ويحدث الهجر والطلاق.
وقد مرت ببيت النبوة مشكلات عصيبة كحادثة الإفك، التي مكث الناس فيها شهرًا لا يعلمون ما تنتهي إليه الأمور، ثم نزلت البراءة في كتاب الله تعالى.
ومرت به مشكلات مادية، حين طلب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من النفقة ما لا يملك، حتى خيَّرهن –بعد أمر الله تعالى له-بين الحياة الدنيا وزينتها، وبين الله ورسوله والدار الآخرة، فأجمعن على ما عند الله، وتركن الدنيا رضوان الله عليهن.
وقد ذكرت حفصة رضي الله عنها أن الواحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ربما اختلفت معه فتجلس اليوم كله لا تكلمه، وفي مرة كان الخلاف كبيرًا هجر النبي صلى الله عليه وسلم معه زوجاته شهرًا كاملاً.
وفي هذا عزاء للمؤمنين، وأسوة حسنة، فإذا كان بيت النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو من المشكلات، وهو خير البشر، وأعقلُ الناس، وأتقى الخلق لله، فغيره من باب أولى.
ومثل ما كان صدره عليه الصلاة والسلام رحبًا، وخلقه سمحًا، وطبعه ليّنًا، فعلى المؤمن التأسي به، وسلوك منهجه، وتعلم طريقته، {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا}.
فكونوا يا عباد الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يسمع ما تنطق به الشفاه ولو خفت، ويرى ما تفعله الجوارح ولو دقّ، ثم اعلموا رحمكم الله أن ثمرة الاستماع الاتباع، وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا}.
[/align]
الحمد لله الذي خلق لنا من أنفسنا أزواجًا لنسكن إليها، وجعل بيننا مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون، أحمده حمد معترف بعيوبه، مستغفر لذنوبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله لا تغيره الأزمان، وتفتقر إليه جميع الأكوان، وهو الغني عما سواه من جماد وحيوان، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أفضل مخلوق، وأشرف عبد، وأعظم عابد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد، عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، وبادروا بالعمل الصالح، وعجلوا التوبة فإن الموت يأتي بغتة.
كيف يرجو حسن الجزاء من فرط في العمل، ومتى يبادر بالتوبة من سوّف بطول الأمل؟ السعادة لمن تدبر، والسلامة لمن تفكر، والفوز لمن اعتبر وتبصّر.
قفوا رحمكم الله وقوف المنكسرين، وتبتلوا تبتل العابدين، واسكبوا دموع الخائفين، {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد}.
عباد الله:
الأسرة أساس المجتمع، منها تفترق الأمم وتنتشر الشعوب، ونواةُ بنائها الزوجان، {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ}.
والأسرةُ هي المأوى الذي هيأه الله للإنسان يستقر فيه ويسكن إليه، وفي الزواج معمار الكون، وسكن النفس، ومتاع الدنيا، بقيامه تنتظم الحياة، ويتحقق العفاف والإحصان، يجمع الله بالنكاح الأرحام المتباعدة، والأنساب المتفرقة، وعد الله فيه بالغنى والسعة في الرزق، ولا خُلف لوعد الله: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}.
والأسرةُ هي اللبنة الأولى لبناء المجتمعات دينيًا وفكريًا وثقافيًا، فبصلاحِها تصلح الأوضاع، وبفسادها تفسدُ الأخلاق والطباع، ركناها وقائداها زوج وزوجة، يجمع بينهما ولاءٌ ووفاء، ومودةٌ وصفاء، وتعاطفٌ وتلاطف، ووفاقٌ واتفاق، وآدابٌ وحسن أخلاق، تحت سقف واحد في عيشةٍ هنية، ومعاشرة مرضية.
والرابطة الزوجية رابطة عظمى؛ صدرت عن رغبةٍ واختيار، وانعقدت عن خبرةٍ وسؤال وإيثار، عقدها مأمورٌ به شرعًا، مستحسنٌ وضعًا وطبعًا.
عباد الله:
ازدادت في السنواتِ القليلة الماضية، نِسَبُ الطلاق في المحاكم، فقد اقتربت في بعض الأعوام من ربع عدد عقود الزواج المسجلة، وكثير من هذه النسبة المخيفة سجلته محاكم منطقة مكة المكرمة.
وهذا أمر يستوجب دق ناقوس الخطر، فازدياد هذه النسب علامة على حجم الخلل الموجود في البيوت، وهو عبء على أولياء الأمور، ليقوموا بدورهم في التوجيه والإرشاد، وخير ما تأسى به الزوج سيرةَ خير البشر صلوات الله وسلامه عليه في تعامله مع أزواجه، وهي سيرة عطرة ملأى بالدروس والعبر، لا يمكن حصرها في ساعة من الوقت، لكن الوقوف على شيء منها مطلب، خصوصًا في مثل هذا الموسم الذي تكثر فيه مناسبات الزواج.
عباد الله:
عن عائشة أم المؤمنين –رضي الله عنها-قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي". [رواه الترمذي وقال: حسن غريب صحيح].
كان عليه الصلاة والسلام حسن العشرة، متمثلاً لقوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف}.
ومن حسن عشرته أنه يجلس مع زوجاته كل يوم يلاطفهن ويحادثهن، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح جلس في مصلاه وجلس الناس حوله حتى تطلع الشمس ثم يدخل على نسائه امرأةً امرأةً، يسلم عليهن، ويدعو لهن، فإذا كان يوم إحداهن كان عندها.
وفي آخر النهار يجالس كل واحدة منهن جلسة يحادثها فيها، ويلاطفها ويقبِّلها من غير مسيس، كما أخبرت عائشةُ رضي الله عنها، وتخيلوا ما في ذلك من تأنيسٍ لهن، وتطييبٍ لقلوبهن، فكان نساؤه لا يفقدنه بل يرينه في كل يوم.
ومع كثرة مشاغل النبي صلى الله عليه وسلم، وعظم أعبائه، إلا أنه كان يسهر مع زوجاته، ويستمع منهن طرائفَ الأخبار، فقد حدثته عائشةُ رضي الله عنها بحديث أم زرع الطويل، وفيه أن إحدى عشرة امرأةً تعاهدن في ليلة وتعاقدن على أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئًا، فوصفت كل واحدة منهن زوجها، فكانت أحسنهن وصفًا لزوجها وتعدادًا لنعمه عليها زوجة أبي زرع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: "كنت لك كأبي زرع لأم زرع" [أخرجه البخاري ومسلم].
فأين هذا ممن أشغلته تجارته وأعماله، أو أصحابه وأسفاره، حتى هجر زوجته وأهله من حيث لا يشعر، يخرج من عندهم في الصباح، ولا يعود إلا في وقت متأخر من الليل، ليهوي على فراشه جثة هامدة؟
وكان من حسن عشرته عليه الصلاة والسلام وفاؤه لزوجاته، وحفظه لحقهن، وعدم نسيان فضلهن وسابق عهدهن، تقول عائشة رضي الله عنها: "ما غرت من أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة، ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صديقات خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة، فيقول: "إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد". [رواه البخاري ومسلم].
ولم يكن عليه الصلاة والسلام يجد غضاضة في التصريح بحب زوجاته، فقال عن خديجة: "إني قد رزقت حبَّها". ولما سأله عمرو بن العاص أي الناس أحب إليك؟ قال عليه الصلاة والسلام: "عائشة". وكان يقبِّلهن قبل خروجه من البيت، بل يقبِّلهن وهو صائم كما أخبرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
ومن المواقف العظيمة، التي تبين تقدير النبي صلى الله عليه وسلم لحق الزوجية، أنه حبس جيش المسلمين مرة ليبحث عن عِقد فقدته عائشة رضي الله عنها، وليس مع الناس ماء، فجاء أبو بكر رضي الله عنه، يعاتبها، تقول عائشة رضي الله عنها: "عاتبني أبو بكر، وجعل يطعن بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه على فخذي" [رواه البخاري ومسلم].
ولم يكن عليه الصلاة والسلام يتأفف من زوجاته، أو يبتعد عنهن حتى فترة عادتهن الشهرية، بل اتكأ في حجر عائشة وهي حائض وقرأ القرآن، والتحفا بلحاف واحد وهي حائض.
وكان يدلل زوجاته، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا: "يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام"، وكان يناديها أحيانًا يا حميراء، وهو تصغير حمراء، وهي البيضاء المشوبة بحمرة.
وكان يصحبهن إلى الولائم معه، فعن أنس رضي الله عنه أن جارًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فارسيًا كان طيب المرق، فصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء يدعوه، فقال عليه الصلاة والسلام: "وهذه"؟ -يقصد عائشة-فقال: لا، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا"، فعاد يدعوه والنبي صلى الله عليه وسلم يرفض دعوته حتى دعا عائشة في الثالثة، فقال عليه الصلاة والسلام: "نعم"، فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله. [رواه مسلم].
ومن حسن عشرته صلى الله عليه وسلم مسحه لدموع زوجته صفية لما مرض جَمَلُها في طريق السفر، وقد كان من أحسن الجِمال، فبكت رضي الله عنها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حين أخبر بذلك فجعل يمسح دموعها بيده. [رواه أحمد وصححه الألباني].
عباد الله:
{لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا}. أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله الذي لم يزل في قدره عليّا، ولم يك قط له سميّا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيرا، أما بعد عباد الله:
فإن حسن العشرة لا يقتضي انعدام المشكلات، والخطر ليس في وجودها، بل في انعدام حلها بالحكمة والإنصاف، حتى تتفاقم ويحدث الهجر والطلاق.
وقد مرت ببيت النبوة مشكلات عصيبة كحادثة الإفك، التي مكث الناس فيها شهرًا لا يعلمون ما تنتهي إليه الأمور، ثم نزلت البراءة في كتاب الله تعالى.
ومرت به مشكلات مادية، حين طلب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من النفقة ما لا يملك، حتى خيَّرهن –بعد أمر الله تعالى له-بين الحياة الدنيا وزينتها، وبين الله ورسوله والدار الآخرة، فأجمعن على ما عند الله، وتركن الدنيا رضوان الله عليهن.
وقد ذكرت حفصة رضي الله عنها أن الواحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ربما اختلفت معه فتجلس اليوم كله لا تكلمه، وفي مرة كان الخلاف كبيرًا هجر النبي صلى الله عليه وسلم معه زوجاته شهرًا كاملاً.
وفي هذا عزاء للمؤمنين، وأسوة حسنة، فإذا كان بيت النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو من المشكلات، وهو خير البشر، وأعقلُ الناس، وأتقى الخلق لله، فغيره من باب أولى.
ومثل ما كان صدره عليه الصلاة والسلام رحبًا، وخلقه سمحًا، وطبعه ليّنًا، فعلى المؤمن التأسي به، وسلوك منهجه، وتعلم طريقته، {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا}.
فكونوا يا عباد الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يسمع ما تنطق به الشفاه ولو خفت، ويرى ما تفعله الجوارح ولو دقّ، ثم اعلموا رحمكم الله أن ثمرة الاستماع الاتباع، وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا}.
[/align]