وداع أهل الإيمان لشهر الطاعة والإحسان

أبو عبد الله الأنصاري
1433/09/18 - 2012/08/06 02:06AM
معاشر الصائمين .. ما أسرع ما تمضي الأيام .. هذا شهر رمضان ، ضيف كريم استقبلناه بالأمس ، وها هو اليوم قد انتصف، فتأملوا - عباد الله - في أمركم ، شهر رمضان قد انتصف فمن منا حاسب نفسه فيه لله وانتصف ؟ ومَن منا قام في هذا الشهر بحقه الذي عرف ؟ هل فينا من قهر نفسه لله وانتصف ؟ وهل فينا من قام فيه بما عرف ؟ وتشوقت نفسه لنيل الشرف ؟ وعزم قبل غلق أبواب الجنة أن يبني له فيها غرفا من فوقها غرف ؟ ألا إن شهركم قد أخذ في النقص فزيدوا أنتم في العمل ، فكأنكم به و قد انصرف ، فكل شهر عسى أن يكون منه خلف ، و أما شهر رمضان فمن أين لكم منه خلف ؟!
( تنصف الشهر والهفاه وانهدما ... واختص بالفوز بالجنات من خدما )
( وأصبح الغافل المسكين منكسرا ... مثلي فيا ويحه يا عظم ما حُرما )
( من فاته الزرع في وقت البدار فما ... تراه يحصد إلا الهم والندما )
( طوبى لمن كانت التقوى بضاعته ... في شهره وبحبل الله معتصما )
لقد مضى من رمضان صدره، وانقضى منه شطره، واكتمل منه بدره، فاغتمنوا فرصة تمرُّ مرَّ السحاب ، وادخلوا قبل أن يُغلق الباب .. فإنه يوشك للضيف أن يرتحل ، ولشهر العطايا والنفحات أن ينتقل ، فأحسنوا فيما بقي ،عسى أن يُغفَر لكم ما مضى ، فإن أسأتم فيما بقي أُخذتم بما مضى وبما بقي .
بين الجوانح في الأعماق سكناه فكيف أنسى ومن في الناس ينساه
في كل عام لنا لقيا محببـــــــــةٌ يهتز كل كياني حين ألقــــــــــــــــاه
بالعين والقلب بالآذان أرقبــــــــه وكيف لا وأنا بالروح أحيـــــــــــــــــاه
ألقاه شهراً ولكن في نهايتـــــــه يمضي كطيف خيال قد لمحنــــــــاه
في موسم الطهر في رمضان تجمعـــــــــــنا محبة الله لا مال ولا جــــــــاه
مِن كل ذي خشية لله ذي ولـــع في الخير تعرفه دوماً بسيمــــــــاه
قد قدروا موسم الخيرات فاستبقـــــــــــوا والاستباق هنا المحمود عقباه
صاموه قاموه إيماناً ومحتَسبــــاً أحيوه طوعاً وما في الخير إكـــــــراه
فالأذن سامعة والعين دامعـــــة والروح خاشعة والقـــــــــــلب أواه
وكلهم بات بالقرآن مندمجـــــــاً كأنه الدم يسري في خلايــــــــــاه
أخي الصائم : أدرك أنك قد شرعت الآن في الثلث الأخير من هذا الشهر وفي العشر الأخيرات المباركات من هذا الشهر ومعنى ذلك أنك في ليال هي والله غرة في جبين الزمان ودرة غالية نفيسة يفترض أن تعظم وتثمن وتصان .
ولذلك فقد كان من هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها لما فيها من نفل عظيم وشرف كبير وكان يخلط النوم بالقيام طيلة الشهر فينام ويقوم فإذا دخلت العشر أيقظ أهله وشد مئزره وأحيا ليله كما في الصحيحين ، وفي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ : ( كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لاَ يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ ).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : ( وأما ليالي عشر رمضان فهي ليالي الاحياء التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحييها كلها وفيها ليلة خير من ألف شهر ) .
ومن أجلِّ ما خص الله به هذه العشر أن جعل فيها ليلة القدر التي عظم الله شأنها فقال : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر ) فأخبر الله عنها بأنها خير من ألف شهر ، أي تعدل العبادة فيها عبادة ألف شهر .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أقبل شهر رمضان بشر أصحابه به وبشرهم بهذه الليلة التي هي أشرف لياليه فعن أبي قلابة عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قد جاءكم شهر رمضان ، شهر مبارك ، افترض الله عليكم صيامه ، يفتح فيه أبواب الجنة ، ويُغلق فيه أبوابَ الجحيم ، وتُغل فيه الشياطين ، فيه ليلة خير من ألف شهر ، من حرم خيرها فقد حرم".البيهقي بإسناده صحيح .
أما تعيين ليلة القدر فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما سئل عنها : ( فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّاهَا الْمُؤْمِنُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ جَمِيعِهِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : {تَحَرُّوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ}" قال : وَتَكُونُ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ أَكْثَرَ، وَأَكْثَرُ مَا تَكُونُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ كَمَا كَانَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ يَحْلِفُ أَنَّهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ.
قال ابن رجب: وما في هذه المواسم الفاضلة موسمٌ إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعته، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بها من يعود بفضله ورحمته عليه، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات . اهـ
روى الطبراني وحسنه الألباني عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "افعلوا الخير دهركم وتعرضوا لنفحات رحمة الله فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده" .
عباد الله : إن شهر رمضان قد عزم على الرحيل ، و لم يبق منه إلا القليل ، فمن منكم أحسن فيه فعليه التمام ، و من فرط فليختمه بالحسنى و العمل بالختام ، فاستغنموا منه ما بقي من الليالي اليسيرة والأيام ، واستودعوه عملا صالحا يشهد لكم به عند الملك العلام ، وودعوه عند فراقه بأزكى تحية وسلام .
( سلام من الرحمن كل أوان ... على خير شهر قد مضى و زمان )
( سلام على الصيام فإنه ... أمان من الرحمن كل أمان )
( لئن فنيت أيامك الغر بغتة ... فما الحزن من قلبي عليك بفان )
يحق للمؤمن أن يحزن على فراق شهر رمضان لأنه لا يدري لعله لا يلقاه بعد عامه هذا أبداً ، يا شهر رمضان ترفق دموع المحبين تدفق قلوبهم من ألم الفراق تشقق عسى وقفة للوداع تطفىء من نار الشوق ما أحرق عسى ساعة توبة و إقلاع ترفو من الصيام كلما تخرق عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق عسى أسير الأوزار يطلق عسى من استوجب النار يعتق :
( عسى و عسى من قبل وقت التفرق ... إلى كل ما ترجو من الخير تلتقي )
( فيجبر مكسور ويقبل تائب ... ويعتق خطاء ويسعد من شقي )
الخطبة الثانية
يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى : ( فكثير من هؤلاء الجهال لا يصلي إلا في رمضان إذا صام ، و كثير منهم لا يجتنب كبائر الذنوب إلا في رمضان ، فيطول عليه و يشق على نفسه مفارقتها لمألوفها ، فهو يَعُدُّ الأيام و الليالي ليعودوا إلى المعصية ، وهؤلاء مصرون على ما فعلوا و هم يعلمون ، فهم هلكى ، و منهم من لا يصبر على المعاصي فهو يواقعها في رمضان ، و حكاية محمد بن هارون البلخي مشهورة ، وقد رويت من وجوه ، وهو أنه كان مصرَّاً على شرب الخمر ، فجاء في آخر يوم من شعبان و هو سكران ، فعاتبته أمه و هي تَسْجُر تنوراً ، فحملها فألقاها في التنور فاحترقت ، وكان بعد ذلك قد تاب وتعبد ، فرؤي له في النوم أن الله قد غفر للحاج كلهم سواه ، فمن أراد الله به خيرا حبب إليه الإيمان ، وزينه في قلبه ، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان ، فصار من الراشدين ، ومن أراد به شراً خلَّى بينه وبين نفسه ، فاتبعه الشيطان ، فحبب إليه الكفر والفسوق والعصيان فكان من الغاوين ) .
( أنت في دار شتات ... فتأهـــــب لشتاتك )
( واجعل الدنيا كيوم ... صُمْتَه عن شهواتك )
( وليكن فطرك عند اللـــــــه في يوم وفاتك )
كم ممن أمل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله فصار قبله إلى ظلمة القبر ؟ كم من مستقبل يوما لا يستكمله ؟ ومؤمل غدا لا يدركه ؟ إنكم لو أبصرتم الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره ، خطب عمر بن عبد العزيز آخر خطبة خطبها فقال فيها : ( إنكم لم تخلقوا عبثا ، ولن تُتركوا سدى ، وإن لكم معادا ينزل الله فيه للفصل بين عباده ، فقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء ، وحُرم جنة عرضها السموات و الأرض ، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين ، وسيرثها بعدكم الباقون ، كذلك حتى تُرد إلى خير الوارثين ، وفي كل يوم تشيِّعون غاديا ورائحا إلى الله ، قد قضى نحبه ، وانقضى أجلُه ، فتودِّعونه وتدَعونه في صَدْع من الأرض غير موسد ولا ممهد ، قد خلع الأسباب ، وفارق الأحباب ، وسكن التراب ، وواجه الحساب ، غنياً عمَّا خلف ، فقيراً إلى ما أسلف ، فاتقوا الله - عباد الله - قبل نزول الموت وانقضاء مواقيته ، وإني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي ، ولكن أستغفر الله وأتوب إليه ) ، ثم رفع طرف ردائه وبكى حتى شهق ، ثم نزل فما عاد إلى المنبر بعدها حتى مات رحمة الله عليه .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( ومَن مات وكان لا يزكي ولا يصلي إلا في رمضان ينبغي لأهل العلم والدين أن يَدَعُوا الصلاة عليه عقوبة ونكالاً لأمثاله ) .
قيل لبشر الحافي : إن قومًا يتعبدون في رمضان ويجتهدون في الأعمال فإذا انسلخ تركوا ؟ فقال: بئس القوم قوم لا يعرفون الله إلا في رمضان ، وقال الحسن البصري: لا يكون لعمل المؤمن أجلٌ دون الموت ثم قرأ : ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) ، فاتقوا الهد يا معاشر الصائمين : فكأنكم بالحال وقد حال ، وبالمال وقد مال ، وبالملك وقد زال ، وبملك الموت وقد هال ، وبالملك الحافظ وقد طوى صحيفة الأعمال ، وبأحدكم وقد نزل به ما لم يخطر له ببال ، ولا مخلص ولا حول ولا احتيال.
[/align]
[/FONT][/FONT]
المشاهدات 2106 | التعليقات 0