وصفة نبوية للسعادة الأبدية

1438/03/09 - 2016/12/08 15:25PM
ثلاث من كن فيه الجمعة 10/3/1438هـ
الحمد لله حقًّا فهو الودود خفي الألطاف, الكريمُ.. المجيب.. المؤَمِّن لكل من ارتاع وخاف, القريبُ المحبُ لمن دعاه بإلحاح وإلحاف, أحمده تبارك وتعالى وأسأله النجاة لنا أجمعين مما نخشى ونخاف, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة حق وإنصاف, شهادة شَهِدت بها شخوصنا وظلالنا والأعضاءُ منا والأطراف, وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، المتحقِّق بكمال الأوصاف, عفيفُ اللسان، موطأُ الأكناف, عظيمُ خُلُقه، وحْيٌ نُطقُه، جُعل رزقه تحت ظل الرمح والأسياف, وطيء الفراش، بسيط اللباس، عيشُه الكفاف, فاللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الأشراف، فوق ما خطه قلم مادح أو أضاف.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ... مُنية البشر أجمعين .. وأملُ العارفين والعابثين .. مطلوبُ كل الطالبين, ومنتهى آمالِ الراغبين, ما ضل من ضل إلا طلباً لها, ولا اهتدى من اهتدى إلا رغبة بها .. إنها السعادة.
ما جمع المال من جمعه إلا ليسعد, ولا جَدَّ مُجِدٌّ إلا ليسعد, ولا عصى عاصٍ إلا ليسعد, ولا طاع مطيع إلا ليسعد, وليت شعري من الذي ينالها؟
أعظم اللذائذ رؤية الله تعالى في الآخرة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}.
ومن أعظم سعادة الدنيا ولذائذها لذة الإيمان وحلاوته, الإيمان .. الذي إذا خالط بشاشةَ القلوب, وعَمَرَ الروح, سَمَتِ النفسُ إلى عالٍم غيرَ العالَم الذي يعيش فيه الناس, وعاشت في رحابٍ طاهرة غير التي لوثها الناس.
لذةُ الإيمان .. وكيف تنال لذته؟ روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثٌ مَن كُنَّ فيهِ وجَد حلاوَةَ الإيمانِ: أن يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سِواهما، وأن يُحِبَّ المرءَ لا يُحِبُّه إلا للهِ، وأن يَكرهَ أن يَعودَ في الكُفرِ كما يَكرهُ أن يُقْذَفَ في النارِ).
حلاوة الإيمان .. حلاوة .. يجد طعمها من ذاقها .. حلاوة .. تأمل حب الناس للطعم الحالي .. وكيف يسعد الواحد منهم عند تذوقه لحلاوة دنيوية .. وأينها من حلاوة الإيمان؟
قال ابن رجب رحمه الله تعالى: " فالإيمان له حلاوة وطعم يذاق بالقلوب كما يُذاق حلاوة الطعام والشراب بالفم، فإن الإيمان هو غذاء القلوب وقُوتُها كما أن الطعام والشراب غذاء الأبدان وقوتُها".
إذا أردت أن تتذوق حلاوة الإيمان فالزم ما ورد في الحديث السابق .. ثلاثة أمور .. من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان:
أولها أن يكون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليه مما سواهما .. فيقدمُ محبة الله تعالى ومحبةَ رسوله صلى الله عليه وسلم على كل محبة.
يقدمها على محبة النوم ودفء الفراش عندما يسمع حي الصلاة, يقدم محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم على محبة المعصية إذا خلى بنفسه ولم يَعُد يراه أحد من المخلوقين, فيتذكر أن الله يراه, فتردعه هذه المحبة عن تلك المحبة, يقدم محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على محبة الولد إذ يلح عليه ليعصي الله تعالى, يقدمها على كل محبة .. على محبة المال فلا يكتسبه إلا من وجه يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ..
فإن فعل ذلك .. وقدم محبة الله تعالى ورسولِه على كل محبة ذاق حلاوة الإيمان.
فليتك تحلو والحياة مريــــــرة *** وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر *** وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين *** وكل الذي فوق التراب تراب
سئل وَهيبُ بن الورد: هل يجد طعم الإيمان من يعصي الله؟ قال: لا، ولا من همَّ بالمعصية.
وقال ذو النون: كما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سَقَمه كذلك لا يجد القلبُ حلاوة العبادة مع الذنوب.
وهنا تنبغي الإشارة إلى نقطة مهمة: وهي أن محبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم يجب أن تكونَ وَفق ما أمر به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم, فلا ابتداع في الدين بدعوى المحبة ولا غلو ولا جفاء.
فإن شرطَي قَبول العمل: الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا يعلم أن ما يقيمه بعض الناس من الاحتفال ببعض المناسبات الدينية كالمولد النبوي أو الإسراء والمعراج ونحوها ولم يدفعهم لهذه الاحتفالات إلا حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم, لكن هذه المحبة يجب أن تكون على وفق منهجه عليه الصلاة والسلام.
