وصفة التفوق

سامي بن محمد العمر
1446/02/11 - 2024/08/15 21:02PM

وصفة التفوق

أما بعد:

"لقد كان هذا الفتى أعقل مني"

اعترافٌ صادق، وَوصفٌ مؤثرٌ؛ صادرٌ من طالبٍ في حقِّ زميله.

فأحدهما: أحاطَ نفسَه بسياجِ الكسلِ والفتورِ، فجرفته الهمةُ الضعيفةُ في أوديةِ الحياةِ يعيش فيها خاملاً كالآخرين.

والثاني: تدرّع بالتوكل على الله، وامتطى صهوةَ العزيمةِ الوَثّابة، وتسلحَ بالصبر، وأتقنَ وصفةَ التفوق فارتقى في سُلم المعالي ما شاء الله له أن يرتقي.

فاسمعه وهو يقول:

 لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت لرجل من الأنصار: هلم نسأل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجبًا أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مَنْ ترى؟

فتركتُ ذلك وأقبلتُ على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتيه وهو قائلٌ - أي: في القيلولة -، فأتوسد ردائي على بابه، فتسْفي الريحُ عليَّ التراب، فيخرج فيراني، فيقول: ... ألا أرسلتَ إليَّ فآتيك؟ فأقول: أنا أحقُّ أن آتيكَ فأسألَك.

قال: فعاش الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناسُ عليَّ، فقال: هذا الفتى كان أعقلَ مني([1]).

فهذا الفتى العاقلُ هو الذي وصفه سعدُ بن أبي وقاصٍ -رضي الله عنه- بقوله:

"ما رأيتُ أحدًا أحضرَ فَهْمًا، ولا ألبَّ لُبًّا، ولا أكثرَ علمًا، ولا أوسعَ حلمًا منه، ولقد رأيت عمر -رضي الله عنه- يدعوه للمعضلات فيقول: قد جاءت مُعضلةٌ، ثم لا يُجاوِزُ قولَه، وإنَّ حوله لأهلَ بدرٍ([2]).

وتلك مكانة لا تُنالُ باللهوِ وراحةِ الجسد؛ لقد جعل من نفسه علامة استفهام دائمة؛ تستنطق العلم من أفواه العلماء وتستخرج الحِكم من صدور الحكماء؛ ليتلقفها بقلبٍ يفهمُ ويعقل، ويفحصُ ويحلل؛ حتى سبق عقلُه سِنّه، وتوفرت له حكمةُ الكبار وأناتُهم وحصافتُهم، فكان أميرُ المؤمنين عمرُ -رضي الله عنه- يُلقبه بفتى الكُهول!

ذاكم أيها الطلاب هو قدوتكم في العلم والتحصيل؛ الفتى الطموح، والهمةُ المتوقدة، والعقلُ الثاقب: عبد الله بن عباس رضي الله عنه.

وكلُّ طالب مهما كان مستواه، ومهما بلغت قدراته؛ يتطلع للمعالي، ويسمو للارتقاء؛ لكن َّكثيرا منهم يخذلُه حصانُ عزمه، ويجهلُ معالمَ الطريقِ الصحيح حتى ترضى نفسه بالمنازلِ الدنية في كل سجال، وتقبلَ المواضعَ المتأخرة في كل سباق، وتعشقَ ذيلَ القائمة في كل منافسة!

{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32]

فهاكم إذن وصفةَ التفوق من لسان ابن عباس -رضي الله عنه- وقد سُئل: كيف أصبت هذا العلم؟ فقال: «بلسانٍ سؤول، وقلبٍ عقول»([3]) .

فاللسان السؤول: أمارة الحرص والجد، وعلامة التحضير والاستعداد، ورمز الرغبةِ المُلِحة في العلم؛ والأسئلة العلمية لا تُخترعُ اختراعاً، وإنما هي إشكالات تنقدح في الذهن من كثرة المطالعة، والقراءة المسبقة في الدروس التي سيلقيها المعلمون.

والقلب العقول: هو المكان الذي يحتوي ثلاثَ قوى لا يصحُّ إهمالها:

  القوةُ الحافظة: التي تُحكم ثبات المعلومات.

والقوةُ الذاكرة: التي تسترجع تلك المعلومات حين الحاجة لها.

والقوةُ المفكِّرة: التي تحلل وتربط بين المعلومات المتنوعة في الذهن([4]).

وطلاب كلِّ زمانٍ يملكون القوى الثلاث بما فطرهم الله عليه:

{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]

فأصحاب التفوق يُنشِّطون قواهم بكثرة التمرين والأشغال، وآخرون يميتونها بطلب الراحة والإهمال.

فإن كنتَ ترجو كبارَ الأمورِ *** فأعدِدْ لها همةً أكبرا

طريقُ العُلا أبداً للأمامِ *** فويحك هلْ ترجعُ القَهْقرى؟

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان))([5]).

بارك الله لي ولكم ....

الخطبة الثانية

أما بعد:

 السالك في طريق النجاح والإبداع.. يعلم أنه طريق كثير المشاقِّ عُلوًّا وانحدارًا، ضِيقًا واتساعًا.. فيتحلى بالصبرِ والإيمانِ والثقةِ والاطمئنان.

ويسأل الله تمامَ نجاحه وإبداعه، وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك خير المسألة وخير الدعاء وخير النجاح وخير العمل وخير الثواب وخير الحياة وخير الممات)([6]).

والسالك في طريق النجاح والإبداع.. يتجنب كلماتِ التحطيم؛ كما تجنّبها ابن عباس في قول الرجل له:

"واعجبًا أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من ترى؟"

والسالك في طريق النجاح والإبداع.. يعلم أن لذة التفوق والنجاح ستنسي تعب التحصيل والأعمال، ولكنَّ الفشلَ والتأخرَ لن ينسي قبح التفريط والإهمال.

{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]

والسالك في طريق النجاح والإبداع.. سيسمع من زملائه يوماً:

لقد كنت يا فلانُ أعقلَ منّا

 

اللهم اهدنا فيمن هديت..

 

 

 

 

 

 

([1]) طبقات ابن سعد "2/ 367، 368"، المستدرك "3/ 538"، وصححه ووافقه الذهبي، وأورده الهيثمي في "المجمع" "9/ 277" وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

([2]) طبقات ابن سعد "2/ 369".

([3]) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل (2/ 970)

([4]) الإبداع العلمي (ص39).

([5]) رواه مسلم.

([6]) رواه الطبراني وقال الهيثمي: رجاله ثقات،

المرفقات

1723744927_وصفة التفوق.docx

1723744927_وصفة التفوق.pdf

المشاهدات 743 | التعليقات 0