وصايا وهدايات في شأن الشائعات
محمد بن عبدالله التميمي
الخطبة الأولى
الحمد للهِ العليِّ الأعلى، عالمِ السرِّ والنجوى، ومحصي أعمالِ العبادِ فلا شيء عليه يَفُوتُ ولا يَخفى، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الألوهية والربوبية والأسماء الحُسنى والصفات العُلى، وأشهد أن نبيَّنا وقدوتَنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، النبيُّ المصطفى، والرسولُّ المُجتبى، والخليلُ المُرتَضَى، بلَّغ رسالة ربه فما ضَلَّ وما غَوَى، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى}، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه مصابيحِ الدُّجى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فيا عباد الله، إن خيرَ الوصايا، وصيّةُ رب البرايا، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ}، فاتقوا الله رحمكم الله، فبالتقوى العصمةُ من الفتن، والسلامةُ من المحن، وقد قال طلْقُ بنُ حبيب رحمه الله: "اتقوا الفتن بالتقوى".
عباد الله.. أَمَرَ اللهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يَقْبَلُوا أَيَّ قَوْلٍ يَتَّصِلُ بِمَسَامِعِهِمْ إِلَّا بَعْدَ التَّثَبُّتِ مِنْهُ وَالتَّحَرِّي؛ لِئَلَّا يَقَعُوا فِي الْمَحْظُورِ مِنْ إِفْسَادِ الصِّلَاتِ، وَإِحْدَاثِ الْجَفْوَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ أَيْ: تَثَبَّتُوا، فَقَدْ يَكُونُ الْمُخْبِرُ بِهِ مُغْرِضًا ﴿أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ عَلَى تَرْكِ التَّأَنِّي.
إنَّ خَوضَ الناسِ للحديثِ باللسان أو البَنان، في كلِّ بابٍ وشأن، أَمرٌ معتادٌ لكنه ضار جدًّا، خاصةً إذا هُمْ به شُغلوا، وله أذاعوا، ولا يعرفون حقيقةَ ضررِ ما قالوا، ولا تَحْصُل به مصلحة للمسلمين، بل قد يفتك مجتمعاتهم ويُوهن قواهم ويُقْلِقُ بالهم، وقد وصف اللهُ المنافقين أو ضِعَافَ الإيمانِ فقال سبحانه: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ} فإذا جاءهم خبرٌ عن أمرٍ في مصلحة المسلمين، أو عن أمرٍ مَخُوْفٍ مما يُكره فتجد مَن يُسرِعُ بإذاعته وإشاعته ونشره بين الناس، فهؤلاء قد أنكر الله سبحانه حالَهم، وعَجّب رسولَه ﷺ في ابتداء هذه الآيات منهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } إلى أن صار حالُهم إلى هذه الحال التي أنكرها الله، فيُخبرون بكل ما يَطرُق آذانَهم حتى صاروا كما قال الله في ذكر مسارعة المسارعين في إفشاء قَالَةِ السوء: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} ومعلومٌ أنَّ التَّلقِّي إِنَّما يكون بالأسماع، ولكن أضافه الله -تبارك وتعالى- إلى الأَلْسُنِ حتى كأنَّ الخبر لم يمر عبر آذانهم فوقع على ألسنتهم مباشرة، أو لأنهم إنما يتلقونه حينما يتلقونه لإذاعته ونشره، فصار ذلك كالواقع على الألسن، وقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: "كفى بالمرء كذباً أن يُحدث بكل ما سمع"، وفي سنن أبي داود: "بئس مطية الرجل زعموا".
أيها المؤمنون: الشائعات آفةٌ خطيرة، وسلاحٌ فتاك مدمِّر يجب على عباد الله المؤمنين أن يكونوا منها على حذر شديد؛ فإن لها مضرة عظيمة على المسلمين في دينهم وخُلقهم وتعاملهم ومصالحهم وصِلاتهم وروابطهم، وغير ذلك من شؤونهم، والشائعات مبنيّة على سوء ظن بالمسلمين، والله عز وجل يقول: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظَّنّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ}، وقد أخرج الشيخان في صحيحيهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث"، فعلى المسلمِ أنْ يَكون المسلم حَسَنَ الظنِّ بالمسلمين، ما أنه لا يرضى ذلك لنفسه، والمسلمون بالجسد الواحد، وقد قال الله تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا}.
ومن الهدايات الشرعية في هذا: أن يكف المرء لسانه من نقل الشائعات؛ فلا يقولها ولا ينقلها ولا يرتضيها ولا يقبلها: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا}، فهذا أدبٌ عظيم يكف المرء لسانه، ويصون منطقه، ويمنع نفسه من نقلها وتناقلها ونشرها وإشاعتها.
ومن الهدايات الشرعية: أنْ يَذكُرَ المرءُ أنَّ اللهَ -عز وجل- سائِلُه يومَ القيامة عما يقول: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}، فتأكَّد وتثبَّت، فإن الإنسان مسؤول عما استعمَل فيه سمعه وبصره وفؤاده، فإذا استعمَلها في الخير نال الثواب، وإذا استعملها في الشر نال العقاب.
ومن الهدايات الشرعية: أن الشائعات إذا وردت على الناس وكانت تتعلق بأمنهم وخوفهم ومصالح المسلمين وشؤونهم العامة، فليردُّوا أمرها إلى أولي الأمر وأهل العلم الراسخين الذين يَعُون حقائق الأمور، فقد قال الله -عز وجل- مرشدًا إلى هذا الأدب العظيم: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}
نسأل الله -جل في علاه- بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يحفظنا في أنفسنا وفي أوطاننا، وأن يعيذنا من شر الشائعات وأهلها، وأن يجمع كلمتنا على الحق والهدى، وأن يهدينا أجمعين إليه صراطًا مستقيما.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله كثيراً، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: عباد الله اتقوا الله في اللحظ واللفظ، فلا تتشوَّفوا للأخبار، وإذا بلغكم منها شيء فلا تطيروا به كل مطار، فكمْ مِن إشَاعَةٍ ضَيَّعَتْ أَنْفُسًا، وأَهْدَرَتْ أَمْوَالاً، وهَدَّمَتْ أُسَرَاً وَقَطَّعَتْ أَرْحَامًا وفَرَّقَتْ صِحَابًا، وكَمْ أَثَارَتْ فِتَنًا وَبَلَايَا، وَأَعْقَبَت رَزَايَا؟! وَفِي صَحِيْحِ البُخَارِيِّ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ حِيْنَ أُسْرِيَ بِهِ رَأَى رَجُلاً يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ. فَقِيلَ لَهُ: هُوَ الرَّجُلُ يَكْذِبُ الْكَذْبَةَ فَتَنْتَشِرُ فِي الآفَاقِ.
وتعلمون ما في الابتلاء بانتشار الشائعات، في هذا الزمان عمَّا عداه من الأوقات، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فالواجب أن يقي المسلم دينه، ويحمي عرضه، ويحفظ سمعه وبصره، ومن المصادر الموثوقة للمعلومة العامة يَستقي، ومن المُغرِضين يتّقي.
وصلُّوا عباد الله وسلِّموا صلاة وسلاما دائمين وزيادةً منهما في هذا اليومِ سيدِ الأيام، على سيدِ الأنام، محمدِ بنِ عبدِ الله، كما أمركم الله، فقال جلَّ في عُلاه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
* مجموعة لا مرقومة
المرفقات
1703181790_وصايا وهدايات في شأن الشائعات.docx
1703181790_وصايا وهدايات في شأن الشائعات.pdf