وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة

عبدالرحمن القحطاني
1443/11/16 - 2022/06/15 19:08PM

الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَموتُنَّ إِلّا وَأَنتُم مُسلِمونَ﴾
﴿يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُم مِن نَفسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنها زَوجَها وَبَثَّ مِنهُما رِجالًا كَثيرًا وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذي تَساءَلونَ بِهِ وَالأَرحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيكُم رَقيبًا﴾
﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقولوا قَولًا سَديدًا ۝ يُصلِح لَكُم أَعمالَكُم وَيَغفِر لَكُم ذُنوبَكُم وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسولَهُ فَقَد فازَ فَوزًا عَظيمًا﴾
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.


أيها المؤمنون:
إن في القرآن هدايات، وفي آياته حكم وعظات، ونحن مأمورون بتدبره ومعرفة مافيه من أحكام، ومعرفة ما أعده الله لأوليائه من النعيم المقيم، والثواب الجزيل، وها نحن اليوم نقف على آياتٍ من كتاب الله، أمر الله فيها عباده للمسارعة إلى مغفرته ونيل جنته التي أعدها لعباده المتقين، ثم ذكر بعضاً من صفات هؤلاء المتقين فقال سبحانه: ﴿وَسارِعوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّماواتُ وَالأَرضُ أُعِدَّت لِلمُتَّقينَ ۝ الَّذينَ يُنفِقونَ فِي السَّرّاءِ وَالضَّرّاءِ وَالكاظِمينَ الغَيظَ وَالعافينَ عَنِ النّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحسِنينَ ۝ وَالَّذينَ إِذا فَعَلوا فاحِشَةً أَو ظَلَموا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللَّهَ فَاستَغفَروا لِذُنوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذُّنوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَم يُصِرّوا عَلى ما فَعَلوا وَهُم يَعلَمونَ﴾ [آل عمران: ١٣٣-١٣٥]
فقد ندب الله عباده إلى المسارعة لأداء الخيرات لنيل أرفع الدرجات بقوله: ﴿وَسارِعوا﴾ وقد وردت في القرآن آيات في مواضع أخرى تدعوا إلى المبادرة فقال تعالى: ﴿سابِقوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم﴾ وقال تعالى: ﴿فَاستَبِقُوا الخَيراتِ﴾، وهذا الأمر إنما يدعوا لاغتنام الفرص على الفور لا التراخي، لتحقيق الأعمال الصالحة قبل بلوغ الأجل،
والمسارعة والمسابقة إلى موجبات الجنة يكون بالإيمان بالله تعالى والعمل الصالح، وقد أدرك الصحابة رضي الله عنهم ذلك، ويظهر هذا جليا في سؤالهم للنبي ﷺ بقول: "دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة"، وسؤالهم عن: "أي العمل أحب إلى الله"، وفي منافسة عمر لأبي بكر رضي الله عنهما في النفقة، وفي حديث أهل الدثور.
ولم يكن ذلك التنافس لتحقيق أمر دنيوي، بل كانت مسارعة إلى الأسباب التي ينال بها العبد مغفرة الله جل وعلا، والفوز بجنته.
وقد وصف الله تعالى في هذه الآية اتساع الجنة بأن عرضها السماوات والأرض، قال ابن كثير رحمه الله: "عرضها كطولها، لأن الجنة قبةٌ تحت العرش، والشيء المقبب والمستدير عرضه كطوله، ودل على ذلك ما ثبت في الصحيح: إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تنفجر أنهار الجنة، وسقفها عرش الرحمن" رواه البخاري.
هذه الجنة أعدها الله تعالى لعباده المتقين كما في قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتي وُعِدَ المُتَّقونَ تَجري مِن تَحتِهَا الأَنهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلكَ عُقبَى الَّذينَ اتَّقَوا وَعُقبَى الكافِرينَ النّارُ﴾ [الرعد: ٣٥] وقوله ﴿مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتي وُعِدَ المُتَّقونَ فيها أَنهارٌ مِن ماءٍ غَيرِ آسِنٍ وَأَنهارٌ مِن لَبَنٍ لَم يَتَغَيَّر طَعمُهُ وَأَنهارٌ مِن خَمرٍ لَذَّةٍ لِلشّارِبينَ وَأَنهارٌ مِن عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُم فيها مِن كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغفِرَةٌ مِن رَبِّهِم﴾ [محمد: ١٥]

ثم بين الله صفات هؤلاء المتقين في هذه الآيات بأربع صفات:

الأولى: ﴿الَّذينَ يُنفِقونَ فِي السَّرّاءِ وَالضَّرّاءِ﴾ أي في الشدة والرخاء، والمنشط والمكره، والصحة والمرض، كما في قوله: ﴿الَّذينَ يُنفِقونَ أَموالَهُم بِاللَّيلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً﴾ [البقرة: ٢٧٤]، فلا يشغلهم أمر عن طاعة الله تعالى والإنفاق في مرضاته، والإحسان إلى خلقه بأنواع البر، والصدقة إذا كانت من قلب مخلص فإن جزاءها عظيم، قليلة كانت أو كثيرة، ولذا وبّخ الله المنافقين بسبب سخريتهم من فقراء المسلمين، حين ندبهم النبي ﷺ للصدقة لتجهيز جيش تبوك، فلما أتى أبو عقيل بنصف صاع من تمر قالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا فنزلت الآية: ﴿الَّذينَ يَلمِزونَ المُطَّوِّعينَ مِنَ المُؤمِنينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذينَ لا يَجِدونَ إِلّا جُهدَهُم فَيَسخَرونَ مِنهُم سَخِرَ اللَّهُ مِنهُم وَلَهُم عَذابٌ أَليمٌ﴾ [التوبة: ٧٩]، وقال النبي ﷺ: " اتقوا النار ولو بشق تمرة" متفق عليه.

