ورجلٌ ذكرَ الله خالياً ...

الخطبة الأولى: ورجلٌ ذكرَ الله خالياً ففاضت عيناه

الحمدُ للـهِ عالمِ السرِّ والعلانيةِ، أحاطَ علُمُه بكلِّ خافيةٍ، وأشهد ألا إلهَ إلا اللـهُ وحده لا شريكَ له عمَّ بِرُّهُ كلَّ ناحيةٍ، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلى اللـهُ وسلم وباركَ عليه وعلى آله وصحبِه أهلِ الفرقةِ الناجيةِ ، وسلَّم تسليماً مزيداً إلى يوم الحشرِ والغاشيةِ. 

  أَمَّا بعدُ: فأوصيكم ....

 عن أبي هريرة t قال: قال النَّبِيُّ ﷺ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّـهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّـهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ؛ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّـهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ؛ أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّـهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» خ.م .

في جُمَعٍ سابقةٍ تحدَّثنا عنِ الأصنافِ السِّتَّةِ الأُولى، من هؤلاءِ السبعةِ.

وفي جُمْعَتِنا هذه، سيكونُ حديثُنا عنِ الصِّنفِ السابعِ، وهو آخِرُ الأصنافِ السَّبْعَةِ.

معاشرَ المُؤمنين: إنَّ البكاءَ من خشيةِ اللَّـهِ من أعظمِ القُرُباتِ إلى ربِّ العالَمِين، وهو دَأْبُ الأنبياءِ والصالحينَ، ومَقامٌ من مَقاماتِ عبادِ اللـهِ المُخلَصينَ، ولقد أثنى اللـهُ جلَّ وعلا في كتابِه على البكائِينَ من خشيتِه، الأتقياءَ الأنقياءَ، ذوي الحساسيةِ الـمُرهفةِ، الذين لا يُسعِفُهُم الكلامُ للتعبيرِ عما يُخالجُ مشاعرَهُم، من حبِّ اللـهِ، وتعظيمِهِ، وخشيتِهِ وإجلالِه، فتفيضُ عيونَهُم بالدموعِ،

 قربةً إلى اللـهِ وزلفى لديهِ (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا  وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) .

ويكفي أنَّ البكاءَ من خشيةِ اللـهِ أنه عاصِمٌ من النارِ، كما قال ﷺ: «لاَ يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللـهِ؛ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ». التِّرْمِذيُّ وغيرُه .

ومع هذا الأجرِ العظيمِ إلَّا أنه في الخَلْوةِ رُتِّبَ عليه أجرٌ زائدٌ على النَّجاةِ من النَّارِ،

وهو النَّجاةُ من هَوْلِ مَوقفِ يومِ القيامةِ وشدَّتِه، وذلك بالِاستظلالِ بظِلِّ اللَّـهِ، ومَن كان في ظِلِّ اللَّـهِ أَمِنَ مِن فَزَعِ يومِ النُّشُورِ وشِدَّتِه وهَوْلِه. "وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّـهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ".

إنَّ الخلوةَ -عباد الله- مدعاةٌ إلى قسوةِ القلبِ، والجرأةِ على المعصيةِ، وهذا رجلٌ خَلَى بنفسِه، فذَكَر اللَّـهَ بلسانِه وقلبِه، أو بقلبِه فقط، ففاضت عيناه خوفاً من اللَّـهِ، أو شوقاً إليه، وقد عَظُمَ أجرُه حتى أُظِلَّ في ظلِّ اللَّـهِ؛ لكمالِ إخلاصِه، بخلافِ مَن بكى في حَضْرَةِ غيرِه، فإنه قد يُداخِلُه الرِّياءُ، فيَتَصَنَّعُ البكاءَ، أو يَزِيدُ فيه زيادةً لم يكن ليصنعَها لو كان خالياً بنفسِه .

قال ابنُ رَجَبٍ: «فهذا رَجُلٌ يخشى اللَّـهَ في سِرِّه، ويراقبُه فِي خَلْوَتِه، وأفضلُ الأعمالِ خشيةُ اللَّـهِ في السِّرِّ والعَلَانِيَةِ، وخشيةُ اللَّـهِ فِي السِّرِّ إنَّما تَصْدُرُ عن قوَّةِ إيمانٍ ومجاهدةٍ للنَّفْسِ والهَوَى، فإنَّ الهَوَى يدعو في الخَلْوَةِ إلى المَعاصي، ولهذا قيل: «إنَّ من أَعَزِّ الأشياءِ الوَرَعَ فِي الخَلْوَةِ».

 وذكرُ اللَّـهِ يَشْمَلُ ذكرَ عظمتِه وبَطْشِه وانتقامِه وعقابِه، والبكاءُ الناشيءُ عن هذا هو بكاءُ الخوفِ.

ويَشْمَلُ ذكرَ جَمَالِه، وكمالِه، وبِرِّهِ، ولُطْفِه، وكَرَامَتِه لأوليائِه بأنواعِ البِرِّ والأَلْطَافِ -لا سِيَّما برؤيتِه فِي الجَنَّةِ-، والبكاءُ الناشيءُ عن هذا هو بكاءُ الشَّوْقِ.

ويدخلُ فيه -أيضاً-: رَجُلٌ ذكر أنَّ اللَّـهَ مَعَهُ حيثما كان، فتذكَّرَ مَعِيَّتَه، وقُرْبَه، واطِّلاعَه عليه حيث كَانَ، يَبْكِي حياءً منه، وهو من نوعِ الخوفِ -أيضاً-» اهـ .

معاشرَ المُسلمين: لقد كان السَّلَفُ الصـالحُ يحرصـون عـلى إخــفاءِ بكائِهم ما استطاعوا إلى ذلك سـبيلاً، وكان هــذا حالَـهُم في عبـاداتِهم كلِّها، مَا مِنْ عَمَلٍ يَقْدُرُونَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهُ فِي سِرٍّ فَيَكُونَ عَلاَنِيَةً أَبَداً.

قال الحَسَنُ البَصْريُّ «إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَقَدْ جَمَعَ الْقُرْآنَ، وَمَا يَشْعُرُ بِهِ جَارُهُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَقَدْ فَقِهَ الْفِقْهَ الْكَثِيرَ، وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُصَلِّي الصَّلاَةَ الطَّوِيلَةَ فِي بَيْتِهِ، وَعِنْدَهُ الزُّوَّرُ وَمَا يَشْعُرُونَ بِهِ، وَلَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَاماً، مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ مِنْ عَمَلٍ، يَقْدُرُونَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهُ فِي سِرٍّ فَيَكُونَ عَلاَنِيَةً أَبَدًا، وَلَقَدْ كَانَ الْـمُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ، وَمَا يُسْمَعُ لَـهُمْ صَوْتٌ، إِنْ كَانَ إِلاَّ هَمْساً بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ -عَزَّ وَجَلَّ-، ذَلِكَ أَنَّ اللَّـهَ -تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ:

(ٱدعُواْ رَبَّكُم تَضَرُّعاً وَخُفيَةً)، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّـهَ -تَعَالَى- ذَكَرَ عَبْداً صَالِحاً، وَرَضِيَ قَوْلَهُ، فَقَالَ: (إِذ نَادَى رَبَّهُو نِدَاءً خَفِيّاً). أخرجه ابنُ المُباركِ في الزُّهْدِ.

 بل كان السَّلَفُ الصالحُ إذا كانوا بحَضْرَةِ أَحَدٍ كتموا ما يَعْتَرِيهم من بكاءٍ، ولو كان هذا الحاضرُ من أقربِ النَّاسِ إليهم.

قال مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ «لَقَدْ أَدْرَكْتُ رِجَالاً، كَانَ الرَّجُلُ يَكُونُ رَأْسُهُ وَرَأْسُ امْرَأَتِهِ عَلَى وِسَادٍ وَاحِدٍ، قَدْ بَلَّ مَا تَحْتَ خَدِّهِ مِنَ دُمُوعِهِ، لَا تَشْعُرُ بِهِ امْرَأَتُهُ، وَلَقَدْ أَدْرَكْتُ رِجَالاً، كَانَ أَحَدُهُمْ يَقُومُ فِي الصَّفِّ فَتَسِيلُ دُمُوعُهُ عَلَى خَدَّيْهِ، لَا يَشْعُرُ بِهِ الَّذِي إِلَى جَنْبِهِ». أخرجه ابنُ أبي الدُّنْيا في الرِّقَّةِ والبكاءِ.

وكان بعضُهم إذا غَلَبَه البكاءُ أمامَ النَّاسِ قام، أو أَخَذَ في حديثٍ آخَرَ، فكَانَ ابْنُ الْـمُبَارَكِ إِذَا رَقَّ، فَخَافَ أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ مِنْهُ: قَامَ وَرُبَّمَا أَخَذَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ». أخرجه ابنُ أبي الدُّنْيا في الرِّقَّةِ والبكاءِ.

بل كان بعضُ السَّلَفِ الصالحِ يُنْكِرُ على مَن أظهر بكاءَه، وإن كان قد يكونُ مغلوباً على أمرِه، فهو معذورٌ، ولكنَّهم يصنعون ذلك خوفاً عليه من الرِّياءِ، وتذكيراً له وللحاضرين بإخلاصِ بكائِهم للَّـهِ.

 

فعن مُّحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا أُمَامَةَ أَتَى عَلَى رَجُلٍ فِي الْـمَسْجِدِ، وَهُوَ سَاجِدٌ يَبْكِي فِي سُجُودِهِ، وَيَدْعُو رَبَّهُ، فَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: «أَنْتَ أَنْتَ؛ لَوْ كَانَ هَذَا فِي بَيْتِكَ». أخرجه ابنُ المُباركِ في الزُّهْدِ.

 وجاءَ أنَّ الحَسَنَ وَعَظَ يوماً، فَنَحَبَ رَجُلٌ، فَقَالَ الْـحَسَنُ: «لَيَسْأَلَنَّكَ اللَّـهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا أَرَدتَّ بِهَذَا . أخرجه ابنُ أبي الدُّنْيا في الرِّقَّةِ والبكاءِ.

 ألا فاتقوا الله عبادَ اللـهِ وتعوذوا باللـهِ من عينٍ لا تدمعُ ومن قلبٍ لا يخشع (فويلٌ للقاسيةِ قلوبُهم من ذكرِ اللـهِ )

اللهم أَحي قلوبَنا بذكرِك، وارزقنا الثَّباتَ على طاعتِك، وافتح لنا الطَّريقَ إلى هدايتِكَ.   بارك الله ...

الخطبةُ الثانيةُ

الحمدُ للَّـهِ ربِّ العالَمِين ... أما بعد:  فمعاشرَ المُسلمين:

 إنَّ البكاءَ من خشيةِ اللَّـهِ مَنْقَبَةٌ عظيمةٌ، حُرِمَها كثيرٌ من النَّاسِ، ولا سبيلَ إليها إلَّا برِقَّةِ القلوبِ، وما رقَّ قلبٌ للـهِ عزَّ وجلَّ إلا كان صاحبُه سابقًا إلى الخيراتِ، مشمّرًا في الطاعاتِ والقُرباتِ، وما رقَّ قلبٌ للـهِ إلا وجدتَ صاحبَه إذا ذُكِّر باللـهِ تذكّرَ وإذا بُصِّر به تَبصّرَ.

وما رقَّ قلبٌ بسببٍ أعظمَ من الإيمانِ باللـهِ، ولا عرفَ عبدٌ ربَّه بأسمائِه وصفاتِه، إلا رقَّ قلبُه، وصفتْ سريرتُه.

ومن أسبابِ رِقَّةَ القلبِ: النظرُ والتدبرُ في كتاب اللـهِ وآياتِه (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، فالمؤمنُ المتدبرُ لآياتِ اللـهِ، هو أرقُ النَّاسِ قلباً، وأنقاهُم نفسًا.

ولا سبيلَ إلى رِقَّةِ القلوبِ كذلكَ إلَّا بالتخفُّفِ من الذُّنُوبِ، فإنَّ أرقَّ النَّاسِ قلوباً أقلُّهم ذنوباً،

وإذا عَظُمَت ذنوبُ العبدِ قَسَا قلبُه، وإذا قَسَا قلبُه جَمَدَت عينُه من البكاءِ.

 قال ابنُ القيمِ:" ومن لم يلِن للـهِ في هذه الدُّنيا قلبُهُ، ولم يُنبْ إليهِ، ولم يُذِبهُ بِحبِه والبكاءِ من خشيتِه، فليتمتعْ قليلًا فإنَّ أمامَه الـمُلْينُ الأعظمُ، وسيُرَدُّ إلى عالمِ الغيبِ والشهادةِ، فيرى ويعلمُ ". والله المستعانُ.  

عباد الله: لقد جرتنا الدُّنيا إلى مناكبِها، وألهتنَا بملاذِّها، فبتنَا في شُغْلٍ شاغلٍ، وهمٍّ وإهمالٍ، فنحتاجُ أن نَخرجَ عن صَخبِ اللِّقاءاتِ، وكَثرةِ الاجتماعاتِ، نحتاجُ أن نبتعدَ قليلاً عن مُخالطةِ الأصحابِ، وننعزلَ ساعةً عن الأهلِ والأحبابِ والشاشاتِ والجوالاتِ، لنخلوَ مع قراءةِ الأذكارِ وتلاوةِ آياتِ الكتابِ، وما تَلذَّذَ المُتلذِّذونَ بمثلِ الخلوةِ بمناجاةِ اللـهِ ربِّ العالمينَ والبكاءِ بين يديْه في الخلواتِ (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً )  

 ثم صلوا ...

 

المرفقات

1726066972_ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه.pdf

1726066975_ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه.docx

المشاهدات 411 | التعليقات 0