وصية حبيب لحبيبه

عبدالله حمود الحبيشي
1439/07/05 - 2018/03/22 17:04PM
الخطبة الأولى
إنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ..
أما بعد .. عباد الله .. نصيحة غالية ، ووصية ثمينة من محب لحبيبه .. فمن المحب ، ومن الحبيب ، وما هي الوصية .
المحب هو حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم .. والحبيب هو أعلم الأمة بالحلال والحرام ، إمام العلماء يوم القيامة ، الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي عنه وأرضاه .. وأما الوصية فيرويها هو بنفسه بعد أنَّ أخذ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّمَ بيدِهِ، وقالَ : يا مُعاذُ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّكَ ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّك ، أوصيكَ يا معاذُ لا تدَعنَّ في دُبُرَ كلِّ صلاةٍ تقولُ : اللَّهمَّ أعنِّي على ذِكْرِكَ ، وشُكْرِكَ ، وحُسنِ عبادتِكَ .
إنها وصية عظيمة في قدرها وشرفها ، يسيرة في كلماتها وحروفها ، اشتملت على ثلاث خصال ، تجمع للعبد الخير بحذافيره ، أرشد فيها النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه أن يدعو الله في دبر كل صلاة ، مفروضة كانت أو نفلا ، قبل السلام، بهذا الدعاء العظيم : أن يتوجه إلى الله تعالى بطلب العون والمدد ؛ لأن العون بيده ، والتوفيق بيده جل وعلا ، فهذه الأمور الثلاثة التي خُصَّت شأنها عظيم ، ولا يمكن أن نكون من أهلها إلا إذا أعاننا الله.
فالاستعانة وسيلة ، والعبادة غاية ؛ ولا يمكن أن يُظفر بالغاية بدون الوسيلة ، ولهذا جمع الله بينهما بقوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) .
قال ابن تيمية رحمه الله : تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته ، ثم تأملته فرأيته في الفاتحة : إياك نعبد وإياك نستعين .
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال "احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ" ؛ أي : اطلب العون من الله سبحانه وتعالى .
وكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو فيقول "رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي لَكَ شَاكِرًا ، لَكَ ذَاكِرًا" هذا كان دعاء نبينا صلى الله عليه وسلم "رَبِّ أَعِنِّي" أَيْ وَفِّقْنِي لِذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ .
والمسلم دائمًا يستعين بالله سبحانه وتعالى في جميع أموره وأحواله , سواءً كانت الأمور الدينية أو الدنيوية , فهو لا يستطيع أن يقوم بشيءٍ من هذه الأمور إلا بعد توفيق الله وإعانته له ؛ وكما جاء في الحديث "لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا ، حَتَّى يَسْأَلَهُ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ" .
فما أحوجنا في كل حين ، وفي كل أمر ، أن نعلق قلوبنا بالله فنسأله دائما حتى الأمور اليسيرة السهلة ؛ لأن سؤال الله عز وجل يعتبر عبادة من أجلِّ العبادات .. فنسأل الله ، ونتضرع إليه ، وننكسر ونفتقر إليه عز وجل , ومن كان هذا حاله سيجد التوفيق والهداية والإعانة من الله سبحانه وتعالى .
وأول ما يُطلب العون فيه : ذكره سبحانه "أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ"، أي : اطلب العون من الله على ذكره ؛ لأن الذكر خير الأعمال ، وفيه من البركة ما لا يخطر للعبد على بال .
يقول الشيخ ابن عثيمين : حتى تتيقّن أن المسألة هي مسألة توفيق انظر إلى الذكر من أسهل الطاعات ، لكن لا يوفق له إلا قليل !.
قال عليه الصلاة والسلام "أَلا أنبِّئُكُم بخَيرِ أعمالِكُم، وأزكاها عندَ مَليكِكُم، وأرفعِها في درَجاتِكُم، وخَيرٌ لكُم مِن إنفاقِ الذَّهبِ والورِقِ، وخَيرٌ لكُم مِن أن تَلقوا عدوَّكُم فتضرِبوا أعناقَهُم ويضرِبوا أعناقَكُم؟". قالوا: بلَى يا رسولَ اللَّهِ! قالَ "ذِكرُ اللَّهِ".
قالَ معاذُ بنُ جبلٍ : ما شَيءٌ أنجَى مِن عذابِ اللَّه ِ مِن ذكرِ اللَّهِ . وقال ابن عون رحمه الله : ذكر الناس داء , وذكر الله دواء ، قال الذهبي معلقا : إي والله ! فالعجب منَّا ومن جهلنا , كيف ندع الدواء ونقتحم الداء ؟ .
