وبالوالدين إحسانا للشيخ يحيى بن جبران جباري
يحيى جبران جباري
الحمد لله خلق البشر من أب وأم ، احمده سبحانه وأشكره على خير زاد وعم ، وأستعينه وهو المعين على دفع الهم ، وأستهديه وهو الهادي لمن عليه الطريق أظلم ، وأستغفره وهو بنا من الآباء والأمهات ارحم ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكريم الأكرم ، وأشهد أن محمدا عبدالله ورسوله نصح الأمة وقوم ، صل الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ، ما غشى الليل وأظلم ،
ثم أما بعد : فأوصيكم ايها المسلمون ونفسي المقصرة بتقوى الله عز وجل وخشيته فعلا وتكلم ، فمن اتق الله سلم من الشيطان ، ومنه الناس تسلم ،
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ13(الحجرات)
ايها المسلمون : إعلموا رحمني الله وإياكم ، أن ربكم جل وعلا ، إذا قرن أمرا بعبادته ، فهذا دليل على رفعة هذا الأمر وعظمته ، وإن جعله في التحريم بعد الشرك به ، فذاك دليل على إثم الوقوع به وشدة حرمته ، فقال عز من قائل كريما(وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ .. الآية 23 (الاسراء) وقال سبحانه (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ... 151(الانعام) وزاد على ذلك نبيكم عليه صلاة وسلام ربكم بقوله ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الاشراك بالله وعقوق الوالدين ) ويقول بأبي هو وأمي وببني ونفسي عليه صلاة وسلام ربي ( خاب وخسر من أدرك والديه عند الكبر احدهما اوكلاهما ولم يدخل الجنة ) وليس هذا فقط ، عما جاء من الحق لهما ، والأمر بالبربهما ، في الكتاب والسنة ، بل هو اكثر بكثير ، يعجزني وقت المقام من أن أسرد ذلك حتى أتمه ، الأم والأب ، او الأب والأم ، بأيهما بدأت ، فقد وقعت على حق وحب عظيم ، والقلب والإحساس والمشاعر حركت ، الأم ، البطن الذي حملك تسعة أشهر ، جسد ، مما يدخل جوفه يطعمك ويسقيك ، ومن دمه يجري الدم فيك يغذيك ، ومن مخ عظمه يعطيك لينميك ، ويتحمل مشقة حملك في جسده ، ثم ألم المخاض والنفاس إذا جاء يلقيك ، ثم يحتضنك ومن جسده مرة أخرى يطعمك ويسقيك ، ويسهر عليك ، واذا مرضت يبكيك ، واذا بكيت يبذل كل مافي وسعه ليسليك ، ويعيش عمره كله يخاف عليك ، هذا بعض مما امك تعطيك ، وأما الأب ، فمن صلبه خرجت ، وبمجرد أن حملت بك أمك ، سعدت نفسه وفرحت ، وإذا وضعتك ، فكأنما الدنيا كلها له ملكت ، فيكد ليوفر لك معيشتك ، ويبذل قصارى جهده ليوصل لك لقمتك ، يحرم نفسه ليعطيك ، ويبخس ماعنده ليكملك ، ويقدم كل ماعنده لك ليرضيك ، تعجبه طلتك ، وتدمع عينه اذا افتقدك ، اذا خرجت انتظرك ، واذا عدت استقبلك ، لايتمنى أن يرى شخصا افضل منه غيرك ، تبقى في عينه ، ذاك الطفل المحتاج له ، حتى وإن رأى بنيك خلفك وأمامك ، هذا هو الأب ، مصدر الأمان ، وتلك هي الأم مصدر الحنان ، يارب ارحمهما كماربونا صغارا ، وأدخلهما فسيح الجنان .
أيها الأبناء ، هل تعلمون ما أوجبه الله عليكم لأمهاتكم والأباء ، اي والله تعلمون ، ولكن قليلا من يطبقون ، إيتوني بمن يقول بجواز عقوق الوالدين ، وأن الإساءة لهما ترضي رب العالمين ، لن تجد من يقول بذلك حتى من الكافرين ، فكيف بنا نحن المسلمين ، يقول المفسرون ( لو أن عند العرب كلمة أخف ، من أف ، لذكرها الله في كتابه ، فسبحانه القائل ، مربيا ومهذبا ، وناهيا أن يقولها لوالديه كل عبد من عباده (فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا 23 (الاسراء) واليوم نسمع بل وقد سمعنا ونرى وقد رأينا ، من يرفع على والديه الصوت ولايخفضه ، ويعلن العصيان ولايكتمه ، بل وأفضع من ذلك ، من يسب أمه ، وأبوه يشتمه ، ثم من يضرب أمه ، وأما أبوه فقتلا يقتله ، ألا أخرص الله ألسنتهم ، ألا شلت أيديهم ، وأنزل الله بلاياه وطوامه عليهم ، اهذا جزاء الرحمة والإحسان ، والشفقة والحنان ، وما اوصى به الرحمن وسيد ولد عدنان ، اتى رجل الى النبي صل الله عليه وسلم فقال ( يارسول الله من احق الناس بحسن صحابتي ، قال امك ، قال ثم من قال امك ، قال ثم من قال امك ، قال ثم من قال ابوك ) فأخبر اليوم بني بذلك من يصاحبوك ، برالوالدين يدخل الجنة ، برالوالدين ، دين ابنك غدا يرده ، برالوالدين ، قربة زحزحت صخرة ، برالوالدين سبب لدوام النعمة ، برالوالدين فرج لكل كرية ، فأين من يقيم البر ، كما أراد الله وأتمه ، اعوذ بالله من الشيطان الرجيم وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (لقمان) بارك الله لي ولكم في القران العظيم ونفعني وإياكم بمافيه من الايات والذكر الحكيم ....
الخطبه الثانيه
الحمدلله ، وهب إبراهيم اسماعيل واعطاه ، ومن على زكريا بيحيى بعد أن دعاه ، احمده سبحانه واشكره ، حمدا وشكرا لايعرف سواه منتهاه ، واشهد ان الإله الحق هو الله ، وان محمد عبده ورسوله ، هو اصطفاه ، فعليه صل الله وعليه سلم الله وعلى اله وصحبه ومن والاه ، وبعد : يامن جاء يبتغي رضى الله ، اتق الله ، فمن اتق الله افلح والله ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) (الحشر) عبادالله : يحكى أنه كان لأمية الكناني ولد اسمه كلاب، وكان شابا صالحا، وحين سمع أن الجهاد أفضل الأعمال في الإسلام وذروة سنامه، ذهب إلى عمر بن الخطاب، وقال له: أرسلني إلى الجهاد، قال عمر: أحي والداك؟ قال: نعم، قال: فاستأذنهما، فاستأذنهما وبعد إلحاح شديد، وافقا على مضض، فقد كان وحيدهما وكان شديد البر بهما، يؤنسهما ويساعدهما في كل شؤونهما. ذهب كلاب إلى الجهاد، ومرت الأيام على الأبوين بطيئة ثقيلة، وما لبِث أن اشتد الشوق بالوالد فصار البكاء رفيقه في ليله ونهاره.
وذات يوم جلس أمية تحت شجرة، فرأى حمامه تطعم فراخها فجعل ينظر، وينشد: لمن شيخان قد نشدا كلابا ** كتاب الله لو عقلا الكتابا * تركت أباك مرعشة يداه ** وأمك لا تسيغ لها شرابا* طويلا شوقه يبكيك فردا ** على حزن ولا يرجوا الإيابا*إذا هتفت حمامة بطن وج ** على بيضاتها ذكرا كلابا *ثم اشتد حزن أمية على ولده كلاب، وطال بكاؤه حتى أصابه ما أصاب يعقوب عليه السلام، فابيضت عيناه من الحزن، وفقد بصره، وصار لا يفتر عن ذكر ولده، ومن شدة ما في قلبه أخذ يدعو على عمر بن الخطاب، ويقول شعراً: أعاذل قد عذلت بغير علم ** وما تدري أعاذل ما ألاقي* إن الفاروق لم يردد