وَصَايَا مِنْ رِحَابِ الحِكْمَةِ (2) 28/ 06/ 1439 هـ

أبو بدر
1439/06/28 - 2018/03/16 03:24AM

وَصَايَا مِنْ رِحَابِ الحِكْمَةِ (2)

28/ 06/ 1439 هـ

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد: فمن أراد فلاحاً في الدنيا وفوزا ونجاحا في الآخرة، فعليه بلزوم تقوى الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)

 إخواني الكرام: كان حديثنا في الجمعة الماضية عن ثلاث وصايا نبعت من لقمان الحكيم ذلك العبد الصالحٍ الذي آتاه الله الحكمة (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)،  كانت وصاياه الثلاث: تحذير ابنه من أعظم الذنوب على الإطلاق، وهو الإشراك بالله عز وجل، ثم الوصية ببر الوالدين، ولعظم جرمِ العقوق جعل التحذير منها قريناً للتحذير من الشرك، وثلّث وصاياه بالخوف من الله عز وجل ولزوم مراقبة العبد لربه في السر والعلن، والقول والعمل فكل صغيرٍ وكبير لا يخفى على اللطيف الخبير، فكفى بالله شهيدا، وكفى بنفسك اليوم عليك حسيبا  فعملك مهما دقّ محسوب، ومهما أخفيته مشاهَدٌ مكتوب، ويوم القيامة يظهره لك علامُ الغيوب.

 ولعظم وصايا ذلك الأب الحكيم المشفق لابنه نستكمل وإياكم اليوم بقية تلك الوصايا ولا يزال استعطاف الوالد لولده مستمرا، ولا تزال دعوته بحكمته وموعظته الحسنة متصلة  (يا بني)

وهكذا ينبغي أن يكون كلُ داعية ممتثلاً لأمر مولاه عز وجل:

(ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)

 

فابذل ما طُلب منك، وانتظر أن ترى الثمرة فيمن دعوته ونصحته ووعظته وأرشدته، إن كان الله قد كتبها له، وإن لم تكتب له، فقد ثبت أجرك على الله بإذن الله

فلا تذهب نفسك عليه حسرات، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.

 

انتقل لقمان في وصاياه الحكيمة  مع ابنه إلى أعظم وصيةٍ من وصايا السعادة، سعادة الدنيا وفلاح الآخرة،  فمن التزم بهذه الوصية العظيمة فليبشر في دنياه ببدنٍ نشيط، وذهنٍ صافٍ، وعقلٍ مسدّد، ووقتٍ منظّم، ورزقٍ طيّب، وحياة اجتماعية هنيئة: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ) وكفى بالصلاة ناهيةً عن الفحشاء والمنكر

 

كتب عمر بن الخطاب إلى عماله إن أهم أمركم عندي الصلاة فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، وصدق والله أميرُ المؤمنين فاروق الأمة: فالصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام التي عليها بناؤه، وهي الفارق بين المسلم والكافر، فمن تركها فهو كافر في الراجح من أقوال أهل العلم.

وقد أورد الترمذي وغيره: أن أول ما يحاسب عليه العبد من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح ونجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر.. (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ)

 

( وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ) ولأن كل من سار على هذا الدرب، وامتثل توجيه خالقه عز وجل، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا بدّ أن يجد شيئاً من الأذى إما ِمن جاهلٍ لا يعرف الحق، وإما من ضالٍ مضلٍ متبعٍ لهواه، أو من ضعيفٍ كسولٍ  بطيء الاستجابة كل أولئك يحتاجون إلى من يصبر على أذاهم لذلك  قال: (وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ ) أي في سبيل الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)

 

ثم انتقل للوصية بما يصلح حياته الاجتماعية وتعامله مع الناس، فبدأ بآفة الآفات وممزق العلاقات، الكِبر والتعالي على الناس، فقال:  (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ)  لا تمل خدك للناس كبرا عليهم وإعجابا واحتقارا لهم . ولا تلوي شدقك إذا ذكر الرجل عندك كأنك تحتقره ; بل أقبل عليهم متواضعا كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن جرير : وأصل الصعر : داء يأخذ الإبل في أعناقها أو رؤوسها ، حتى تلفت أعناقها عن رؤوسها ، فشبه به الرجل المتكبر

 

(وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ ) أي: لا تكن متكبرا جبارا عنيدا ، لا تفعل ذلك يبغضك الله; ولهذا قال: ( إن الله لا يحب كل مختالٍ فخور ) أي : مختال معجب في نفسه ، فخور على غيره ، قال تعالى : ( ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ) [ الإسراء : 37 ] ،