والذكر يُكفر الذنوب لقوله صلى الله عليه وسلم "مَنْ قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ".
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "مَنْ سَبَّحَ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ –أي بعد السلام وهذا يختلف عن دعاء ربي أعني على ذكرك فهو قبل السلام والفرق كما ذكر أهل العلم أن ما قيد بدبر الصلاة إن كان دعاء فيكون قبل السلام وإن كان ذكرا فيكون بعد السلام- مَنْ سَبَّحَ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثَاً وَثَلاثِينَ، وَحَمَدَ اللهَ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ، وَكَبَّرَ اللهَ ثَلاثَاً وَثَلاثِينَ، فَتِلْكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، ثُمَّ قَالَ تَمَامَ المائَةِ: لا إِله إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وُلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ لَهُ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ" .
ويقول الله في الحديث القدسي "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم" فيذكره الله عند الطاعة فييسرها ، ويذكره الله عند المعصية فيصرفها، ويذكره الله عند الشدائد فيفرجها.
وقوله : "وشُكْرِكَ" ، يدعو الله تعالى أن يعينه على شكر النعم ؛ ونِعم الله علينا لا تُعد ولا تُحصى (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) ، (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) ؛ النعمُ كثيرة والشكر قليل (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) .
شكر النعمة من أعظم المنن وأكبر العطايا ، أن يوزعك الله جل وعلا شكر النعمة ، وشكرها قائم على أركان : فالقلب يشكر الله بالاعتراف بالنعمة , واللسان يشكر الله بالتحدث بها والثناء على الله وحمده بما هو أهله , والجوارح تشكر الله باستعمال النعم في طاعة الله تعالى .
فالعبد الموفق السعيد هو الذي دائمًا وأبدًا ومرارًا وتكرارًا يتذكر نعمة الله عليه ، في كل موقف وفي كل مشهد , فينبغي دائمًا أن لا يغيب الحمد والشكر عن عقولنا وأفكارنا وقلوبنا وجوارحنا , نحمد الله ونشكره بقلوبنا ، وألسنتنا ، وجوارحنا .. ومن كان هذا حاله رزقه الله الراحة والسعادة والاستقرار .
فنسأل الله تعالى أن يوزعنا وإياكم شكر نعمه ، ويجعلنا من الذاكرين الله قياما وقعودا وعلى جنوبنا .. إنه سميع مجيب ..

الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ..
أما بعد .. عباد الله ، وآخر وصايا الحبيب لحبيبه ، جعلني الله وإياكم من أحباب النبي صلى الله عليه وسلم .. طلب الإعانة من الله على حسن العبادة "وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ" ؛ فليست الإعانة على العبادة ولكن "وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ" ؛ لأن العبادة لا تُقبل إلا إذا اتصفت بالحُسن ، ولا تكون العبادة متصفةً بالحسن إلا إذا اجتمع فيها أمران: الإخلاص لله تعالى ، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولهذا قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) قال : أخلصه وأصوبه ، هذا معنى قوله (أَحْسَنُ عَمَلاً) قيل : يا أبا علي، وما أخلصه وأصوبه ؟ قال : .. والخالص ما كان لله ، والصواب ما كان على السنة . وهذان الأصلان اجتمعا في الدعاء : "وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ" .
فالأمر ليس فعل العبادة ، بل الإعانة على الإحسان فيها ، ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم "إنَّ العبدَ لَيصلِّي الصَّلاةَ ما يُكتُبُ لَهُ منْها إلَّا عُشرُها ، تُسعُها ، ثمنُها ، سُبعُها ، سُدسُها ، خمسُها ، ربعُها ، ثلثُها نصفُها" ، ويقول صلى الله عليه وسلم "رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ" .
عباد الله .. ولا يكون العون من الله للعبد إلا ببذل الأسباب مع الدعاء .. فإذا حرصنا على هذا الدعاء دبر الصلاة فلا نترك صلاة فرض أو نافلة إلا نقول في آخرها قبل السلام "اللهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ" إذا حرصنا على ذلك كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلنتبع الدعاء بالسبب .. نبذل السبب لنكون ذاكرين ، ونبذل السبب لنكون شاكرين ، ونبذل السبب لنكون محسنين في عبادتنا لله تبارك وتعالى ؛ فإذا اجتمع لنا طلب العون ، وبذل الأسباب ؛ فزنا بالخير بإذن الله في الدنيا والآخرة ، وعملنا بوصية النبي صلى الله عليه وسلم القائل "احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجز" .
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
المشاهدات 1973 | التعليقات 0