كلابا ** على شيخين سامهما فراقِ*سأستعدي على الفاروق رباً * له دفع الحجيج إلى بساقِ*وادعوا الله مجتهداً عليه * ببطن الأخشبين إلى زقاقِ*فما كان من أحد أصحابه إلا أخذ بيده حتى أقبل به على حلقة عمر بن الخطاب وأجلسه فيها، وهو لا يدري، ثم قال له صاحبه: يا أبا كلاب، قال: نعم، قال: أنشدنا من أشعارك، ولشدة تعلقه بولده، فإن أول ما تبادر إلى ذهنه: إن الفاروق لم يردد كلابا * على شيخين سامهما فراقِ'*' سأستعدي على الفاروق رباً ** له دفع الحجيج إلى بساقِ'* وادعوا الله مجتهداً عليه * ببطن الأخشبين إلى زقاق ِ'فقال عمر: من هذا؟قالوا: هذا أميه الكناني قال عمر: فما خبره؟ قالوا: أرسلت ولده إلى الثغور، قال: ألم يأذن؟ قالوا: أذن على مضض. فوجه عمر من فوره أن ابعثوا إلى كلاب ابن أمية الكناني على وجه السرعة، فلما مثل كلاب بين يدي عمر، قال له: اجلس يا كلاب، فلما جلس قال له عمر : ما بلغ من برك بأبيك يا كلاب؟ قال: والله يا أمير المؤمنين، ما أعلم شيئا يحبه أبي إلا فعلته قبل أن يطلبه
مني، ولا أعلم شيئا يبغضه أبي إلا تركته قبل أن ينهاني عنه، قال عمر: زدني .. قال: يا أمير المؤمنين والله إني لا آلوه جهدي براً وإحساناً، قال عمر: زدني، قال كلاب: كنت إذا أردت أن أحلب له آتى من الليل إلى أغزر ناقة في الإبل ثم أنيخها وأعقلها حتى لا تتحرك طوال الليل، ثم استيقظ قبيل الفجر فاستخرج من البئر ماء بارداً، فاغسل ضرع الناقة حتى يبرد اللبن، ثم احلبه وأعطيه أبى ليشرب، قال عمر: عجباً لك، كل هذا لأجل شربة لبن، فقال عمر فافعل لي كما كنت تفعل لأبيك، قال كلاب: ولكني أود الذهاب إلى أهلي يا أمير المؤمنين، قال عمر: عزمت عليك يا كلاب، فمضى كلاب إلى الناقة فحلب وفعل كما كان يفعل لأبيه، ثم أعطى الإناء لعمر بن الخطاب، قال عمر لمن حوله: خذوا كلاب فادخلوه في هذه الغرفة وأغلقوا عليه الباب، ثم أرسل عمر إلى الشيخ ليحضر، فاقبل يقاد لا يعلم ما يُراد به، فإذا شيخ واهن، قد عظم همه واشتد بكاؤه وطال شوقه، يجر خطاه جراً، حتى وقف على رأس أمير المؤمنين، فسأله الفاروق يا أمية: ماذا بقى من لذاتك في الدنيا؟ قال: ما بقى لي من لذة يا أمير المؤمنين، قال عمر: فما تشتهي؟ قال أمية: اشتهي الموت، قال عمر: أقسمت عليك يا أمية إلا أخبرتني بأعظم لذة تتمناها الآن قال أمية: أما وقد أقسمت علي، فإني أتمنى لو أن ولدي كلابا بين يدي الآن أضمه واشمه وأقبله قبل أن أموت، قال عمر: فخذ هذا اللبن لتتقوى به، قال أمية: لا حاجة لي به يا أمير المؤمنين، قال عمر: أقسمت عليك يا أمية إلا شربت من هذا اللبن، فلما أخذ الإناء وقربه من فمه، بكى بكاءً شديداً، وقال: والله إني لأشم رائحة يدي ولدي كلاب في هذا اللبن، فبكى عمر حتى جعل ينتفض من بكائه، ثم قال: افتحوا الباب، فاقبل الولد إلى أبيه فضمه أبوه ضمة شديدة طويلة، وجعل يقبله تارة، ويشمه تارة، وجعل عمر رضي الله عنه يبكي، ثم قال: إن كنت يا كلاب تريد الجنة، فتحت قدمي هذا.
اسأل الله أن يرزقنا وإياكم بر الوالدين في حياتهما وبعد مماتهما ، تم عندي المراد ، ومن اراد الازدياد ، فدونه ابواه ، او احدهما ، فالبر بهما اجره سوى الجهاد ،ثم الصلاة والسلام يا عباد ؛؛؛ على شفيع الخلق في يوم التناد ؛؛؛ ماهل قطر أوجرى سيل بواد ؛؛؛اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد .....