وانتهى عام نظرة اعتبار.. وما لا يشرع من الأعمال بين العامين. 1441/12/24هـ

عبد الله بن علي الطريف
1441/12/23 - 2020/08/13 23:04PM
وانتهى عام نظرة اعتبار.. وما لا يشرع من الأعمال بين العامين. 1441/12/24هـ

أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18]

أيها الإخوة: ينقضي يومٌ ويَطلُعُ فجرُ يومٍ جديدٍ.. وينصرمُ شهرٌ ويهلُ شهرٌ جديدٌ.. وها نحنُ في الأيامِ الأخيرةِ من عامٍ سينقضي ويبدأُ بعدَهُ عامٌ جديدٌ.. وهكذا الحياةُ ابتدأٌ يتلوه انقضاءٌ.. ثم حسابٌ وجزاءٌ.. نسألُ اللهَ الاصطفاءَ..

أحبتي: هل ندع مثلَ هذَا الـمَعْلَمَ يمرُ علينا دُونَ أنْ نقفَ معَهُ وقفةَ.؟ أم نتأمله بجدٍ وشعورٍ بالمسئوليةِ.؟ 

الجواب: حقٌ على أُولي العقولِ أنْ يقفوا للتأملِ؛ فهذه الشمسُ التي تطلُعُ كلَّ يومٍ منْ مشرِقِها وتغربُ في مغربِها تحمِلُ أعظمَ الاعتبارِ، فطُلُوعُها ثم غِيابُها إيذانٌ بأنَّ هذه الدنيا ليست دارَ قرارٍ، وإنما هي طلوعٌ وزوالٌ.

وهذه الشهورُ، التي تهلُّ فيها الأهلَّةُ صغيرةً كما يُولَد الأطفالُ.. ثم تنمو رويدًا، رويدًا كما تنمو الأجسامُ.. حتى إذا تكاملَ نموُّها أَخذتْ في النقصِ والاضمحلالِ.. وهكذا عمرُ الإنسانِ.!

تتجدّدُ الأعوامُ عامًا بعد عامٍ، فإذا دخَل العامُ الجديدُ نظرَ الإنسانُ إلى آخرِهِ نظرَ البعيدِ، ثم تمرُّ به الأيامُ سِراعًا فينصَرمُ العامُ كلمحِ البصرِ فإذا هُو في آخرِ العامِ، وهكذا عُمرُ الإنسانِ يتطلّعُ إلى آخرِهِ تطلُّعُ البعيدِ، فإذا به قد هجمَ عليه الموتُ وصارَ خبراً بعد عين...

يؤمّلُ الإنسانُ بطولِ العمرِ ويتسلَّى بالأماني، فإذا بحبلِ الأماني قد انصرمَ، وبناءِها قد انهدَم..

قالَ أبُو الدرداءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يا ابنَ آدم، إنما أنتَ أيّامٌ، فإذا ذَهبَ مِنك يومٌ ذَهبَ بعضُك... وقالَ أبو حازمٍ رحمه الله: عَجبًا لقومٍ يعملُون لدارٍ يرحلونَ عنها كلَّ يومٍ مرحلةً، ويدَعُونَ أنْ يعمَلوا لِدارٍ يَرحلونَ إليها كلَّ يومٍ مرحلةً.

أيها الأحبة: هذا الحالُ وهذا المآلُ يدعونا لأن نقفَ مع نفسِنَا وقفةَ محاسبةٍ جادةٍ قبلَ أنْ تحاسب قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.) قال الشيخ السعدي رحمه الله: هذه الآيةُ الكريمةُ أصلٌ في محاسبةِ العبد نَفسَه، وأنَّه ينبغي له أن يتفقَّدَها، فإنْ رأى زللاً تَدَاركَه بالإِقلاعِ عَنْهُ، والتوبةِ النصوحِ، والإِعراضِ عن الأسبابِ الموصلةِ إليه، وإنْ رأى نَفسَهُ مُقصراً في أَمرٍ من أوامرِ اللهِ، بذلَ جُهدَه واستعانَ بربِّه في تتمِيمِهِ وتكمِيلِهِ وإتقانه، ويقايسُ بين مننِ الله عليه وإحسانِه وبين تقصيرِهِ، فإن ذلك يوجبُ له الحياءَ لا محالة. أ.هـ

ومعنى المحاسبة كما قال الماوردي: أن يتصفحَ الإنسانُ في ليلِهِ ما صدرَ من أفعالِ نَهاره، فإن كان محمودًا أمضاه وأتبعه بما شَاكلَه وضاهاه، وإن كان مذمومًا استدركه وانتهى عن عملِ مثلِهِ. أ هـ.