 

ثم لما بيّن له المشية البغيضة، والهيئة المقيتة، بيّن له ضدّها وكيف ينبغي له أن يكون في مشيته فقال: ) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) والقصد في المشي هو التوسط بين الإسراع والبطئ

 

واغضض من صوتك أي انقص منه ; لا تتكلف رفع الصوت وخذ منه ما تحتاج إليه ; فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلف يؤذي . والمراد بذلك كله: كن متواضعاً

إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ  أي: أقبحها وأوحشها. فمن الأدب مع الله تعالى ترك الصياح في وجوه الناس تهاونا بهم إن أنكر الأصوات لصوت الحمير أي لو أن شيئا يهاب لصوته لكان الحمار ; فجعلهم في المثل سواء .

 

ثم لنا وقفة مع الكِبر والمتكبرين: فعلى ماذا يتكبر المتكبر؟

أيتكبر على خلق الله من أجل أصله وشرفه الذي لم يكن له أي دورٍ في اختياره؟

ذلك الأصل والنسب الرفيع الذي لم ينفع أبا لهب  عمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد خلّد الله عز وجل ذكره السيئ بكنيته المعروفة في آيات تتلى إلى قيام الساعة " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ " المسد 1-5 .

وعلى ماذا يتكبر المتكبر؟

أيتكبر على خلق الله من أجل مالِه وجاهه وغناه؟

فلا أبلغ ولا أوعظ لمثل هذا من قصة قارون الذي بلغ من الغنى والثروة ما يجاوز الوصف: إذا كانت مفاتيح الخزائن يعجز عن حملها العصبة من الرجال الأقوياء فكيف بالخزائن وما فيها من كنوز وأموال؟! ومع ذلك كله لم تنفعه ولم تغنِ عنه من الله شيئاً عندما طغى وتكبّر (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ " القصص 76-81 .

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقُوْلُ قَوْلِي هَذا وَأسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيْمَ لَيْ وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِيْنَ، فَاسْتَغْفِرُوْهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ.

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه وأشهد ان محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وإخوانه وسلم تسليما كثيرا أما بعدُ:

 

فعلى ماذا يتكبر المتكبر؟

أيتكبر على خلق الله من أجل قوته وجبروته؟ فأين هو من قصة عاد، الذين بلغ كبرهم وعتوهم وطغيانهم أنهم لم يروا في خلق الله أجمع من هو أشد منهم قوة. ثم ماذاء هل أغنت عنهم قوتهم التي غرّتهم من الله شيئاً؟! فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَىٰ ۖ وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ (16)

 

وعلى ماذا يتكبر المتكبر؟

أيتكبر على خلق الله من أجل منصبه وسلطانه وجاهه؟ فهل هو أعلى منصباً وسلطاناً أم فرعون؟! تكبّر وطغى، فلم ينفعه ملكه ولا رئاسته فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى " النازعات 15-26 .

 

وإن من أشد ما يقف أمامه المرء متعجباً، ذلك المتكبر المسكين: الذي لا يملك من دواعي الكبر شيئاً: فلا مال ولا جمال ولا منصب ولا جاه فهذا هو الغريب الذي يدعو للشفقة عياذا بالله ولذلك كان من الثلاثة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر.)

 

وحتى لا يهلك المتكبر منا، عليه أن يراجع نفسه، ويحاسبها قبل أن يسمح لها بالكبر على خلق الله،

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر..

 

هذه وصايا لقمان العشر لابنه، خلدها الله عز وجل حتى بلغتنا وستبقى إلى قيام الساعة نعمةً منه وفضلاً، ودعوةً لنا بالاستفادة منها وتطبيقها منهجاً في حياتنا حيث جمعت أمهات الحِكم والوصايا:

فالتوحيد أولها وهو أصل الدين، ثم بر الوالدَين، ثم مراقبة الله عز وجل في السر والعلن، وعند كل عمل من خيرٍ أو شر، يتبعها المحافظة على الصلاة والصبر، ليسهل علينا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ثم الحذر من التكبر والطغيان، ولزوم الهدوء والتواضع، والسكينة لنكون ممن يحبهم الله

 

اللهم اعصمنا من الوقوع فيما يغضبك يا رب العالمين، اللهم طهر قلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور

 

اللهم أعز الإسلام..

المشاهدات 1427 | التعليقات 0