وصايا لقمان

إبراهيم بن حمد العقيل
1440/10/30 - 2019/07/03 23:41PM
الحَمْدُ للهِ يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ، ومَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، وأشْهَدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لَا شَريكَ لهُ، وأشهَدُ أنَّ نبيَّنَا محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ أجمعينَ، وعلى التابِعِينَ ومَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ مَعاشِرَ المؤمنينَ: فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ أَجْمَلُ المواعِظِ، وأحسَنُ القَصَصِ؛ تَهْدِي السَّائِرينَ، وتَرُدُّ الحائِرِينَ.
في قَصَصِ القُرآنِ العِبَرُ: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)، ومِنْ هذِهِ العِبَـرِ ما سطَّرَهُ القُرآنُ الكريمُ في سُورةِ لُقمانَ مِنْ وَصَايا ومَواعِظَ جامعةٍ تَفيضُ بالحِكْمَةِ، تتعلَّقُ بالعقيدةِ والعبادةِ والسُّلوكِ والأخلاقِ.
ولقمانُ عَبْدٌ مِنْ عبادِ اللهِ الصالحينَ، أعْلَى اللهُ سبحانَهُ قدْرَهُ، ورفَعَ شأنَهُ، وأثْنَى عليهِ فِي كتابِهِ، وسُمِّيَتْ سورةٌ مِنَ القُرآنِ الكريمِ باسْمِهِ.
قالَ اللهُ  فيهَا: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ). والحِكْمَةُ: العِلْمُ بالحقِّ على وجهِهِ وحِكْمَتِهِ، فهِيَ العِلْمُ بالأحكامِ، ومَعرِفَةُ ما فِيها مِنَ الأسْرَارِ والإِحْكَامِ، فقَدْ يكونُ الإنسانُ عالِمًا، وَلَا يَكونُ حَكِيمًا.
ولما أَعْطاهُ اللهُ هذِهِ المنَّةَ العظيمةَ، أمرَهُ (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ), على مَا أَعْطاكَ، ليُبارِكَ لكَ فيهِ، ولِيزيدَكَ مِنْ فضلِهِ، وأخبَرَهُ أنَّ (مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ), فشُكْرُ الشاكرينَ يعودُ نفعُهُ عليهِمْ، وأنَّ مَنْ كفرَ فلمْ يشكُرِ اللهَ، عادَ وَبالُ ذلِكَ عليهِ. واللهُ غنيٌّ عنهُ حميدٌ. فشُكْرُ اللهِ إِنَّما هُوَ رصيدٌ مذخورٌ للشاكِرِ ينفَعُهُ هوَ، واللهُ غنيٌّ عنهُ. فاللهُ محمودٌ بذاتِهِ ولوْ لمْ يحمَدْهُ أحدٌ مِنْ خلقِهِ.
عبادَ اللهِ: لقَدْ قَدَّمَ لقْمانُ نُموذَجًا عَمَلِيًّا للآباءِ في تعامُلِهِمْ معَ أبنائِهِمْ, ونُصحِهِمْ لهُمْ، وذلِكَ حينَ وَعَظَ ابنَهُ: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ)؛ وقدْ أوجَبَ الإسلامُ على الآباءِ نُصْحَ أبنائِهِمْ ووَعْظَهُمْ وتوجيهَهُمْ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ).
