وَتُوَقِّرُوهُ [2] صُوْرٌ مِنْ تَوقِيرِهِ ﷺ بَينَ أَصحَابِهِ. 1442/4/5هـ

عبد الله بن علي الطريف
1442/04/04 - 2020/11/19 08:32AM
وَتُوَقِّرُوهُ [2] صُوْرٌ مِنْ تَوقِيرِهِ ﷺ بَينَ أَصحَابِهِ. 1442/4/5هـ
أيها الإخوة: كان الصحابةُ الكرامُ، يحبونَ النبيَ ﷺ أشدَ الحب، ويوقرونه أعظم التوقير، وأخبارهم في ذلك أكثر من أن تُحْصى أو تُسْتقصى.. والمتأملُ لأحداث السيرة النبوية وما يرى فيها من مواقف توقير الصحابة رضي الله عنهم للنبي ﷺ يأخذه العجب ويقطع بأنه أعظم رجل في التاريخ.! جمع له أصحابه بين الحب الشديد.. والتوقير الفريد، ولم ينتهِ ذاك الحب والتوقير فيهم بل هو عروة من عرى الدين تتوارثها أجيال الأمة ويأخذون بها جيلاً بعد جيل..
وما أن تقرأ تلك السير إلا وتحس بقشعريرة تنتابك، وما تشعر إلا وعيناك تذرفان الدمع الغزير حباً وإجلالاً للنبي ﷺ وأصحابه الأطهار، فما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على أطيب أرواح من تلك الأروح الطاهرة.. فقَد كَانَ من حالهم أنهم لا يقطعون أمراً دون مَشُورته، ولا يقومون من مجلسه إلا بعد استئذانه؛ قال تعالى عنهم: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور:62].
إنْ حضروا في مجلسه جلسوا في سكينة ووقار، وإن حدثهم فكأنما على رؤوسهم الطير؛ فَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُؤُوسِنَا الطَّيْرُ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: «اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا. أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وصححه الألباني في صحيح أبي داود... ولم تكن سكينتهم تلك حال حضور الجنازة فحسب، أو لمكان القبر من القلوب؛ بل حالهم في مجالسهم معه أثناء تحديثهم وتعليمهم أمور دينهم، قَالَ أُسَامَةُ بْنُ شَرِيكٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ كَأَنَّ عَلَى رؤوسنا الرَّخَمَ مَا يَتَكَلَّمُ مِنَّا مُتَكَلِّمٌ، إِذْ جَاءَهُ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي كَذَا أَفْتِنَا فِي كَذَا.. الحديث رواه ابن حبان وصححه الألباني.
ومن توقيرهم له ﷺ أَنَّهُمْ لا يَحِدّون النظر إليه، ولا يرفعون أصواتهم عنده، ولا يتأخّرون في الاستجابةِ لأمره؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: «كُنَّا إِذَا قَعَدْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَمْ نَرْفَعْ رُؤُوسَنَا إِلَيْهِ إِعْظَامًا لَهُ». رواه الحاكم وقال هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَا أَحْفَظُ لَهُ عِلَّةً وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، ووافقه الذهبي. وفي رواية: «لَمْ نَرْفَعْ أَبْصَارَنَا إِلَيْهِ»
وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: قَالَ عَمْرَو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: "مَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ"
عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ، قَالاَ: وَلَمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَمَنَ الحُدَيْبِيَةِ، سَارَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يُهْبَطُ عَلَى مَكَةَ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا: خَلَأَتْ القَصْوَاءُ، خَلَأَتْ القَصْوَاءُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَا خَلَأَتْ القَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الفِيلِ» ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا»، ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ، قَالَ: فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الحُدَيْبِيَةِ.. وعلمت به قريش وبدأ الوسطاء يفدون إلى النبي ﷺ للتفاوض وكان ممن قدم عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ ﷺ فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ ﷺ وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ المِغْفَرُ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ ﷺ ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ، وَقَالَ لَهُ: أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ ﷺ بِعَيْنَيْهِ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى المُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ، وَكِسْرَى، وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ مُحَمَّدًا، وَذَكرَ ما رَأَى مِنْ حَالِ الصَحَابَةِ التِي بَهَرَتهُ ثُمَ قَالَ: وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا.. رواه البخاري.. وَفِي حَدِيثِ الهِجْرَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَسْرَيْنَا لَيْلَتَنَا وَمِنَ الغَدِ، حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ وَخَلاَ الطَّرِيقُ لاَ يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ، فَرُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ طَوِيلَةٌ لَهَا ظِلٌّ، لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، فَنَزَلْنَا عِنْدَهُ، وَسَوَّيْتُ لِلنَّبِيِّ ﷺ مَكَانًا بِيَدِي يَنَامُ عَلَيْهِ، وَبَسَطْتُ فِيهِ فَرْوَةً، وَقُلْتُ: نَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا أَنْفُضُ لَكَ مَا حَوْلَكَ، فَنَامَ وَخَرَجْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلَهُ، فَإِذَا أَنَا بِرَاعٍ مُقْبِلٍ بِغَنَمِهِ قُلْتُ: أَفَتَحْلُبُ، قَالَ: نَعَمْ، فَحَلَبَ لَهُ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ فَأَتَيْتُهُ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ، فَوَافَقْتُهُ حِينَ اسْتَيْقَظَ، فَبَرَّدتُ اللَّبَنَ فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ.." رواه البخاري.
ومن عظيم توقيره ﷺ في نفوس أصحابه مَا ذَكَرَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَقِيَهُ فِي بَعْضِ طَرِيقِ المَدِينَةِ وَهُوَ جُنُبٌ، قَالَ فَانْخَنَسْتُ مِنْهُ، فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: «أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ» قَالَ: كُنْتُ جُنُبًا، فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ وَأَنَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ المُسْلِمَ لاَ يَنْجُسُ» رواه البخاري ومسلم
هكذا كان الصحابةُ الكرامُ، يحبونَ النبيَ ﷺ أشدَ الحب، ويوقرونه أعظم التوقير، وأخبارهم في ذلك أكثر من أن تُحْصى أو تُسْتقصى. بارك الله لي..
الخطبة الثانية
أيها الإخوة: لقد كان ﷺ انموذجًا يقتدى به في خُلق الوقار، وَصَفتْه أُمُّ مَعْبَدٍ حين مرّ بخيمتها في طريقه مهاجرا إلى المدينة فقالت: «إِنْ صَمَتَ فَعَلَيْهِ الْوَقَارُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ سَمَاهُ وَعَلَاهُ الْبَهَاءُ، أَجْمَلُ النَّاسِ وَأَبْهَاهُ مِنْ بَعِيدٍ، وأَحْلَاهُ وَأَحْسَنُهُ مِنْ قَرِيبٍ، حُلْوُ الْمِنْطَقِ». رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ لِلْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أَنْ تُسْلِمَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُسْلِمَ الْخَطَّابُ لِأَنَّ ذَلِكَ أَحَبُّ إِلَى رَسُولِ اللَّه ﷺ وَعَنِ ابن إِسْحَاق أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ قُتِلَ أبُوها وأخُوها وَزَوْجُهَا يوم أحُدٍ مَعَ رَسُول اللَّه ﷺ فَقَالَتْ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّه ﷺ؟ قَالُوا خَيْرًا هُوَ بِحَمْدِ اللَّه كَمَا تُحِبّينَ قَالَتْ أَرِنيهِ حَتَّى أنْظُرَ إليْهِ فَلَمّا رَأَتْهُ قَالَتْ كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ جَلَلٌ [أي هينة حقيرة].. رواه في الشفاء
هذا في حال حياته ووجوده بينهم أما بعد وفاته قَالَ إِسْحَاق التُّجِيبِيُّ: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيّ ﷺ بَعْدَهُ لَا يَذْكُرُونَهُ إلَّا خَشَعُوا وَاقْشَعَرَّتْ جُلُودُهُمْ وَبَكَوْا..
وَسُئِلَ عَلِيّ بن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَيْفَ كَانَ حُبُّكُمْ لِرَسُولِ اللَّه ﷺ؟ قَالَ: «كَانَ والله أَحَبَّ إِلَيْنَا من أَمْوَالِنَا وَأَوْلادِنَا وَآبَائِنَا وأُمَّهَاتِنَا وَمِنَ المَاءِ الْبَارِدِ عَلَى الظَّمَأِ».
عَنْ أَبِي رَزِينٍ، قَالَ: قِيلَ لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: أَنْتَ أَكْبَرُ أَوْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟ قَالَ: «هُوَ أَكْبَرُ مِنِّي، وَوُلِدْتُ أَنَا قَبْلَهُ» رواه ابن عساكر، وابن أبي شيبة. وصلوا وسلموا على هذا النبي يعظم الله أجركم..
 
المشاهدات 567 | التعليقات 0