وصايا من رِحاب الحكمة (1)
أبو بدر
فبماذا بدأ لقمان وصاياه لفلذة كبده؟ ناداه أولاً بنداء الأبوة والشفقة والحرص والمحبة والرحمة فقال: يا بنيّ (تصغيراً: لإظهار شفقته عليه ورحمته له وبره به) ولم يقل يا ابني ولم يناده باسمه
وكم والله نحتاج إلى هذا الأسلوب مع أبنائنا فلا الشدةُ المفرطة معهم تفيد ولا التساهل المطلق ينفع، وإنما نؤثر فيهم بأسلوب الوالد المشفق الناصح الرحيم الحريص، ونبدأ كل حوار بيا بنيّ ويا بنيّتي.
فمهما كان جُرمُ الولدِ عظيما وخطؤهُ شنيعاً لا بدّ من هذا التعامل الطيب معه لتحقيق الهدف ومعالجة الخطأ كما حصل مع لقمان وابنه، فقد أورد بعضُ المفسرين أن ابن لقمان كان مشركاً ولا ذنب أعظمُ من الشرك فلازال ينتشله بمواعظه الحسنة حتى أسلم
أولى وصاياه كانت أعظمَ وصاياه: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) فلا طاعة تُقبل مع الشرك، وكل ذنب دون الشرك يغفُر لمن شاء الله، إلا الشرك (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا)
والشرك المراد هنا: هو أن يجعل الإنسان لله ندا وشريكاً؛ إما في أسمائه وصفاته، فيسميه بأسماء الله ويصفه بصفاته، قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الأعراف/180 ، ومن الإلحاد في أسمائه : تسمية غيره باسمه المختص به أو وصفه بصفته كذلك.
وإما أن يجعل له ندا في العبادة بأن يضّرع إلى غيره تعالى ، من شمس أو قمر أو نبي أو ملك أو ولي مثلا بقربة من القرب ، صلاة أو استغاثة به في شدة أو مكروه ، أو استعانة به في جلب مصلحة ، أو دعاء ميت أو غائب لتفريج كربة ، أو تحقيق مطلوب ، أو نحو ذلك مما هو من اختصاص الله سبحانه - فكل هذا وأمثاله عبادة لغير الله ، واتخاذ لشريك مع الله، قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) الكهف/110 .
وإما أن يجعل لله ندا في التشريع، بأن يتخذ مشرعا له سوى الله ، أو شريكا لله في التشريع ، يرتضي حكمه ويدين به في التحليل والتحريم؛ عبادة وتقربا وقضاء وفصلا في الخصومات، أو يستحله وإن لم يره دينا، وفي هذا يقول تعالى في اليهود والنصارى : (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) التوبة/31 ، وأمثال هذا من الآيات والأحاديث التي جاءت في الرضا بحكم سوى حكم الله ، أو الإعراض عن التحاكم إلى حكم الله والعدول عنه إلى حكم غيره
فهذه الأنواع الثلاثة هي الشرك الأكبر الذي يرتد به فاعله أو معتقده عن ملة الإسلام، فلا يصلى عليه إذا مات، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يورث عنه ماله، بل يكون لبيت مال المسلمين، ولا تؤكل ذبيحته.
أقُوْلُ قَوْلِي هَذا وَأسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيْمَ لَيْ وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِيْنَ، فَاسْتَغْفِرُوْهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه وأشهد ان محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وإخوانه وسلم تسليما كثيرا أما بعدُ:
فبعد أن أوصى لقمان ابنه باجتناب أعظم ما يفسد علاقة المخلوق بخالقه وهو الشرك، انتقل لعلاقة المخلوق بالمخلوق وأقربُ الخلق للعبد وأعظمُ الأقارب عليه فضلا هم والدَيه وهما أحق الناس بحسن صحبته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لذلك ثنى بالوصية بهما بعد النهي عن أعظم الذنوب على الإطلاق وهو الإشراك بالله،
وقد ورد هذا كثيراً في القرآن الكريم ذلك لبيان عظيم حق الوالدَين قال عز وجل على لسان لقمان: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ ) ثم أشار للأم تخصيصاً لها لعظم حقها وكبير جهدها وشدة حاجتها لوليدها قال (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ) أي ضعفاً على ضعفٍ فهي في كل يومٍ يزداد وزنه في بطنها ويزدادُ قوةً وهي تزداد بذلك ضعفاً ومشقة في معاناة شديدة لا تخفى على عاقل
(وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) (أي تربيته وإرضاعه ثم فطامه في عامين كاملين من سهرٍ وتعبٍ وجهدٍ وعناءٍ وحرصٍ ومتابعة ومشقة) وبعد أن وصى الإنسان بوالديه أمر سبحانه المسلمَ بشكره سبحانه على نعمه ومنها نعمة الوالدين ثم اشكرهما ببرهما جزاء ما صنعا من أجلك من معروفٍ قد فطرهما الله عز وجل عليه أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ، وما دام الله عز وجل قد أوصى العبد بهذه الوصية وهي بر الوالدين ذكّر الله عز وجل عباده بأن إليه المصير، وعندما يصير العبد إليه سيسأله عن وصيته له هل نفذها فيثيبه أم خالفها وعق والديه فيعاقبه سبحانه إِلَيَّ الْمَصِيرُ.
قال سفيان بن عيينة في هذه الآية : من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله ، ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات الخمس فقد شكر الوالدين .
ثم ماذا يعمل المسلمُ إن دعاه والداه إلى معصية الله سبحانه هل يطيعهما براً ويعصي الله عز وجل؟ أم يعقهما مقابل إعراضهما عن الله عز وجل؟
تأملوا عظيم وصية الله عز وجل لنا بوالدينا قال سبحانه في استكمال وصية لقمان لابنه بوالديه: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)
حتى وإن اجتهد الوالدان لصد ابنهما عن الإسلام والذهاب به إلى دركات جهنم، فإنه لا يطيعهما في معصية الله ولكنه في نفس الوقت مع كفرهما فإنه يحرم عليه أن يعقهما بل ويجب عليه أن يبرهما ويصاحبهما في الدنيا بالمعروف ويحسن عشرتهما ويسعى في برهما، فما أعظم هذا الدين أيها الأحبة وما أعظم حق الوالدين.
هذا في حق الوالدين الكافرين، فكيف بالله عليكم في حق الوالدين المسلمين المشفقين على ولدهما المحبين له البارين به؟ فويل ثم ويل لكل عاقٍ لوالديه إن لم يتب ويعفو الله عنه.
ثم أوصاه بالوصية الثالثة وهي وربي وصية مخيفة، تغرس المراقبة الذاتية والهيبة والإجلال والخوف من الله عز وجل في قلب كل من آمن بها وعقل معناها: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)
يا بنى إن ما تفعله من حسنة أو سيئة، سواء أكان في نهاية القلة والصغر، كمثال حبة من خردل، أم كان هذا الشيء القليل مخبوءا في صخرة من الصخور الملقاة في فجاج الأرض، أم كان في السموات أم في الأرض، فإن الله- تعالى- يعلمه ويحضره ويجازى عليه إِنَّ اللَّهَ- تعالى- لطيف خبير أى: محيط بجميع الأشياء جليلها وحقيرها، عظيمها وصغيرها.
فأين من غره ستر ظلام الليل وهدوء المكان وسفر أهل البيت وتجرأ ليتسلق أسوار بيت أحد جيرانه ليسرق منه ما خف حمله وغلى ثمنه؟!
أين سيذهب من هذه الآية إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ
وأين منها من زادت فيه الثقة وخفت عليه الرقابة فأطاع نفسه ليختلس من أموال الناس التي وضعت امانة تحت يديه ما شاء دون أن يعلم عنه أحد؟ أين هو من هذه الآية إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ
وأين منها من أشعل نار الفتنة بين الأحبة والأقارب بوشاية خفية لا يعلم عنها أحد حتى شاعت الفرقة وانقطع الوصل فأينه من هذه الآية (إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ)
وأين منها من كذب، وغشّ وخان وسرق وشى وفتن وحرّف وأشاع المنكر وتجسس وتحرّش أمور كثيرة قد تخفى على الناس ولكنها وإن كانت مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ سيَأْتِ بِهَا اللَّهُ سبحانه.
فالله - سبحانه- لا يخفى عليه شيء في هذا الكون، مهما دق وقل وتخفى في أعماق الأرض أو السماء.قال- تعالى-: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ .
اللهم اعصمنا من الوقوع فيما يغضبك يا رب العالمين، اللهم طهر قلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...