لقَدْ كانَتْ مَواعِظُ لُقمانَ لابنِهِ عامَّةً, شَمِلَتْ أُمورَ الإيمانِ والعِبادةِ والأَخْلاقِ والدَّعوَةِ:
أمَرَهُ بالتوحيدِ والإيمانِ باللهِ، ونَهاهُ عَنِ الشِّرْكِ والكُفْرِ، وبيَّنَ لهُ ضرَرَ الشَّرْكِ وخَطَرَهُ: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ), فَلا أَفْظَعَ وأبْشَعَ مِمَّنْ سَوَّى المخلوقَ مِنْ تُرابٍ بمالِكِ الرِّقابِ، وسوَّى الذي لا يَمْلِكُ مِنَ الأمرِ شيئًا بمَنْ لهُ الأمرُ كلُّهُ، وسوَّى الناقِصَ الفقيرَ مِنْ جميعِ الوُجوهِ بِالرَّبِّ الكاملِ الغَنِيِّ مِنْ جميعِ الوُجوهِ، وسوَّى مَنْ لمْ يُنْعِمْ بمثقالِ ذرَّةٍ مِنَ النِّعَمِ بِالَّذِي ما بِالخَلْقِ مِنْ نعمةٍ في دينِهِمْ، ودُنْياهُمْ وأُخْراهُمْ، وقُلوبِهِمْ، وأَبْدانِهِمْ، إِلَّا منْهُ، ولَا يَصْرِفُ السُّوءَ إِلَّا هُوَ، فهَلْ أعظمُ مِنْ هَذا الظُّلْمِ شَيْءٌ؟!
ثُمَّ قَرَنَ بِوَصِيَّتِهِ إِيَّاهُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ الْبَرَّ بِالْوَالِدَيْنِ، وخَصَّ أمَّهُ بالذِّكْرِ، وطالَبَهُ بالبِرِّ بِهِمَا، والإحْسَانِ إِلِيْهِمَا، وطاعَتِهِمَا، ومصاحَبَتِهِمَا بالمعْرُوفِ؛ حتَّى وإنْ كانا كَافِرَيْنِ، (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
ثُمَّ انتَقَلَ يُعَرِّفُ لقمانُ ابنَهُ عَلى اللهِ، ويدلُّهُ على بعْضِ صفاتِهِ، ويُقرِّرُ عقيدةَ البَعْثِ والحِسابِ في الآخِرَةِ، ويَعرِضُ صورَةً عجيبَةً لعِلْمِ اللهِ الشامِلِ لكُلِّ شَيْءٍ، المحيطِ بكُلِّ شيءٍ، الَّذِي لَا يَنِدُّ عنْهُ شَيْءٌ مَهْمَا صَغُرَ: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ). أَيْ: إِنَّ الْمَظْلَمَةَ أَوِ الْخَطِيئَةَ لَوْ كَانَتْ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ (يَأْتِ بِهَا اللَّهُ), يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ، ويُجازِي عَلَيْهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ). فعِلْمُ اللهِ شاملٌ لكُلِّ شيءٍ, ولا يَغيبُ عَنِ اللهِ شيءٌ, فحَبَّةُ الخردَلِ –التي هِيَ مثالٌ لأصْغَرِ الأشياءِ- يعلَمُهَا اللهُ أيْنَمَا كانَ مَكانُها في هذِهِ الأرْضِ الواسِعَةِ, وتلكَ السَّماواتِ الشاسِعَةِ, وهوَ قادِرٌ على الإِتْيانِ بِها, وَلِهَذَا قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) أَيْ: لِطَيْفُ الْعَلَمِ، فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ الْأَشْيَاءُ وَإِنْ دَقَّتْ وَلَطُفَتْ وَتَضَاءَلَتْ، (خَبِيرٌ) بِدَبِيبِ النَّمْلِ فِي اللَّيْلِ الْبَهِيمِ.
وصَدَقَ مَنْ نَاجَى ربَّهُ قائلًا:
يَا مَنْ يَرَى مَدَّ البَعُوضِ جَنَاحَها *** فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ الْبَهِيمِ الأَلْيَلِ
وَيَرَى نِياطَ عُرُوقِها في نَحْرِهَا ***     وَالمُخَّ فِي تِلْكَ العِظَامِ النُّحَّلِ
وبعْدَ تَوجيهاتِهِ في العقيدةِ والإيمانِ، يُوصِيهِ بالعِبادَةِ: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ), بِحُدُودِهَا وَفُرُوضِهَا وَأَوْقَاتِهَا.
وتوجيهُ لقمانَ لابْنِهِ نحوَ الصَّلاةِ، يدلُّ على أهميَّةِ الصلاةِ؛ لأنَّها هيَ الصِّلَةُ بينَ العبدِ وربِّهِ.
ثُمَّ أمرَهُ بالدَّعْوَةِ إلى اللهِ: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ), ولا غَرابَةَ في ذلِكَ، فكُلُّ دينٍ لا ينتشِرُ إِلَّا مِنْ خِلالِ الدَّعْوَةِ، والنَّاسُ لا يَلتَزِمونَ بهِ إِلَّا مِنْ خِلالِ النُّصْحِ والإِرْشَادِ, والصَّالِحُ لَا يَرْضَى أنْ يكُونَ وحدَهُ صالِحًا، بلْ يحرِصُ على تَوصِيلِ الخَيْرِ والنَّفْعِ للآخَرينَ. وقدْ أشارَ القُرآنُ إلى وُجوبِ الدَّعوَةِ على الآخَرينَ بقولِهِ: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)
ويَلفِتُ نظرَكَ أنَّ اللهَ ذكرَ الأَمْرَ بالمعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ بعدَ إِقامَةِ الصَّلاةِ، فَبِالصَّلاةِ يتَّصِلُ بربِّهِ، ويستمدُّ منهُ القوَّةَ والجُرأةَ والثَّباتَ، وبالصَّلاةِ يتزوَّدُ بالزَّادِ الإيمانِيِّ الذي يُعينُهُ على القِيامِ بالدَّعْوَةِ والنُّصْحِ، وبالصَّلاةِ لا يَرْضَى المنْكَرَ ولا يَقْبَلُ بهِ، فيَنْهَى عنْهُ، وبالصَّلاةِ يُحِبُّ المعْرُوفَ فيَأْمُرُ بهِ.
ثُمَّ أرشَدَهُ إلى الصَّبْرِ على ما سيُصيبُهُ (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ)، وذِكْرُ الصَّبْرِ بعدَ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عنِ المنكرِ، يُشيرُ إلى حقيقةٍ قرآنيَّةٍ قاطعةٍ، وهِيَ أنَّ مَنْ دَعَا إلى اللهِ، ونَصَحَ النَّاسَ، وأمرَهُمْ بالمعروفِ ونَهاهُمْ عنِ المنْكَرِ، فإنَّهُ سيكونُ عرضَةً للإيذاءِ والابْتِلاءِ، حيثُ يَسْخَرونَ منْهُ، ويستهزِئُونَ بهِ، ويكذِّبُونَهُ، ويَضْطَهِدُونَهُ، ويُؤْذُونَهُ، ويَضْرِبونَهُ، ويتَّهِمُونَهُ، وقدْ يَقتُلونَهُ. فإِذَا لمْ يتزَوَّدْ لِذَلِكَ بِزادِ الصَّبْرِ، فلنْ يَثْبُتَ على طريقِهِ، ولنْ يقومَ بواجِبِهِ، ولنْ يَنصحَ الآخرينَ، وسوفَ يُؤْثِرُ السَّلامَةَ والرَّاحَةَ والعُزْلَةَ.
إنَّ الصَّبْرَ سلاحٌ فعَّالٌ ضِدَّ الباطلِ وأهلِهِ، وهوَ زادٌ إيمانيٌّ ربانيٌّ يزوِّدُنا اللهُ بهِ، وهوَ «وسيلةٌ» لا بُدَّ منها لأداءِ الواجِبِ الذي أَمَرَنا اللهُ بهِ.
ثُمَّ خُتِمَتْ الآيَةُ بقولِهِ: (إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ), أيْ إنَّ إقامَةَ الصَّلاةِ والأمْرَ بالمعْرُوفِ والنَّهْيَ عنِ المنكرِ والصَّبْرَ على الأَذَى, أمورٌ تحتاجُ إلى عَزْمِ القَلْبِ وعزيمَتِهِ وهِمَّتِهِ وجُهدِهِ, إِنَّها تكاليفُ شاقَّةٌ, لا يُطِيقُها كلُّ الناسِ, ولذلكَ سيتَخَلَّى كثيرٌ عنْهَا, إنَّهُ لا ينهَضُ بها إِلَّا ذَوُو عزمٍ وعزيمةٍ, ولا يَقْدِرُ عليها إِلَّا أصحابُ العَزائِمِ.
وإذا كانَتِ النّفُوسُ كِبارًا *** تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ
الحمدُ للهِ عظيمِ الإحسانِ واسعِ الفَضْلِ والجودِ والامْتِنانِ، وأشهَدُ أنْ لَا إلهَ إِلَّا اللهُ وحدَهُ لَا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلى آلهِ وأصحابِهِ أجمعينَ.
أمَّا بعدُ معاشِرَ المؤمنينَ: ويَمْضِي لقمانُ في نُصْحِهِ لابنِهِ في أصدَقِ نُصحٍ وأَسَدِّهِ، يُذَكِّرُهُ بآدابٍ أُخْرَى لا مندوحَةَ لهُ عَنْها وهوَ يُخالِطُ الناسَ، يُذَكِّرُهُ بما يحبِّبُهُ إليهِمْ، ويجعَلُ لأمرِهِ ونهيِهِ وإصلاحِهِ محلَّ القَبُولِ الحَسَنِ عندَ الناسِ:
(وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ), فلَا تُعرِضْ بِوَجْهِكَ عَنِ النَّاسِ إِذَا كَلَّمْتَهُمْ أَوْ كَلَّمُوكَ، احْتِقَارًا مِنْكَ لَهُمْ، وَاسْتِكْبَارًا عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ ألِنْ جَانِبَكَ، وَابْسُطْ وَجْهَكَ إِلَيْهِمْ، كَمَا قال : «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ».
ثُمَّ أرشَدَهُ إلى المِشْيَةِ المقبولةِ الصحيحةِ، بعدَما نَهاهُ عنِ المِشْيَةِ المرذولَةِ الباطلةِ (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ), تَعْنِي أنْ تكونَ مِشْيَتُكَ مُقتَصِدَةً معتدلةً متوسطةً، فلا هيَ مِشيَةُ المَرِحِ المتكبِّرِ المنتَفِخِ، ولا هيَ مِشيةُ الضعيفِ الذليلِ المتماوِتِ، بلْ مِشيةُ المعتدلِ المقتصدِ، وخيرُ الأمورُ أوساطُها.
(وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ), أيْ: لا تُبالِغْ في الكلامِ، ولا ترفَعْ صوتَكَ فيما لا فائِدَةَ فيهِ, والغضُّ مِنَ الصوتِ هوَ مِنْ سِماتِ الأدبِ، والتواضعِ، والثقةِ بالنفسِ، والاطمئنانِ إلى صدقِ الحديثِ، وصدقِ القَصْدِ. أما رفْعُ الصوتِ بغيرِ داعٍ، والإِغلاظُ في القَوْلِ للآخرينَ بغَيْرِ مبرِّرٍ، فكُلُّها مِنْ مظاهِرِ ضعْفِ الشَّخصيَّةِ، وسُوءِ الأدبِ معَ الغَيْرِ، وقِلَّةِ الثِّقةِ بالنَّفْسِ. والأسلوبُ القُرآنيُّ يُرذِّلُ هذا الفِعْلَ ويقبِّحُهُ في صورةٍ منفِّرَةٍ محتقَرَةٍ بشعةٍ، حينَ يُعقِّبُ عليهِ بقولِهِ: (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ), غَايَةُ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ أَنَّهُ يُشَبَّهُ بِالْحَمِيرِ فِي عُلُوِّهِ وَرَفْعِهِ، وَمَعَ هَذَا هُوَ بَغِيضٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وفي الحديثِ: "إذَا سَمِعْتُمْ نُهَاقَ الحَمِيرِ فَتَعَوَّذُوا باللهِ مِنَ الشَّيْطانِ، فإنَّهَا رأتْ شَيْطانًا".
