وجوبُ الزكاةِ وَبَعْضُ التَنْبِيهَاتِ حَولَهَا.1442/9/3 هـ
عبد الله بن علي الطريف
وجوبُ الزكاةِ وَبَعْضُ التَنْبِيهَاتِ حَولَهَا.1442/9/3 هـ
الحَمْدُ اللهِ المـَلكِ العَلَامِ هَدَنَا للِإسلَامِ، وجَعلَ مِنْ أَرْكَانِهِ أَدَاءَ الزَكاةِ كُلَ عَامٍ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُاللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَليهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبعَهُ بِإِحْسَانٍ وسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً.. أَمَّا بَعدُ: أَيُهَا الإِخْوَةَ: تَزَوَّدُوا مِنْ العِلمِ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى، ومما يَنْبَغِي الاهتمامُ بِهِ وتَعلُمه أَحْكَامَ الزكَاةِ فَهْيَ ثَالِثُ أَركَانِ الإِسْلامِ، وَأَحَدُ مَبَانِيهِ العِظَامِ، وَهِيَ قَرِينَةُ الصَلَاةِ فِي مُحكَمِ القرآنِ؛ فقد قُرنتْ مَعَهَا فِي ثَمَانٍ وَعِشرِينَ مَوضعاً، وَقَرَنَتْ السُنْةُ بينهما في عَشَرَاتِ المواضِعِ، يقولُ اللهُ تَعَالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة:5] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» رواه البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا..
وهي أُختُ الصلاةِ ولا يجوزُ التفريقُ بينَهُمَا في حَالٍ مِنْ الأحوالِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ العَرَبِ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ؟ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا.. قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الحَقُّ» رواه البخاري ومسلم.
أيها الإخوة: لقد اعْتَنى الإسلامُ بالزكاةِ عنايةً عظيمةً فَهِي تُخرجُ تعبداً للهِ، ويُؤدِيها المسلمُ بوَصفِها فَريضةً دينيةً امتثلاً لأمرِ اللهِ تعالى وابتغاءَ مَرضَاتِهِ.
ليسَ هَدفُ الإسلامِ من الزكاةِ جَمعُ المالِ من الناسِ ولا إِغناءُ خَزينةِ الدَولةِ فحسب، وليس هَدفُهُ منها مُساعدةُ الضعفاءِ وذَوي الحَاجاتِ، وإقالَةِ عثراتِهم، وَلَا الوفاءِ عن الغارمينَ وإراحتِهم فحَسْب، بل هدفُه الأولُ أن يَعْلُو بالإنْسَانِ على المادةِ ويكونُ سَيداً لها لاعبداً؛ لهذا كانتْ أهدافُ الزكاةِ تهتَمُ بالـمُعْطِي اهتِمامَها بالآخذِ.
ولقد بَيَّنَ القرآنُ الكريمُ هَدفَ الزكاةِ بالنظرِ للأغنياءِ الذين تُؤخذُ منهم الزكاةُ فأجملَ ذلكَ بكلِمَتَينِ تَضَمْنَتَا كَثِيراً من أَسْرَارِ الزكاةِ وأهدافِها الكَبيرةِ فقالَ عزَّ من قائلٍ: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا..) [التوبة:103] والتطهيرُ هُنَا شاملٌ لروحِ الغنيِ ونفسِهِ… ولمالِهِ وثروتِهِ.. فالزكاةُ تَطْهِيرٌ من أَرْجَاسِ الذنوبِ بعامةٍ، ومن رِجسِ الشُحِ بخاصةٍ.. ذلك الشُحُ الذي أُحْضِرَتْهُ الأنفسُ وابتُلي به الإنسانُ. قالَ اللهُ تعالى: (..وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ..). [النساء:128] قال السعدي رحمه الله ما ملخصُه: أي جُبلتْ النفوسُ على الشُحِ وهو: عَدمُ الرغبةِ في بذلِ ما على الإنسانِ، والحرصُ على الحقِ الذي لَهُ، فالنفوسُ مجبولةٌ على ذلك طَبعاً، أي: فينبغي لكم أنْ تَحْرِصُوا على قَلعِ هذا الخُلُقِ الدَنيءِ من نُفوسِكم، وتستبدلوا به ضدَهُ وهو السَماحةُ، وهي بَذلُ الحقِ الذي عليك؛ والاقتناعُ ببعضِ الحقِ الذي لك.. فمتى ما وُفِقَ الإنسانُ لقلعِ هذا الخُلُقِ من نفسِهِ صَلُحَتْ حالُهُ وأَدْى ما عليه..أهـ
وَحَذَّرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ الشُحِ فَقَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالشُّحِّ، أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا» رواه أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما وصححه الألباني.
معاشرَ الأحبةِ: إنَّ الزكاةَ تُطـَهِرُ صاحبَها من خُبثِ البُخلِ الـمُهلكِ، وطَهارةُ الـمُتصدقِ بقدرِ بذلِه، وفَرحِهِ بإِخراجِهِ واستبشَارِه بمصرفِهِ للهِ تعالى.
والزكاةُ تُحررُ النفسَ من ذُلِ التَعلقِ بالمالِ والخُضوعِ له، ومِن تعاسَةِ العُبوديةِ للدينارِ والدرهمِ.. وأيُ تعاسةٍ أعظمُ من أنْ يَجْعَلَ اللهُ الإنسانَ في الأرضِ خَلِيفةً وسَيداً.. فإذا هو يُعَبْدُ نفسَهُ لما جُعِلَ لها مِن المَالِ.!!