فالمحتفلون يرون أنها قربة يتقربون بها إلا الله تعالى حيث يُعبِّرون عن حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الاحتفالات, ولكنَّ السؤال: إذا كانت هذه قربة لله فهل عَلِمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جهلها؟ فإن كان علمها فهل بَيَّنها للناس أم كتمها؟ فإن كان بَيَّنَها فما الدليل على بيانه؟ وإن كان كتمها فحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يكتم علماً أمره الله ببيانه.
ثم إن هذه الاحتفالات لم يحتفل بها الخلفاء الراشدون المهديون ولا التابعون ولا من بعدَهم, وإنما بدأ الاحتفال بها في القرن الرابع من الهجرة .. فأي سُنَةٍ هذه التي غفلت عنها القرون المفضلة الأولى وأدركها من بعدهم.
فاتقوا الله عباد الله .. والزموا سنته صلى الله عليه وسلم ففيها النجاة والسعادة بإذن الله, قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}.
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. فما زلنا نتفيء ظلال حلاوة الإيمان, نبحث عنها في ظلال حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وهاهو الحبيب صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن حلاوة الإيمان ينالها من أحب المرء لا يحبه إلا لله.
الحب في الله تعالى خَصلة عظيمة .. من الناس من يحب شخصاً لماله أو جماله أو حسبه أو منصبه .. ومنهم من يحب المرء .. لا يحبه إلا لله ولله فقط.
جاء أن الحب في الله تعالى أفضل الأعمال, روى أبو داوود رحمه الله في سننه من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله).
وأَحبِب لحبّ الله من كان مؤمنــــًا ** و أبغض لبغض الله أهل التّمرّد
وماالدين إلا الحبّ والبغض والولا** كذاك البرا من كل غاو ومعتدي
المحبة في الله ليست كلامًا يقال باللسان .. بل رابطة وثيقة, تقوم على الخير والتواصي عليه, فيأخذُ المحب بيد صاحبه في الدنيا حتى يدخل معه الجنة.
روى الترمذي وقال حسن صحيح من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: المتحابُّونَ في جلالي لَهُم مَنابرُ مِن نورٍ يغبطُهُمُ النَّبيُّونَ والشُّهداءُ).
المتحابون في الله .. يحبهم الله, قال الله عز وجل كما في الحديث القدسي: (وَجَبَتْ محبتي للمُتَحابِّينَ فِيَّ، والمتجالسين فِيَّ، والمتزاورين فِيَّ، والمتباذِلين فِيَّ).
المتحابون في الله تبقى محبتهم وإن تباعدت الأبدان, ولسان حال الواحد منهم يقول:
أبلغ أخانا تولى الله صحبته *** أني وإن كنت لا ألقاه ألقاه
وأن طرفيَ موصولٌ برؤيته *** وإن تباعد عن سكناي سكناه
يا ليت يعلمُ أني لست أذكره *** وكيف أذكره إذ لست أنساه
أيها الإخوة .. أما الخَصلة الثالثة من الخصال التي ينال بها المرء حلاوة الإيمان فهي أن يكره أن يعود في الكفر كما يَكرهُ أن يُقْذَفَ في النارِ.
نعم.. تبلغ محبة المؤمن للهِ تعالى ولرسولِه صلى الله عليه وسلم ولهذا الدين إلى مرتبة لو حُرِّق معها أو ألقي في النار ما رده ذلك عن دينه.
روى ابن ماجه وهو حديث حسن عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: (أوصاني خليلي صلَّى اللَّه عليْهِ وسلَّمَ أن لاَ تشرِكَ باللَّهِ شيئًا وإن قُطِّعتَ وحُرِّقتَ).
وقد أخبر الله عن أصحاب الأخدود بما أخبر به وقد كانوا فَتنوا المؤمنين والمؤمنات وحرَّقوهم بالنار ليرتدوا عن الإيمان، فاختاروا الإيمان على النار.
روى مسلم في صحيحه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن امرأة منهم أُتي به ومعها صبي لها يرضع فكأنها تقاعست أن تلقي نفسها في النار من أجل الصبي, فقال لها الصبي: يا أمه! اصبري فإنك على الحق.
قال ابن رجب رحمه الله: " واعلم أن القدر الواجب من كراهة الكفر والفسوق والعصيان هو أن ينفِر من ذلك ويتباعد منه جَهدَه ويعزم على ألا يُلابِس شيئًا منه لعلمه بسخط الله له وغضبه على أهله".
فهذه عباد الله وصفة نبوية للسعادة الأبدية .. وقمة البيان لحلاوة الإيمان.. رزقنا الله جميعاً حبه ولَذة لقائه إنه سميع قريب مجيب.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فاللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المشاهدات 879 | التعليقات 0