وقال ابنُ القيمِ: وأَضرُّ ما على المكلّفِ الإهمالُ، وتركُ المحاسبةِ والاسترسالُ، وتسهيلُ الأمورِ وتمشيتُها، فإن هذا يؤولُ به إلى الهلاكِ، وهذه حالُ أهلِ الغرور، يغمض عينيه عن العواقب، ويمُشِّى الحال، ويتكل على العفو، فيهملُ محاسبةَ نفسِهِ والنظرَ في العاقبة، وإذا فعلَ ذلك سهُلَ عليه مُواقعةَ الذنُوبِ، وأنسَ بها، وعَسُرَ عليه فِطامها، ولو حَضره رُشده لعلمَ أن الحميةَ أسهلُ من الفطامِ وترك المألوف والمعتاد. اهـ.

أيها الإخوة: اسْتثمَارُ الوَقْتِ أَهَمُ نَتَائجِ المحاسبةِ قَالَ أَحَدُهُم: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ يَعْمَلانِ فِيك فَاعْمَلْ فِيهِمَا. وَقَالَ آخَرُ: اعْمَلُوا لآخِرَتِكُمْ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الَّتِي تَسِيرُ كَأَنَّهَا تَطِيرُ... وَقَالَ آخَرُ: الأَيَّامُ صَحَائِفُ أَعْمَالِكُمْ، فَخَلِّدُوهَا أَجْمَلَ أَفْعَالِكُمْ... وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: اِقْبَلْ نُصْحَ الْمَشِيبِ وَإِنْ عَجَّلَ.. وَقِيلَ: مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ، إلا وَعَظَتْ بِأَمْسٍ.

أحبتي: نحن نمتطي عربةَ الليالي والأيام، وهي تَحُثُّ بنا السيرَ إلى الآخرةِ.. كمطيتين، يباعداننا عن الدنيا، ويقرباننا من الآخرة، فطوبى لعبدٍ انتفع بعمره.

وكان من دعاء النبي ﷺ: للَّهُمَّ اجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ. رواه مسلم. اللهم بارك في أعمارِنا وأعمالِنا، واختم بالصالحات أعمالَنا.. وصلى وسلم الله على محمّد....

الخطبة الثانية:

أما بعد أيها الإخوة: اتقوا الله حق التقوى واعلموا أن الاعتبار المطلوب من النظر في تعاقب الأعوام ابتداء وختاما هو ما ذكرنا..

ثم اعلموا أنه ليسَ لختامِ عامٍ وابتداءِ أخر سُنن مخصوصة، فتحديد بداية العام بالمحرم اتفق عليه الصحابة بعهد عُمرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ويكثر الحديث في هذا الوقت عن أمور لابد من بينها منها:

ليعلم أنه ليس لختام العام أدعية أو عبادات مخصوصة، وما نسب لابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ صَامَ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَأَوَّلَ يَوْمٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ فَقَدْ خَتَمَ السَّنَةَ الْمَاضِيَةِ وَافْتَتَحَ السَّنَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ بِصَوْمٍ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ كَفَّارَةَ خَمْسِينَ سَنَةً".

فهذا حديث موضوع. ذكره ابن الجوزي بكتابه الموضوعات وقال: الْهَرَوِيّ هُوَ الجويباري، ووَهْب، كِلَاهُمَا كَذَّاب وَضاع، وقال الشوكاني فيه كذابان.  

أما ربط ختم الأعمال وطي الصحائف بنهاية العام الهجري فهذا لا أصل له؛ فقد دلت السنةُ على أن أعمالَ العبادِ ترفعُ للعرضِ على الله عز وجل أولاً بأول، في كلِ يومٍ مرتين، مرة بالليل ومرة بالنهار: فعَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَنَامُ، وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ. رواه مسلم.. قال النووي رحمه الله: الْمَلائِكَة الْحَفَظَة يَصْعَدُونَ بِأَعْمَالِ اللَّيْل بَعْد اِنْقِضَائِهِ فِي أَوَّل النَّهَار، وَيَصْعَدُونَ بِأَعْمَالِ النَّهَار بَعْد اِنْقِضَائِهِ فِي أَوَّل اللَّيْل..

وبعض العوام يجعل نهاية العام موسماً للاستغفار وطلب المسامحة من الآخرين، أما الاستغفار فهو مشروع في كل وقت قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ يُعَدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةُ مَرَّةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ. رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة. قال الألباني صحيح. فهل يعقل أن يقصر الاستغفار على نهاية العام.. أما المسامحة فإن كانت عن ظلم واقع فيجب أن يبادر بها...

أما التهنئة بالعام الجديد فالأصل فيها الإباحة، فليست مشروعة وليست بدعة، ولقد هنأ الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله أحد طلابه عندما بعث له رسالةً في أول العام فقال في ديباجة رسالته: ونهنئكم بالعام الجديد، جدد الله علينا وعليكم النعم ودفع عنا وعنكم النقم.. إلخ.. أقول: وفي الأمر سعة إن شاء الله.

أسأل الله أن يوفقنا لإتباع هدي رسولنا إنه جواد كريم...      

  

المشاهدات 1213 | التعليقات 0