والزكاةِ: تُدريبٌ على الإنفاقِ والبَذلِ، فالمسلمُ الذي يتعودُ الإنفاقَ وإخراجَ الزكاةِ لـمَالِهِ أَياً كَانَ يصبحُ الإنفاقُ صِفةً أصيلةً من صِفاتِهِ، وخُلقاً عَرِيقاً من أخلاقهِ.
والزكاة ُكذلك: مُنَمِيَةٌ لشَخصيةِ الغَنيِ وكِيانِهِ المَعنوي، فالإنسانُ الذي يُسدِى الخيرَ ويصنعُ المَعروفَ ويَبْذِلُ مِنْ ذَاتِ نَفْسِهِ ويَده لِينهضَ بإخوانِهِ في الدينِ وليقومَ بحقِ اللهِ عليه؛ يَشعُرُ بامتدادٍ في نفسِهِ وانشراحٍ في صَدرِهِ لا مَثِيلَ لَهُ.. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم…
الخطبة الثانية:
الحَمدُ للهِ رَبِ العَالَمِين وَأَشهدُ ألَّا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ لَهُ وليُ الصَالِحِينَ، وَأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ سَيدُ المرْسَلِينَ صلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلهِ وأصحابِهِ ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدَّينِ وسلَّمَ تَسلِيماً كَثِراً. أمَّا بعدُ: أَيُهَا الإِخْوَةَ: اتَقُوا اللهَ حَقَ التَقْوَى، واعْلَمُوا أَنَّ الزكاةَ كما أنها تُطَهرُ النفسَ وتُزَكيها، تُطَهِرُ المالَ وتُزكيه.. قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِذَا أَدَّيْتَ زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ أَذْهَبْتَ عَنْكَ شَرَّهُ» رواه الحاكم في المستدرك وقال هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما وقال الألباني في صحيح الترغيب حسن لغيره.
أيها الإخوة: والنقصُ بسببِ منعِ الزكاةِ لا يقتصرُ على مَانِعِها فقط، بل إنَّ مالَ الأمةِ كُلِها مُهددٌ بالنقصِ، ومُعَرَّضٌ للآفاتِ السَماويةِ التي تُضِرُ بالإنتاجِ العامِ، وتَهبطُ بدخلِ الأمةِ، وما ذَلِكَ إلا أَثَـــــرٌ مِن آثارِ سَخطِ اللهِ تعالى ونَقْمَتِه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا مَنَعَ قَوْمٌ الزَّكَاةَ إِلَّا ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِالسِّنِينَ» رواه الطبراني في الأوسط عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وقال الألباني صحيح لغيره.. فما أحوجَ الأمةَ كُلِها لهذا الحِصْنِ من البَلاءِ والبركةِ.
أيها الإخوة: ولقد تَوعدَ اللهُ مانعَ الزكاةِ بوعيدٍ شديدٍ فقال: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) [التوبة:34-35]
وَذَكَرَ رَسُولُ اللهِ فِي الصَحِيحِ أَنَّ أَصَحِابَ الأمْوَالَ الذِين لَا يُؤَدُّنَ مِنْهَا حَقَّهَا يُجَازَونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فمَنْ كَانَ صَاحِبَ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ، وَإنْ كَانَ صَاحِبُ إِبِلٍ لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، بُطِحَ لَهَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، [بُطِحَ أَيْ: بُسط ومُد على وجهِهِ أو على ظهرِهِ والقرقرُ: الـمُسْتَوي الواسعُ من الأرض] فَتَأتِيهِ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ، لَا يَفْقِدُ مِنْهَا فَصِيلًا وَاحِدًا، تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَعَضُّهُ بِأَفْوَاهِهَا، وَصَاحِبُ البَقَرٍ، وَالغَنَمٍ، تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولُاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أَخِرُهَا، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ. نَعُوذُ باللهِ مِنْ ذَلكَ.
أيها الإِخوَة: حَرِيٌ بالمؤمنِ أَنْ يَتَحَرى عِندَ إخراجِ زَكاتِهِ؛ فَيَضَعُهَا في مَوْضِعِها، سواءً مَنْ كَانَ مِنْ الْمُحْتَاجِين الذينَ يَعْلَمُ حَاجَتَهُمْ، أو لِجِهة رَسْمِيةٍ مَوثُوقَةٍ تَقُومُ على صَرفِهَا لِمُستحِقِها إذا كانَ نشاطُها وَجِهاتُ صَرفِها من أصنافِ أهلِ الزكاة، أو دَفْعَ الزكاةِ لجهاتِ عامةٍ أنشأَتْها الدولَةُ وفقها الله، "كمنصةِ إحسان" "ومنصةِ فُرِجَتْ" "ومَنصةِ جُود الإسكان" وغيرها من الجهات التي تتبناها الدولةُ وتشرفُ علَيها واحَذَرُوا كُلَ الحّذّرِ مِنْ تَحْويلِ الزَكَاةِ لجِهَاتٍ خَارِيجيةِ مَهما كَانت.. وصَلُوا وسَلِمُوا على نبِيكم…
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق