ودعوا الشهر الكريم وداع الكريم
عبدالله البصري
1437/09/25 - 2016/06/30 15:57PM
ودعوا الشهر الكريم وداع الكريم 26 / 9 / 1437
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، ثَلاثُ لَيَالٍ أَو أَربَعٌ في عِلمِ اللهِ ، وَيُوَدِّعُنَا شَهرُ الخَيرَاتِ وَالبَرَكَاتِ ، فَسَلامُ اللهِ عَلَى شَهرٍ مُبَارَكٍ وَمَوسِمٍ عَظِيمٍ ، أَلِفنَا فِيهِ العِبَادَةَ وَأَحبَبنَا الطَّاعَةَ ، وَأَقبَلَت نُفُوسُنَا عَلَى الخَيرِ وَأَقصَرَت عَنِ الشَّرِّ ، وَاطمَأَنَّت قُلُوبُنَا بِذِكرِ اللهِ ، وَامتَلأَت صُدُورُنَا فَرَحًا بِفَضلِ اللهِ ، وَأَحبَبنَا الحَسَنَاتِ وَكَرِهنَا السَّيِّئَاتِ ، وَتَزَوَّدنَا مِنَ البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ .
دَعِ البُكاءَ عَلَى الأَطلالِ وَالدَّارِ
وَاذكُرْ لِمَن بَانَ مِن خِلٍّ وَمِن جَارِ
وَاذْرِ الدُّمُوعَ نَحِيبًا وَابكِ مِن أَسَفٍ
عَلَى فِرَاقِ لَيالٍ ذَاتِ أَنوَارِ
عَلَى لَيالٍ لِشَهرِ الصَّومِ مَا جُعِلَت
إِلاَّ لِتَمحِيصِ آثَامٍ وَأَوزَارِ
مَا كَانَ أَحسَنَنَا وَالشَّملُ مُجتَمِعٌ
مِنَّا المُصَلِّي وَمِنَّا القَانِتُ القَارِي
وَفِي التَّرَاوِيحِ لِلَّرَاحَاتِ جَامِعَةٌ
فِيهَا المَصَابِيحُ تَزهُو مِثلَ أَزهَارِي
في لَيلِهِ لَيلَةُ القَدرِ التي شَرُفَت
حَقًّا عَلَى كُلِّ شَهرٍ ذَاتِ أَسرَارِ
تَنَزَّلُ الرُوحُ والأَملاكُ قَاطِبَةً
بِإِذنِ رَبٍّ غَفُورٍ خَالِقٍ بَارِي
شَهرٌ بِهِ يُعتِقُ اللهُ العُصَاةَ وَقَد
أَشفَوا على جُرُفٍ مِن خُطَّةِ النَّارِ
فَابكُوا عَلَى مَا مَضَى في الشَّهرِ وَاغتَنِمُوا
مَا قَد بَقَى فَهُوَ حَقًّا عَنكُمُ جَارِي
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ رَمَضَانَ وَإِن كَانَ سَيَرحَلُ بَعدَ أَيَّامٍ مَعدُودَةٍ ، فَإِنَّ لَهُ وَلا شَكَّ رُجُوعًا وَعَودَةً ، نَعَم ، سَيَرجِعُ رَمَضَانُ في كُلِّ عَامٍ ، وَسَيَعُودُ مِرَارًا عَلَى أُمَّةِ الإِسلامِ ، وَسَيَبقَى بِأَمرِ اللهِ مَا بَقِيَت لِلدِّينِ بَقِيَّةٌ ، وَلَكِنَّ مِن غَيرِ المُؤَكَّدِ لأَيٍّ مِنَّا ، هَل سَيُدرِكُ رَمَضَانَ القَادِمَ أَم لا ؟ بَل لا يُدرَى مَن مِنَّا سَيَشهَدُ العِيدَ مَعَ أَهلِهِ ، وَمَن سَتُختَطَفُ رُوحُهُ قَبلَ ذَلِكَ ، وَإِذَا كَانَ الأَمرُ كَذَلِكَ – أَيُّهَا المُوَفَّقُونَ – فَإِنَّ مِن تَمَامِ التَّوفِيقِ وَكَمَالِ الهِدَايَةِ لِمَن بَعَثَ اللهُ هِمَّتَهُ فَأَحسَنَ فِيمَا مَضَى مِن شَهرِهِ ، أَن يُضَاعِفَ الجُهدَ فِيمَا بَقِيَ مِن دَهرِهِ ، وَيُحسِنَ الخِتَامَ فِيمَا سَيَأتِي مِن عُمُرِهِ ، فَإِنَّمَا الأَعمَالُ بِالخَوَاتِيمِ ، وَقَد أَجرَى الرَّبُّ الكَرِيمُ سُنَّتَهُ عَلَى أَنَّ مَن عَاشَ عَلَى شَيءٍ مَاتَ عَلَيهِ ، وَمَن مَاتَ عَلَى شَيءٍ بُعِثَ عَلَيهِ . وَإِنَّ مِمَّا يُعِينُ عَلَى إِحسَانِ العَمَلِ في خِتَامِ الشَّهرِ وَبَقِيَّةِ العُمُرِ ، أَن يُكثِرَ العَبدُ مِنَ الدُّعَاءِ بِالثَّبَاتِ ، فَإِنَّ مَن وَفَّقَ عَبدَهُ لِلدُّخُولِ في صَالِحِ العَمَلِ وَحَبَّبَهُ إِلَيهِ وَأَعَانَهُ عَلَيهِ ، هُوَ وَحدَهُ القَادِرُ عَلَى أَن يُحَبِّبَ إِلَيهِ البَقَاءَ عَلَيهِ وَيُثَبِّتَهُ ، وَإِذَا كَانَتِ الهِدَايَةُ إِلى اللهِ مَصرُوفَةً ، وَالاستِقَامَةُ عَلَى مَشِيئَتِهِ مَوقُوفَةً ، وَالعَاقِبَةُ مُغَيَّبَةً ، وَالإِرَادَةُ غَيرَ مُغَالَبَةٍ ، فَلا يَعجَبَنَّ أَحَدٌ بِإِيمَانِهِ وَإِحسَانِهِ ، وَلا يَغتَرَنَّ عَامِلٌ بِعَمَلِهِ أَو قُرَبِهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَإِن كَانَ مِن كَسبِهِ ، فَإِنَّهُ مِن فَضلِ مَولاهُ وَتَوفِيقِ رَبِّهِ ، وَمَهمَا افتَخَر مُفتَخِرٌ بِعَمَلٍ ، فَإِنَّمَا هُوَ كَالمُفتَخِرِ بِمَتَاعِ غَيرِهِ ، وَرُبَّمَا سُلِبَ عَنهُ فَعَادَ قَلبُهُ مِنَ الخَيرِ أَخلَى مِن جَوفِ البَعِيرِ ، فَكَم مِن رَوضَةٍ أَمسَت وَزَهرُهَا يَانِعٌ عَمِيمٌ ، فَأَصبَحَت وَزَهرُهَا يَابِسٌ هَشِيمٌ ، إِذ هَبَّت عَلَيهَا الرِّيحُ العَقِيمُ ، كَذَلِكَ العَبدُ يُمسِي وَقَلبُهُ بِطَاعَةِ اللهِ مُشرِقٌ سَلِيمٌ ، فَيُصبِحُ وَهُوَ بِمَعصِيَةٍ مُظلِمٌ سَقِيمٌ ، ذَلِكَ فِعلُ العَزِيزِ الحَكِيمِ الخَلاَّقِ العَلِيمِ ، وَمِن ثَمَّ كَانَ الدُّعَاءُ بِالثَّبَاتِ هُوَ دَيدَنَ خَيرِ خَلقِ اللهِ وَأَتقَاهُم لَهُ وَأَعبَدِهِم وَأَزهَدِهِم ، عَن أَنسِ بنِ مَالِكٍ – رَضِيَ اللهُ عَنهُ - قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يُكثِرُ أَن يَقُولَ : " يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلبِي عَلَى دِينِكَ " فَقُلتُ : يَا نَبيَّ اللهِ ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئتَ بِهِ ، فَهَل تَخَافُ عَلَينَا ؟ قَالَ : " نَعَم ، إِنَّ القُلُوبَ بَينَ أَصبُعَينِ مِن أَصَابِعِ اللهِ يُقَلِّبُهَا كَيفَ يَشَاءُ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَابنُ مَاجَه وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَمَن تَأَمَّلَ مَا يَقرَؤُهُ في كُلِّ رَكعَةٍ مِن صَلاتِهِ مِن قَولِ اللهِ – تَعَالى - في سُورَةِ الفَاتِحَةِ : " إِيَّاكَ نَعبُدُ وَإِيَّاكَ نَستَعِينُ " عَلِمَ أَنَّهُ لا حَولَ لِلعَبدِ وَلا قُوَّةَ عَلَى العِبَادَةَ ، إِلاَّ بِإِعَانَةِ اللهِ وَتَوفِيقِهِ ، وَمَعَ هَذَا - أَيُّهَا المُبَارَكُونَ - فَإِنَّ مَن ذَاقَ عَرَفَ ، وَمِن أَلِفَ لم يَنحَرِفْ ، مَن وَجَدَ رَاحَةَ قَلبِهِ في المَسجِدِ فَلَن يُحِبَّ بُقعَةً عَلَى الأَرضِ مِثلَهُ ، وَمَن كَانَ القُرآنُ رَبِيعَ قَلبِهِ فَلَن تَعصِفَ بِثِمَارِهِ رِيَاحُ الصَّيفِ وَلا جَلِيدُ الشِّتَاءِ ، وَمَن تَنَسَّمَ عَبِيرَ الذِّكرِ فَلَن يَنسَاهُ في لَيلٍ أَو نَهَارٍ ، وَمَنِ استَلَّت رَكَعَاتُ اللَّيلِ هُمُومَهُ ، وَأَذهَبَت سَجَدَاتُ السَّحَرِ أَحزَانَهُ ، وَأَبدَلَتهُ أَفرَاحَ الإِيمَانِ وَالسَّكِينَةَ وَالاطمِئنَانَ ، بَقِيَ في كُلِّ لَيلَةٍ في صُفُوفِ القَانِتِينَ المُخبِتِينَ . أَلا فَاتَّقُوا اللهَ – أَيُّهَا المُسلِمُونَ - وَكُونُوا لَهُ عَابِدِينَ " صبغَةَ اللهِ وَمَن أَحسَنُ مِنَ اللهِ صِبغَةً وَنَحنُ لَهُ عَابِدونَ " لَقَد أَمَرَ – سُبحَانَهُ – نَبِيَّهُ وَالأَمرُ لِلأُمَّةِ جَمِيعًا فَقَالَ : " وَاعبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ " وَبِذَلِكَ أَوصَى – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - مَنِ استَوصَاهُ " فَعَن سُفيَانَ بنِ عَبدِاللهِ الثَّقَفِيِّ – رَضِيَ اللهُ عَنهُ – قَالَ : قُلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، قُلْ لي في الإِسلامِ قَولاً لا أَسأَلُ عَنهُ أَحَدًا بَعدَكَ . قَالَ : " قُلْ آمَنتُ بِاللهِ فَاستَقِمْ " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَقَد وَعَدَ اللهُ المُستَقِيمِينَ خَيرَ وَعدٍ وَأَصدَقَهُ ، فقال – سبحانه - : " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ استَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحزَنُوا وَأَبشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتي كُنتُم تُوعَدُونَ . نَحنُ أَولِيَاؤُكُم في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَفي الآخِرَةِ وَلَكُم فِيهَا مَا تَشتَهِي أَنفُسُكُم وَلَكُم فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلا مِن غَفُورٍ رَحِيمٍ " فَاللَّهُمَّ اختِم لَنَا شَهرَ رَمَضَانَ بِرِضوَانِكَ ، وَاجعَلْنَا مِنَ الفَائِزِينَ بِجِنَانِكَ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " وَقُلْ رَبِّ أَدخِلْني مُدخَلَ صِدقٍ وَأَخرِجْني مُخرَجَ صِدقٍ وَاجعَلْ لي مِن لَدُنكَ سُلطَانًا نَصِيرًا "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ – تَعَالى – حَقَّ التَّقوَى " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعظِمْ لَهُ أَجرًا "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، كَم نُسَرُّ بِكَثرَةِ الطَّائِعِينَ في رَمَضَانَ ، وَتَغمُرُنَا الفَرحَةُ بِتَنَوُّعِ الطَّاعَاتِ في شَهرِ البِرِّ وَالإِحسَانِ ، غَيرَ أَنَّ المُبهِجَ لِلنُّفُوسِ حَقًّا وَصِدقًا ، مَا نَرَاهُ في كُلِّ عَامٍ وَنَلمَسُهُ بَعدَ كُلِّ رَمَضَانَ ، مَن سَعيٍ مِن مُوَفَّقِينَ ذَاقُوا حَلاوَةَ الإِيمَانِ ، إِلى تَثبِيتِ مَا أَلِفُوهُ وَاعتَادُوا عَلَيهُ مِن عَبَادَاتٍ وَطَاعَاتٍ وَبِرٍّ وَإحَسَانٍ ، وَعَزمٍ عَلَى هِجرَانِ المُخَالَفَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَتَركِ العِصيَانِ ، وَهَذِهِ عَلامَةُ صِدقٍ وَمُؤَشِّرٌ عَلَى إِيمَانٍ . فَيَا مَن تَذَوَّقتَ حَلاوَةَ الصَّلاةِ مَعَ الجَمَاعَةِ في المَسجِدِ ، وَاستَطعَمتَ لَذَّةَ الصِّيَامِ وَقِلَّةَ الطَّعَامِ في خِفَّةِ الجَسَدِ وَصَفَاءِ القَلبِ ، وَلامَسَت شِغَافَ قَلبِكَ حَلاوَةُ البَذلِ وَالعَطَاءِ ، وَوَجَدتَ رَاحَةً لِكِفَايَةِ الفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ ، وَتَلَذَّذتَ بإِدخَالِ السُّرُورِ عَلَى الأَيتَامِ وَالمُحتَاجِينَ ، وَعِشتَ مَعَ القُرآنِ تِلاوَةً وَتَدَبُّرًا ، وَغَذَّيتَ بِآيَاتِهِ عَقلَكَ تَفَكُّرًا وَتَأَثُّرًا ، أَيُّهَا المُوَفَّقُونَ لِلعَملِ الصَّالِحِ أَيًّا كَانَ ، أَمسِكُوا بِخُيُوطِ البِرِّ الَّتي وَضَعتُم أَيدِيَكُم عَلَيهَا في رَمَضَانَ ، لِتَنسُجُوا مِنهَا لِبَاسَ التَّقوَى طُوَالَ العَامِ ، وَزِيدُوا مَا استَطعَتُم في ثَوَابِتِ الإِيمَانِ استِعدَادًا لِلِقَاءِ الرَّحمَنِ ، فَقَد كَانَ هَذَا هُوَ هَديَ إِمَامِكُم – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ – وَبِهِ أَمَرَ حَيثُ قَالَ : " سَدِّدُوا وَقَارِبُوا ، وَاعلَمُوا أَنَّهُ لَن يُدخِلَ أَحَدَكُم عَمَلُهُ الجَنَّةَ ، وَإنَّ أَحَبَّ الأَعمَالِ إِلى اللهِ أَدوَمُهَا وَإِن قَلَّ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . وَفِيهِمَا عَن عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنهَا – قَالَت : " وَكَانَ أَحَبُّ الدِّينِ إِلَيهِ مَا دَاوَمَ عَلَيهِ صَاحِبُهُ "
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، ثَلاثُ لَيَالٍ أَو أَربَعٌ في عِلمِ اللهِ ، وَيُوَدِّعُنَا شَهرُ الخَيرَاتِ وَالبَرَكَاتِ ، فَسَلامُ اللهِ عَلَى شَهرٍ مُبَارَكٍ وَمَوسِمٍ عَظِيمٍ ، أَلِفنَا فِيهِ العِبَادَةَ وَأَحبَبنَا الطَّاعَةَ ، وَأَقبَلَت نُفُوسُنَا عَلَى الخَيرِ وَأَقصَرَت عَنِ الشَّرِّ ، وَاطمَأَنَّت قُلُوبُنَا بِذِكرِ اللهِ ، وَامتَلأَت صُدُورُنَا فَرَحًا بِفَضلِ اللهِ ، وَأَحبَبنَا الحَسَنَاتِ وَكَرِهنَا السَّيِّئَاتِ ، وَتَزَوَّدنَا مِنَ البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ .
دَعِ البُكاءَ عَلَى الأَطلالِ وَالدَّارِ
وَاذكُرْ لِمَن بَانَ مِن خِلٍّ وَمِن جَارِ
وَاذْرِ الدُّمُوعَ نَحِيبًا وَابكِ مِن أَسَفٍ
عَلَى فِرَاقِ لَيالٍ ذَاتِ أَنوَارِ
عَلَى لَيالٍ لِشَهرِ الصَّومِ مَا جُعِلَت
إِلاَّ لِتَمحِيصِ آثَامٍ وَأَوزَارِ
مَا كَانَ أَحسَنَنَا وَالشَّملُ مُجتَمِعٌ
مِنَّا المُصَلِّي وَمِنَّا القَانِتُ القَارِي
وَفِي التَّرَاوِيحِ لِلَّرَاحَاتِ جَامِعَةٌ
فِيهَا المَصَابِيحُ تَزهُو مِثلَ أَزهَارِي
في لَيلِهِ لَيلَةُ القَدرِ التي شَرُفَت
حَقًّا عَلَى كُلِّ شَهرٍ ذَاتِ أَسرَارِ
تَنَزَّلُ الرُوحُ والأَملاكُ قَاطِبَةً
بِإِذنِ رَبٍّ غَفُورٍ خَالِقٍ بَارِي
شَهرٌ بِهِ يُعتِقُ اللهُ العُصَاةَ وَقَد
أَشفَوا على جُرُفٍ مِن خُطَّةِ النَّارِ
فَابكُوا عَلَى مَا مَضَى في الشَّهرِ وَاغتَنِمُوا
مَا قَد بَقَى فَهُوَ حَقًّا عَنكُمُ جَارِي
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ رَمَضَانَ وَإِن كَانَ سَيَرحَلُ بَعدَ أَيَّامٍ مَعدُودَةٍ ، فَإِنَّ لَهُ وَلا شَكَّ رُجُوعًا وَعَودَةً ، نَعَم ، سَيَرجِعُ رَمَضَانُ في كُلِّ عَامٍ ، وَسَيَعُودُ مِرَارًا عَلَى أُمَّةِ الإِسلامِ ، وَسَيَبقَى بِأَمرِ اللهِ مَا بَقِيَت لِلدِّينِ بَقِيَّةٌ ، وَلَكِنَّ مِن غَيرِ المُؤَكَّدِ لأَيٍّ مِنَّا ، هَل سَيُدرِكُ رَمَضَانَ القَادِمَ أَم لا ؟ بَل لا يُدرَى مَن مِنَّا سَيَشهَدُ العِيدَ مَعَ أَهلِهِ ، وَمَن سَتُختَطَفُ رُوحُهُ قَبلَ ذَلِكَ ، وَإِذَا كَانَ الأَمرُ كَذَلِكَ – أَيُّهَا المُوَفَّقُونَ – فَإِنَّ مِن تَمَامِ التَّوفِيقِ وَكَمَالِ الهِدَايَةِ لِمَن بَعَثَ اللهُ هِمَّتَهُ فَأَحسَنَ فِيمَا مَضَى مِن شَهرِهِ ، أَن يُضَاعِفَ الجُهدَ فِيمَا بَقِيَ مِن دَهرِهِ ، وَيُحسِنَ الخِتَامَ فِيمَا سَيَأتِي مِن عُمُرِهِ ، فَإِنَّمَا الأَعمَالُ بِالخَوَاتِيمِ ، وَقَد أَجرَى الرَّبُّ الكَرِيمُ سُنَّتَهُ عَلَى أَنَّ مَن عَاشَ عَلَى شَيءٍ مَاتَ عَلَيهِ ، وَمَن مَاتَ عَلَى شَيءٍ بُعِثَ عَلَيهِ . وَإِنَّ مِمَّا يُعِينُ عَلَى إِحسَانِ العَمَلِ في خِتَامِ الشَّهرِ وَبَقِيَّةِ العُمُرِ ، أَن يُكثِرَ العَبدُ مِنَ الدُّعَاءِ بِالثَّبَاتِ ، فَإِنَّ مَن وَفَّقَ عَبدَهُ لِلدُّخُولِ في صَالِحِ العَمَلِ وَحَبَّبَهُ إِلَيهِ وَأَعَانَهُ عَلَيهِ ، هُوَ وَحدَهُ القَادِرُ عَلَى أَن يُحَبِّبَ إِلَيهِ البَقَاءَ عَلَيهِ وَيُثَبِّتَهُ ، وَإِذَا كَانَتِ الهِدَايَةُ إِلى اللهِ مَصرُوفَةً ، وَالاستِقَامَةُ عَلَى مَشِيئَتِهِ مَوقُوفَةً ، وَالعَاقِبَةُ مُغَيَّبَةً ، وَالإِرَادَةُ غَيرَ مُغَالَبَةٍ ، فَلا يَعجَبَنَّ أَحَدٌ بِإِيمَانِهِ وَإِحسَانِهِ ، وَلا يَغتَرَنَّ عَامِلٌ بِعَمَلِهِ أَو قُرَبِهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَإِن كَانَ مِن كَسبِهِ ، فَإِنَّهُ مِن فَضلِ مَولاهُ وَتَوفِيقِ رَبِّهِ ، وَمَهمَا افتَخَر مُفتَخِرٌ بِعَمَلٍ ، فَإِنَّمَا هُوَ كَالمُفتَخِرِ بِمَتَاعِ غَيرِهِ ، وَرُبَّمَا سُلِبَ عَنهُ فَعَادَ قَلبُهُ مِنَ الخَيرِ أَخلَى مِن جَوفِ البَعِيرِ ، فَكَم مِن رَوضَةٍ أَمسَت وَزَهرُهَا يَانِعٌ عَمِيمٌ ، فَأَصبَحَت وَزَهرُهَا يَابِسٌ هَشِيمٌ ، إِذ هَبَّت عَلَيهَا الرِّيحُ العَقِيمُ ، كَذَلِكَ العَبدُ يُمسِي وَقَلبُهُ بِطَاعَةِ اللهِ مُشرِقٌ سَلِيمٌ ، فَيُصبِحُ وَهُوَ بِمَعصِيَةٍ مُظلِمٌ سَقِيمٌ ، ذَلِكَ فِعلُ العَزِيزِ الحَكِيمِ الخَلاَّقِ العَلِيمِ ، وَمِن ثَمَّ كَانَ الدُّعَاءُ بِالثَّبَاتِ هُوَ دَيدَنَ خَيرِ خَلقِ اللهِ وَأَتقَاهُم لَهُ وَأَعبَدِهِم وَأَزهَدِهِم ، عَن أَنسِ بنِ مَالِكٍ – رَضِيَ اللهُ عَنهُ - قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يُكثِرُ أَن يَقُولَ : " يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلبِي عَلَى دِينِكَ " فَقُلتُ : يَا نَبيَّ اللهِ ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئتَ بِهِ ، فَهَل تَخَافُ عَلَينَا ؟ قَالَ : " نَعَم ، إِنَّ القُلُوبَ بَينَ أَصبُعَينِ مِن أَصَابِعِ اللهِ يُقَلِّبُهَا كَيفَ يَشَاءُ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَابنُ مَاجَه وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَمَن تَأَمَّلَ مَا يَقرَؤُهُ في كُلِّ رَكعَةٍ مِن صَلاتِهِ مِن قَولِ اللهِ – تَعَالى - في سُورَةِ الفَاتِحَةِ : " إِيَّاكَ نَعبُدُ وَإِيَّاكَ نَستَعِينُ " عَلِمَ أَنَّهُ لا حَولَ لِلعَبدِ وَلا قُوَّةَ عَلَى العِبَادَةَ ، إِلاَّ بِإِعَانَةِ اللهِ وَتَوفِيقِهِ ، وَمَعَ هَذَا - أَيُّهَا المُبَارَكُونَ - فَإِنَّ مَن ذَاقَ عَرَفَ ، وَمِن أَلِفَ لم يَنحَرِفْ ، مَن وَجَدَ رَاحَةَ قَلبِهِ في المَسجِدِ فَلَن يُحِبَّ بُقعَةً عَلَى الأَرضِ مِثلَهُ ، وَمَن كَانَ القُرآنُ رَبِيعَ قَلبِهِ فَلَن تَعصِفَ بِثِمَارِهِ رِيَاحُ الصَّيفِ وَلا جَلِيدُ الشِّتَاءِ ، وَمَن تَنَسَّمَ عَبِيرَ الذِّكرِ فَلَن يَنسَاهُ في لَيلٍ أَو نَهَارٍ ، وَمَنِ استَلَّت رَكَعَاتُ اللَّيلِ هُمُومَهُ ، وَأَذهَبَت سَجَدَاتُ السَّحَرِ أَحزَانَهُ ، وَأَبدَلَتهُ أَفرَاحَ الإِيمَانِ وَالسَّكِينَةَ وَالاطمِئنَانَ ، بَقِيَ في كُلِّ لَيلَةٍ في صُفُوفِ القَانِتِينَ المُخبِتِينَ . أَلا فَاتَّقُوا اللهَ – أَيُّهَا المُسلِمُونَ - وَكُونُوا لَهُ عَابِدِينَ " صبغَةَ اللهِ وَمَن أَحسَنُ مِنَ اللهِ صِبغَةً وَنَحنُ لَهُ عَابِدونَ " لَقَد أَمَرَ – سُبحَانَهُ – نَبِيَّهُ وَالأَمرُ لِلأُمَّةِ جَمِيعًا فَقَالَ : " وَاعبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ " وَبِذَلِكَ أَوصَى – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - مَنِ استَوصَاهُ " فَعَن سُفيَانَ بنِ عَبدِاللهِ الثَّقَفِيِّ – رَضِيَ اللهُ عَنهُ – قَالَ : قُلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، قُلْ لي في الإِسلامِ قَولاً لا أَسأَلُ عَنهُ أَحَدًا بَعدَكَ . قَالَ : " قُلْ آمَنتُ بِاللهِ فَاستَقِمْ " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَقَد وَعَدَ اللهُ المُستَقِيمِينَ خَيرَ وَعدٍ وَأَصدَقَهُ ، فقال – سبحانه - : " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ استَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحزَنُوا وَأَبشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتي كُنتُم تُوعَدُونَ . نَحنُ أَولِيَاؤُكُم في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَفي الآخِرَةِ وَلَكُم فِيهَا مَا تَشتَهِي أَنفُسُكُم وَلَكُم فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلا مِن غَفُورٍ رَحِيمٍ " فَاللَّهُمَّ اختِم لَنَا شَهرَ رَمَضَانَ بِرِضوَانِكَ ، وَاجعَلْنَا مِنَ الفَائِزِينَ بِجِنَانِكَ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " وَقُلْ رَبِّ أَدخِلْني مُدخَلَ صِدقٍ وَأَخرِجْني مُخرَجَ صِدقٍ وَاجعَلْ لي مِن لَدُنكَ سُلطَانًا نَصِيرًا "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ – تَعَالى – حَقَّ التَّقوَى " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعظِمْ لَهُ أَجرًا "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، كَم نُسَرُّ بِكَثرَةِ الطَّائِعِينَ في رَمَضَانَ ، وَتَغمُرُنَا الفَرحَةُ بِتَنَوُّعِ الطَّاعَاتِ في شَهرِ البِرِّ وَالإِحسَانِ ، غَيرَ أَنَّ المُبهِجَ لِلنُّفُوسِ حَقًّا وَصِدقًا ، مَا نَرَاهُ في كُلِّ عَامٍ وَنَلمَسُهُ بَعدَ كُلِّ رَمَضَانَ ، مَن سَعيٍ مِن مُوَفَّقِينَ ذَاقُوا حَلاوَةَ الإِيمَانِ ، إِلى تَثبِيتِ مَا أَلِفُوهُ وَاعتَادُوا عَلَيهُ مِن عَبَادَاتٍ وَطَاعَاتٍ وَبِرٍّ وَإحَسَانٍ ، وَعَزمٍ عَلَى هِجرَانِ المُخَالَفَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَتَركِ العِصيَانِ ، وَهَذِهِ عَلامَةُ صِدقٍ وَمُؤَشِّرٌ عَلَى إِيمَانٍ . فَيَا مَن تَذَوَّقتَ حَلاوَةَ الصَّلاةِ مَعَ الجَمَاعَةِ في المَسجِدِ ، وَاستَطعَمتَ لَذَّةَ الصِّيَامِ وَقِلَّةَ الطَّعَامِ في خِفَّةِ الجَسَدِ وَصَفَاءِ القَلبِ ، وَلامَسَت شِغَافَ قَلبِكَ حَلاوَةُ البَذلِ وَالعَطَاءِ ، وَوَجَدتَ رَاحَةً لِكِفَايَةِ الفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ ، وَتَلَذَّذتَ بإِدخَالِ السُّرُورِ عَلَى الأَيتَامِ وَالمُحتَاجِينَ ، وَعِشتَ مَعَ القُرآنِ تِلاوَةً وَتَدَبُّرًا ، وَغَذَّيتَ بِآيَاتِهِ عَقلَكَ تَفَكُّرًا وَتَأَثُّرًا ، أَيُّهَا المُوَفَّقُونَ لِلعَملِ الصَّالِحِ أَيًّا كَانَ ، أَمسِكُوا بِخُيُوطِ البِرِّ الَّتي وَضَعتُم أَيدِيَكُم عَلَيهَا في رَمَضَانَ ، لِتَنسُجُوا مِنهَا لِبَاسَ التَّقوَى طُوَالَ العَامِ ، وَزِيدُوا مَا استَطعَتُم في ثَوَابِتِ الإِيمَانِ استِعدَادًا لِلِقَاءِ الرَّحمَنِ ، فَقَد كَانَ هَذَا هُوَ هَديَ إِمَامِكُم – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ – وَبِهِ أَمَرَ حَيثُ قَالَ : " سَدِّدُوا وَقَارِبُوا ، وَاعلَمُوا أَنَّهُ لَن يُدخِلَ أَحَدَكُم عَمَلُهُ الجَنَّةَ ، وَإنَّ أَحَبَّ الأَعمَالِ إِلى اللهِ أَدوَمُهَا وَإِن قَلَّ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . وَفِيهِمَا عَن عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنهَا – قَالَت : " وَكَانَ أَحَبُّ الدِّينِ إِلَيهِ مَا دَاوَمَ عَلَيهِ صَاحِبُهُ "
المرفقات
ودعوا الشهر الكريم وداع الكريم.doc
ودعوا الشهر الكريم وداع الكريم.doc
ودعوا الشهر الكريم وداع الكريم.pdf
ودعوا الشهر الكريم وداع الكريم.pdf
المشاهدات 2115 | التعليقات 2
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
عاصم عاصم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الإخوة في الإشراف
لازال هناك مشكلة في تحميل ملفات الوورد
إذا حملتها لا تفتح
يبدو هناك مشكلة أتمنى حلها سريعاً ليُنتفع من الخطب
جزاكم الله خيراً على ما تبذلون من نفع لإخوانكم
تعديل التعليق