وانتصف رمضان

محمد بن عبدالله التميمي
1446/09/12 - 2025/03/12 22:13PM

 

الحمد لله له الكَمَالُ والحَمْد، أهلُ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقَّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدُّ مِنْكَ الْجَدُّ، أشْهَدُ ألَّا إله إلَّا اللهُ وحده لا شريك له بذلك أُقِرُّ وأَتَعَبَّد، وأشهدُ أنَّ عبدَه ورسولَه محمَّد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومَن سار على هدي-ِ الرَّشَد. أما بعد:

فاتقوا اللهَ عباد الله، وحقِّقُوا مَقْصِدَ صوِمُكم بتقواه، فتعملوا بما يُحبه ويرضاه، وتجتنبوا ما يَسخَطُه ويأباه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

عباد الله.. هذا شهرُ رمضانَ قد انْتَصَفْ، فمَن الذي قام بِحَقِّهِ وأَنْصَف، تُرَى مَاذَا حُفِظَ لَنَا مِنْ صِيَامِنَا؟ وَمَاذَا قُبِلَ مِنْ أَعْمَالِنَا؟ إنَّ الفَرِحَ بالشيء مُغْتَبِطٌ به مسرور، وليس يُفَرِّطُ فيه إلَّا جاهِلٌ أو مغرور، فهَلْ لَا زَالَتِ الْقُلُوبُ تَعِيشُ تِلْكَ الْفَرْحَةِ الَّتِي غَمَرَتْنا ليلَة مَقْدَمِ رَمَضَانَ؟ هَلْ لَا زَالَتْ الْقُلُوبُ تُجِلُّ الشَّهْرَ وَتُدْرِكُ رَبِيعَ أَيَّامِهِ؟ انظُروا لمَن قَدَرُوه حقَّّ قدْره مِن لَدُن النبي ِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما أشدَّ حِرْصَ السَّلَفِ الصالح عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ فيه وَإِتْقَانِهِ.

كيف حالكَ مع الصّلوات؟! مع أهمِّها وهي الصلوات الخمسُ المفروضات، بأدائهما في المساجد جماعةً لا في البيوتات.

كيف حالكَ مع التراويح؟! المُجِدُّون ما تركُوا ركعةً واحدة، و«إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ» وتعبُ القيام قد زال وبقيِت لذَّتُه ويُرجَى قَبُولُ مثوبتِه، وذهَب وقت اللهو وبَقِيَتْ حَسْرتُه.

كيف حالكَ مع القرآن فيما مضى من رمضان؟

المُجِدُّونَ في الختمة الرابعة أو أكثر؛ فحاسب نفسك، ورتِّب وقْتك، وليس الأمر معسورا، فلا تكن هَجُورًا.

فالساعة تقرأ فيها ثلاث أجزاء من القرآن بِيُسْر، ومع حضورِ القلب والتدبُّرِ والتأثُّر، فمَن كان جلَسَ ثلاث ساعات فقد أتى على أربع ختَمات، وإذا حدَّثتك نفسك أن الثلاث ساعاتٍ كثيرة فارجع لتقدير مدة استخدام الجوال وكم أمضيت في كل يوم من ساعة، فما أشدَّ الإضاعة.

وإنَّ هذا الجوال ليس هو الذي يطول به الانشغال، بل هو قاطع الطريق عن الازدياد من التوفيق، فأحَدُنا ما إنْ يقْرَاُ بِضْعَ آيات، إلَّا وينْظرُ ما أتى على جواله من إشعارات، فأقْصِه عنْك وسترى الإنجاز، ويا طُوبى لمَن صحِبَ القرآن ففاز.

كيف حالكَ مع سائرِ الذكر من التهليل والحمد والتسبيحات، كيف حالكَ مع البذل والإحسانِ والصّدقات؟! ومحاسبة النفس لتُدرك الأُنس فلا تترك مالك غير مزكَّى، فيكون ممحوق البركة، وتدوم به الحسرة، ويعاقب بماله فما أسوَأَ مآلَه {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ }

فيا عبدَ اللهِ، أوصيكَ ونفسي بتقوى الله فيما بقي من الشَّهر، هيئ نفسَك للعشرِ، فيُوشكُ هلالُ شوالَ أَنْ يظهرَ، ويذهبَ النَّصَبُ والسَّهَرُ، ويبقى بإذنِ اللهِ تعالى الأَجْر.

إخواني.. أيامُ القدرة وإن طالت قصيرة، والفُرَصُ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَاب، فاغتنموا شهرَ الـمَتَاب، وما وُعِدتُّم فيه مِنْ جَزِيْلِ الثَّوَاب، ومِنَ العَفْوِ عَنِ الأَوْزَارِ وعِتْقِ الرِّقَاب.

يا قلوبَ الصّائمينَ اخشعِي .. !

ويا أقدامَ المجتهِدين اسجُدي لربّكِ واركعي .. !

يا عيونَ المؤمنين دونَ الجنّةِ لا تنظُري .. !

يا ليلةِ القدرِ للعابِدين الزاهدين اشهَدِي .. !

ويا ألسنةَ السّائلين في المسألةِ جُدِّي واطلُبي .. !

يا غيومَ الغفلةِ عن البصائرِ تَقَشَّعِي .. !

ويا أرضَ الهوى ابلعي ماءَكِ ويا سماءُ أقلِعِي .. !

طوبى لمن أجابَ فأصابَ .. وويلٌ لمن طُرِدَ عن البابِ وما دُعي

بارك الله ولكم في القرآن، وبارك فيما بقي من رمضان، ومنَّ عليها بالعفو والغُفران، والعنق من النيران، أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


 

الخطبة الثانية

الحمد لله ربِّ العالمين، أحمدُه سبحانه أنْ جعَلَنا مسلمين، وفي زُمرَة الصائمين، وأسأله أن يكتبنا مع القائمين، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنَّ على مَنْ وجد فتورًا في رمضان أنْ يُحرِّكَ هِمَّتَه بتذكير نفسه أنَّه أيَّامٌ معدوداتٌ، وأنَّ في صيامه وقيامه أجورًا وافراتٍ، وإنْ لم يُغتَنَمْ فلا سبيل لِلَحَاقِه، فاصبِرُوا وأَدْرِكُوا ما بقي منه قبل فواته.

الزموا رباط الأجور، في رمضانَ سيدِ الشُّهور؛ فليس بينكم وبين الفلاح سوى العزيمة والصَّبر والشَّجاعة والثَّبات، قال ابن القيم: "فبين العبد وبين السَّعادة والفلاح قوَّة عزيمةٍ، وصبرُ ساعةٍ، وشجاعةُ نفسٍ، وثباتُ قلبٍ، والفضلُ بيد اللّه يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم".

لو أبصر أحدنا تاجرًا تعرض عليه تجارةٌ دارٌّ ربحها وهو قادرٌ عليها، ثم يتركها؛ لرماه بضعف الرأي وسوء التَّدبير، فكيف بنا وأبواب الخير في رمضان مفتَّحة، وأنواع الحسنات متكاثرة، فأدركوا فيه تجارةً لن تبور.

عباد الله.. إذا دعوتم الله فبقلوبكم أقْبِلُوا، وبوعد الله بالإجابة أيقنوا، ولشروطه وآدابه حقِّقُوا، وبالثناء على الله استفتحوا، وبالصلاة على نبيه صلَّى الله عليه وسلم ثَنُّوا، وبالتضرُّعِ والطمع تعلَّقوا، ومع الوَجَلِ والخِيْفة لا تنقطعوا، وبخفضِ الصوتِ والخُفْيَة ادْعُوا، وبالطلب أَجْمِلُوا ولا تعتدوا، ثم في طلب مسألتكم ألِحُّوا؛ قال الأوزاعيُّ رحمه الله: "كان يُقال: أفضل الدُّعاء الإلحاح على اللَّه، والتَّضرع"، وتتجلَّى دعوات المُلِحِّين في لزومهم لها، وتكرارها، وحضور قلوبهم فيها، وإظهار ضعفهم وحاجتهم لربهم، وتجديد الآمال بحصولها ولو تأخر وقوعها.

ثم اعْلَمُوا أنَّ خَيْرَ الحَديثِ كِتابُ اللهِ، وَخَيْرَ الهُدى هُدى مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثاتُها، وَكُلَّ بدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وإنَّهُ مَا من عبد مُسلم أَكْثَرَ الصَّلَاةَ على مُحَمَّد ﷺ إِلَّا نور الله قلبه وَغفر ذَنبه وَشرح صَدره وَيسر أمره، فَأَكْثرُوا من الصَّلَاة والتسليم على النبي الكريم في هذا اليوم العظيم.

المرفقات

1741806776_وانتصف رمضان.docx

1741806777_وانتصف رمضان.pdf

المشاهدات 4437 | التعليقات 0