عبادَ اللهِ: هَذِهِ وَصَايَا نَافِعَةٌ جِدًّا، وَهِيَ مِنْ قَصصِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَنْ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ, تجمَعُ أُمَّهاتِ الحِكَمِ، وتستلزِمُ ما لمْ يُذْكَرْ مِنْها، وكلُّ وصيةٍ يُقْرَنُ بها ما يَدْعُو إلى فِعْلِها، إنْ كانَتْ أمرًا، وإلى تَرْكِهَا إنْ كانَتْ نَهْيًا.
فأَمَرَهُ بأصْلِ الدِّينِ، وهوَ التَّوحيدُ، ونَهاهُ عنِ الشِّرْكِ، وبيَّنَ لهُ المُوْجِبَ لتَرْكِهِ، وأمرَهُ ببِرِّ الوالدَيْنِ، وبيَّنَ لهُ السببَ الموجبَ لبرِّهِمَا، وأمرَهُ بِشُكْرِهِ وشُكْرِهِمَا، ثمَّ احترَزَ بأنَّ مَحِلَّ بِرِّهِمَا وامتثالَ أوامِرِهِمَا، ما لمْ يَأْمُرَا بمعصيةٍ، ومعَ ذلكَ فلا يَعْقَّهُمَا، بلْ يُحْسِنُ إِلَيْهِما، وإنْ كانَ لَا يطيعُهُمَا إِذَا جَاهَدَاهُ على الشِّركِ. وأمَرَهُ بمراقبةِ اللهِ، وخوَّفَهُ القُدومَ عليهِ، وأنَّهُ لا يغادِرُ صغيرةً ولا كبيرةً مِنَ الخيرِ والشَّرِّ، إِلَّا أَتَى بِها.
ونَهاهُ عنِ التَّكُبُّرِ، وأمرَهُ بالتَّواضُعِ، ونَهاهُ عنِ البَطَرِ والأَشَرِ، والمَرَحِ، وأمَرَهُ بالسُّكُونِ في الحَرَكاتِ والأَصْواتِ، ونَهاهُ عنْ ضِدِّ ذلِكَ.
وأمَرَهُ بالأمرِ بالمعروفِ والنَّهْيِ عنِ المنكرِ، وبإِقامَةِ الصَّلاةِ والصَّبْرِ اللَّذَيْنِ يَسْهُلُ بِهِمَا كُلُّ أَمْرٍ، كمَا قالَ تَعَالى، فحقيقٌ بمَنْ أَوْصَى بِهَذِهِ الوَصايا، أنْ يكونَ مَخْصُوصًا بالحِكْمَةِ، مَشْهُورًا بِها. ولهَذَا مِنْ مِنَّةِ اللهِ عليهِ وعلى سائِرِ عبادِهِ، أنْ قَصَّ عليهِمْ مِنْ حِكمَتِهِ، ما يكونُ لهُمْ بهِ أُسوةٌ حسنةٌ.
وبعدُ معاشِرَ الكِرامِ: فمَنْ أرادَ حُسْنَ السِّيرةِ وصَفاءَ السريرةِ وكُنوزَ الحِكْمَةِ، فعلَيْهِ بالقُرآنِ فإِنَّها عِظاتُ اللهُ تُتْلَى, وخِطابُ المَلِكِ يُحْكَى, ولنْ تَزِيغَ الأُمَّةُ ما تمسَّكَتْ بهِ, وجَعَلَتْهُ لحَياتِهَا دُسْتُورًا, ولِطَريقِهَا هاديًا.
المرفقات

3-ذو-القعدة

3-ذو-القعدة

المشاهدات 1678 | التعليقات 0