ورَحلَ المعلمُ الوقور
د. سلطان بن حباب الجعيد
الحمدُ للهِ مِلءَ الأرضِ والسَّماواتِ، وَلِيِّ المؤمنينَ والمؤمناتِ، المُوَفِّقِ للطَّاعاتِ، والَّذي بحمدِهِ وفضلِهِ تتمُّ الصالحاتُ.
والصلاةُ والسَّلامُ، على خيرِ خَلقِ اللهِ، مُحمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ، صلاةً وسلامًا بعددِ مَن صلَّى وقامَ.
أيُّها النَّاسُ، إذا أردتُّم أن يكونَ اللهُ في مَعِيَّتِكم، فعليكم بتقوى اللهِ، قالَ اللهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: ١٢٨].
وبعدُ:
مَعاشِرَ الصَّائمينَ، ها هوَ الشَّهرُ شارَفَ على الانتهاءِ، سيرحَلُ ويترُكُنا مع ذِكراهُ، إلى أن نلقاهُ - إن أذِنَ اللهُ بذلكَ.
لم يكنِ اللِّقاءُ مع حبيبٍ فقط، وإنَّما مُعلِّمٍ أيضًا.
جلَسنا إليهِ وتَحلَّقْنا حولَهُ، كشيخٍ وَقورٍ نَنهَلُ من ذاكِرَتِهِ وحِكمتِهِ.
وأيُّ ذاكرةٍ لهذا الشَّيخِ المُتَطاوِلَةِ عبرَ القُرونِ؟!
عُمرٌ مَديدٌ يَتمتَّعُ بهِ يمتدُّ إلى مئاتِ السِّنينَ، شَهِدَ فيهِ على أُمَمٍ وأقوامٍ وأحداثٍ.
حدَّثَنا عن نُزولِ القُرآنِ فيهِ، وعن مَعْرَكةِ بدرٍ، وفَتحِ مكَّةَ، وعن مَعْرَكةِ الزَّلَّاقَةِ، وعن مَعْرَكةِ عينِ جَالُوتَ.
وحدَّثَنا عن صالحينَ، كانوا يُسُرُّونَ بقدومِهِ، فيَعْمُرونَ نَهارَهُ وليلهُ بِطاعةِ اللهِ، ويَمْحونَ بِدُموعِ تَوبَتِهم ما كانَ مِن نَقصٍ وتَقصيرٍ في حَقِّ اللهِ طُولَ عامِهِم.
وحدَّثَنا عن أقوامٍ آخَرينَ، لم يُقَدِّروا لهُ قَدْرَهُ، ولم يُؤَدُّوا حَقَّهُ، ومَرَّ عليهم كغيرِهِ من أيَّامِهم، في لَهْوٍ وتَفريطٍ وضَياعٍ. وكيفَ أنَّ الجَميعَ ماتوا، وطُوِيَتْ صَحائفُهُم، وانْتَهَتْ مُهْلَتُهم، وهُمُ الآنَ رَهائنُ ما قَدَّموا؟!
هل كانَ لقاءً قَصيرًا وسريعًا، أم كغيرِهِ مِنَ الشُّهورِ التي نَستقبِلُها ونُوَدِّعُها؟!
إنَّهُ كغيرِهِ، ولكنَّ الشَّوقَ والحنينَ، لهُ قانونُهُ الخاصُّ الَّذي يَجْعَلُ الزَّمانَ سريعًا.
جاءَ ثمَّ رَحَلَ، ليَجعَلَ مِن رَحيلِهِ حِكمَةً تقولُ: داخِلَ حياةِ كُلٍّ مِنَّا، حَيَواتٌ صغيرةٌ تَبدأُ وتَنتَهي؛ لِتُشَكِّلَ بِمَجموعِها نِهايةَ حياتِكَ بِرمَّتِها. فكما انْتَهى شَهرُكَ، بِهذِهِ السُّرعةِ، فَسَتَنْتَهي حياتُكَ كُلُّها في مِثلِ سُرعتِهِ.
فَعَلينا أنْ نَتَّعِظَ ونُذَكِّرَ أنْفُسَنا دائمًا بِالمَصيرِ والرَّحيلِ، ولا تَغُرَّنا الحياةُ، فإنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌّ، فلا يَغُرَّنَا باللهِ الغَرورُ.
فما هوَ واللهِ إلَّا أنْ تَأتيَ ساعةُ الرَّحيلِ فَنُدرِكَ حينَها، أنَّ الحياةَ كانتْ وَهْمًا أو حُلُمًا عابرًا: ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[المؤمنون: ١١٢-١١٤].
والمُفْزِعُ والمُخِيفُ، أنَّ هذا الوُجودَ الخاطفَ والسَّريعَ حاكِمٌ ومُحَدِّدٌ لِمَصيرِكَ في وُجودِكَ السَّرمديِّ والأبديِّ في اليومِ الآخِرِ.
تَعلَّمْنا مِن شَهرِنا ومُعَلِّمِنا، كيفَ أنَّ الحياةَ تَطيبُ بِطاعةِ اللهِ؟!