أماالصفة الثانية لعباد الله المتقين: فهي كظم الغيظ، قال سبحانه: ﴿وَالكاظِمينَ الغَيظَ﴾ أي الذين إذا ثار بهم الغيظ كظموه وكتموه، جاء في الحديث أن النبي ﷺ قال: "ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" متفق عليه.
ولما طلب رجل من النبي ﷺ أن يوصيه قال له لا تغضب، قال السائل: ففكرت حين قال النبي ﷺ ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله.

ودواء الغضب كما قال النبي ﷺ: "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع" رواه أبو داود، وكذلك بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، ففي حديث سليمان بن صُرَد رضي الله عنه قال: "استب رجلان عند النبي ﷺ ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسب صاحبه مغضباً قد احمرّ وجهه، فقال النبي ﷺ: "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" رواه البخاري.

الصفة الثالثة لعباد الله المتقين: قوله تعالى: ﴿وَالعافينَ عَنِ النّاسِ﴾، قال ابن كثير رحمه الله: "أي: مع كف شرهم يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم، فلا يبقى في أنفسهم موجدةٌ على أحد، وهذا أكمل الأحوال" ومرتبة عالية من مراتب الإحسان، ولذلك قال الله تبارك وتعالى بعدها: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحسِنينَ﴾،
والعفو ياعباد الله من صفات الكرماء، قال يوسف عليه السلام لإخوته: ﴿لا تَثريبَ عَلَيكُمُ اليَومَ يَغفِرُ اللَّهُ لَكُم﴾، وقال نبينا ﷺ لقريش "إذهبوا فأنتم الطلقاء"، وقد أمره الله جل وعلا بالعفو في قوله: ﴿خُذِ العَفوَ وَأمُر بِالعُرفِ وَأَعرِض عَنِ الجاهِلينَ﴾ [الأعراف: ١٩٩]، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: "ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه" رواه أحمد.

عباد الله:
إن كظم الغيظ والعفو عن الناس أمر شاق وصعب، ولكن أجره عظيم، وقد جعل الله في الجنة باب للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس يدخلون منه، وكيف لا يكون الأجر عظيماً والله تبارك وتعالى يقول: ﴿فَمَن عَفا وَأَصلَحَ فَأَجرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: ٤٠]

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 


الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيماً لشأنه، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيراً.

أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى وراقبوه في السر والنجوى

عباد الله:
الصفة الرابعة لعباد الله المتقين: في قوله تعالى: ﴿وَالَّذينَ إِذا فَعَلوا فاحِشَةً أَو ظَلَموا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللَّهَ فَاستَغفَروا لِذُنوبِهِم﴾ أي إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار،
عن أبي هريرة، عن النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا يَحْكِي عَن ربِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالى "قَالَ: أَذنَب عبْدٌ ذَنْبًا فقالَ: اللَّهُمَّ اغفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعالى: أَذْنَبَ عبدِي ذَنْبًا، فَعَلِم أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ ربِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تبارك وتعالى: أَذْنَبَ عبدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغفِرُ الذَّنبَ، وَيَأخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَي رَبِّ اغفِرْ لِي ذَنبي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالى: أَذْنَبَ عَبدِي ذَنبًا، فعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنبِ، قد غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَفْعَلْ مَا شَاء" متفقٌ عَلَيهِ.
عباد الله: إن من أكثر الأمور الموجبة لدخول الجنة تكرار التوبة والاستغفار ولو تكرر الذنب مرات ومرات، فلابد من الاستغفار في كل مرة وعدم الاستمرار على المعصية ولذلك استثنى الله تعالى المصرين على الذنوب من عباده المتقين بقوله ﴿وَلَم يُصِرّوا عَلى ما فَعَلوا وَهُم يَعلَمونَ﴾، وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: "ارْحمُوا تُرحَمُوا ، واغْفِرُوا يُغفَرْ لكُمْ، ويْلٌ لأقماعِ القولِ، ويلٌ للمُصِرِّينَ الذين يُصِرُّونَ على ما فعلُوا وهمْ يَعلمُونَ"

أعاذنا الله وإياكم من هذا الإصرار، وجلعنا من أهل التوبة والاستغفار،،،
ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل عليماً ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله أجمعين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الراشدين، أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللَّهُمَّ أَعَزَّ الإِسْلامَ وَالْمُسْلِمِينَ وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ وَدَمِّرْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ، اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَ الإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ بِسُوءٍ فَأَشْغِلْهُ فِي نَفْسِهِ وَرُدَّ كَيْدَهُ في نَحْرِهِ..
اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا.
الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا خادم الحرمين الشريفين، لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وارزُقه البطانةَ الصالحة الناصحة التي تدله على الخير وتعينه عليه.
اللهم ادفَع عنَّا الغَلاء والوباء، والربا والزنا والزلازل والمِحَن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصَّة، وعن سائر بلاد المسلمين عامَّة يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار،
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين،
عباد الله:
أنَّ الله يأمُر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القُربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغْي، يعظُكم لعلَّكم تذكَّرون. فاذكُروا الله العظيم الجليل يذكُركم، واشكُروه على نِعَمِه يزدْكم، ولَذِكرُ الله أكبر، والله يعلَمُ ما تصنَعون.

المرفقات

1655320081_وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة.pdf

المشاهدات 1848 | التعليقات 0