أرأيتَ الشُّعورَ الجميلَ الَّذي يَنتابُكَ في رَمضانَ، وتَشعُرُ بهِ في نَفسِكَ، وسَعَةِ صَدرِكَ، وأُنسِكَ بِوَقتِكَ، حتَّى ارْتَبَطَ رَمضانُ بِمِثلِ هذِهِ المَشاعِرِ الجَميلةِ؟
إنَّهُ مِن آثارِ الطَّاعاتِ الَّتي تَكثُرُ في هذا الشَّهرِ، ومِن آثارِ البُعدِ عن الشُّرورِ الَّتي تَخِفُّ في مِثلِ هذا الشَّهرِ.
فَعَلينا إذْ تَذَوَّقْنا طَعمَ الطَّاعةِ، أنْ نُعَمِّقَها في سائِرِ حياتِنا، ونُداوِمَ عليها، حتَّى نُحافِظَ على مِثلِ هذا الشُّعورِ.
جاءَ هذا المُعَلِّمُ ولم يَرحَلْ، حتَّى غَيَّرَ نَظرَتَنا لأنفُسِنا، وحَطَّمَ القَوالِبَ الَّتي حَكَمْنا على أنفُسِنا مِن خِلالِها؛ بأنَّنا لَسْنا أهلًا، لأنْ نكونَ في رِكابِ الصَّالحينَ والمُتَّقينَ.
فأَثْبَتَ لنا بِصيامِنا، وقِيامِنا، وخُشوعِنا، ودُموعِنا، وبَذلِنا وإنفاقِنا، وتِلاوتِنا، أنَّنا نَحمِلُ قُلوبًا تُحِبُّ الخيرَ، ونُفوسًا قادِرَةً أنْ تَغلِبَ هَواها وشَهوَتَها، في سبيلِ إرضاءِ رَبِّها. فأقامَ علينا بذلكَ الحُجَّةَ من أنفسِنا على أنفسِنا، وأعادَ بذلكَ ثقتَنا بها، وأذاقَنا طَعْمَ وحَلاوَةَ العَمَلِ الصَّالِحِ. فَهُوَ مُعَلِّمٌ سَلَكَ بنا سَبِيلَ المَعْرِفَةِ العَمَلِيَّةِ الذَّوْقِيَّةِ، لا النَّظَرِيَّةِ. فَرُجُوعُنا بَعْدَهُ إلى سَابِقِ عَهْدِنا، وَتَقْصِيرُنا، يَدُلُّ على أنَّ التَّلَامِيذَ لَيْسُوا نُجَبَاءَ، وَلَمْ يَعُوا الدَّرْسَ بَعْدُ. فأَقَلُّ الوَفاءِ لِهذَا الجَميلِ، أنْ نُحافِظَ على ما تَعلَّمْناهُ منهُ، إلى أنْ نَلقاهُ مَرَّةً أُخرى.
معاشرَ الصَّائمينَ: دائمًا يكونُ الحُزنُ هوَ سيِّدَ الموقِفِ، في لَحظاتِ الفِراقِ والوَداعِ، لكنْ لأنَّ شَهرَنا مُختلِفٌ بِلِقائِهِ، فهو مُختلِفٌ بِفِراقِهِ أيضًا.
فِراقُ هذا الشَّهرِ فَرَحٌ، بلْ جُعِلَ عيدًا لِلمُسلِمينَ ولا ينبغي أن يكون غير الفرح عند فِراقِهِ، نُظهر ذلك في وُجوهِنا ولِبَاسِنا وكلامِنا وكُلِّ ما نَستَقبِلُ بهِ النَّاسَ.
فرَحُ المُتَفائِلِينَ بِالقَبولِ مِنَ الكَرِيمِ الرَّحمنِ. فَرَحٌ سَنُؤجَرُ عليهِ - بإذنِ اللهِ -؛ لأنَّهُ شُعورٌ مُنبَثِقٌ مِن إتمامِ العِبادَةِ وامتِثالِ أمرِ اللهِ سُبحانَهُ: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: ٥٨].
يَنبَغِي في خِتامِ هذا الشَّهرِ الكَرِيمِ، واستِقبالِ العِيدِ السَّعيدِ، أنْ نَتَجَنَّبَ نَواقِضَ الفَرَحِ، وكُلَّ ما يُجْلِبُ الهَمَّ والأحزانَ، مِن تَذَكُّرِ المَوتَى، وزِيارَةِ قُبورِهِم في يَومِ العِيدِ، أو المُبالَغَةِ في استِدعاءِ مآسِي المُسلِمينَ، وغَيرِها مِمَّا يُفْسِدُ على المُسلِمِ فَرَحَهُ.
فَلنَسْعَدْ ونَنْشُرِ السَّعادَةَ والفَرَحَ فيمَن حَولَنا؛ بِصِلَتِهِم، وتَوزيعِ الهَدايا والأعطِياتِ، وإقامَةِ الوَلائِمِ والاجتِماعِ عليها في غَيرِ سَرَفٍ ولا مُخِيلَةٍ.
الفَرَحُ شُعورٌ يَنبَثِقُ مِن داخِلِكَ، فَاستَغِلَّ ما تَبَقَّى مِن لَحَظاتِ الشَّهرِ الكَرِيمِ؛ لِتُطَهِّرَ هذا الدَّاخِلَ.
لا تَجعَلِ الجَديدَ فقط في العِيدِ، ثِيابَكَ الَّتي تَرتَدِيها، فَما أجمَلَ أنْ تَرتَدِيَ ثِيابًا جَدِيدَةً على نَفْسٍ جَدِيدَةٍ، بَيضاءَ كَبَياضِ الثِّيابِ، نَقِيَّةً مِن دَنَسِ الذُّنوبِ والأحقادِ.
لَن يَفرَحَ أحَدٌ كَفَرَحِكَ، ولَن يَكونَ أحَدٌ جَمِيلًا كَجَمالِكَ، إذا جَمَعتَ لِنَفسِكَ في يَومِ العِيدِ بَينَ طُهرٍ ونَقَاءٍ، وجَمالِ، الظَّاهِرِ والبَاطِنِ.
بارَكَ اللهُ لي ولكم …
الثَّانية:
وبعدُ:
ماذا لو قُدِّرَ لكَ - أخِي - أنْ أَطْلَعَكَ اللهُ على صَحائِفِ أعمالِكَ؛ فَرَأيتَها بَيضاءَ نَقِيَّةً، قدْ غَفَرَ اللهُ لكَ وتَقَبَّلَ مِنكَ - وهذا هوَ ظَنُّنا بِرَبِّ العالَمِينَ؟
فَالواجِبُ أنْ تُحاذِرَ مِن تَلْطِيخِها مَرَّةً أُخرى، ولْيَكُنْ حَذرُكَ وخَوفُكَ عليها أشَدَّ مِن حَذرِكَ على جَديدِ مَلابِسِكَ أنْ تُصِيبَها الأوساخُ والقاذوراتُ.
والذُّنوبُ لِلقُلوبِ هيَ بِمَثابَةِ الأوساخِ، الَّتي تُعَكِّرُ بَياضَها ونَقَاءَها.
مَعاشِرَ الصَّائِمِينَ، مَع دُنُوِّ العِيدِ، فَتِّشوا عنِ المُحتاجِينَ حَولَكُم، وأَتِمُّوا عليهِم فَرَحَهُم بِالعِيدِ.
فَكم مِن أَبَوَينِ مَكلُومَينِ لأنَّهُما لم يُلَبِّيَا حاجاتِ أَطفالِهِما؟!
وكَم مِن طِفلٍ كَسِيرٍ لأنَّهُ لا يَرتَدِي كَما يَرتَدِي الأطفالُ؟! ولا يَمتَلِكُ الألعابَ الَّتي يَمتَلِكُونَها؟!
سَيَكونُ فَرَحُكَ بِعِيدِكَ مُختَلِفًا، إذا كُنتَ سَبَبًا في سَعادَةِ آخَرِينَ بِعِيدِهِم.
ومَن كانَ سَبَبًا في سَعادَةِ الآخَرِينَ يُوشِكُ اللهُ أنْ يُسْعِدَهُ في الدَّارَيْنِ.
واعْلَموا - رَحِمَكُمُ اللهُ - أنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ في نِهايةِ شَهرِكُم، افْتَرَضَ عَلَيكُم زَكاةَ الفِطرِ، صاعًا مِن طَعامٍ مِن بُرٍّ أو أَرُزٍّ أو تَمرٍ، على الكَبِيرِ والصَّغِيرِ، والذَّكَرِ والأُنثى، يُخرِجُها عن نَفسِهِ وعنهم مَن يَعُولُهُم، قَبلَ صَلاةِ العِيدِ، ويَجُوزُ إخراجُها قَبلَهُ بِيَومٍ أو يَومَيْنِ.
والصَّاعُ ما يُقارِبُ الثَّلاثَةَ كِيلوغراماتٍ.
عنِ ابنِ عُمَرَ - رضيَ اللهُ عنهُما - قالَ:
“فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَكَاةَ الفِطْرِ مِن رَمَضانَ صَاعًا مِن تَمرٍ، أَو صَاعًا مِن شَعِيرٍ، عَلَى العَبدِ والحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنثى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسلِمِينَ”. [رَوَاهُ الجَمَاعَةُ].
ومِمَّا يُشْرَعُ ويُسَنُّ بِغُروبِ شَمسِ آخِرِ يَومٍ مِن رَمَضانَ؛ التَّكبيرُ.
اخْتِموا بِهِ صِيامَكُم، وارْفَعوا بِهِ أَصواتَكُم، شُكرًا وحَمدًا للهِ.
قالَ تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: ١٨٥].
رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا، إنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ، وتُبْ عَلَيْنا، إنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
رَبَّنا لا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أوْ أَخْطَأْنَا
المرفقات
1743077813_المستند (15).docx