(والله لا يحب الفساد) الفساد المالي والإداري

عبدالله القاضي
1442/06/23 - 2021/02/05 18:39PM

أيها المسلون!

من الآيات الجامعة في القرآن -بل قيل: إنها أجمع آية في كتاب الله تعالى- قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.

أول ما أمر الله تعالى به العدل والإحسان، وإذا أردنا أن نلخص قواعد الدين وأحكامه فلن نجد أجمع من هاتين الكلمتين: العدل والإحسان.

تأمل في الشريعة، في العقيدة، في الأحكام، تجدها كلها تتجه لإقامة العدل -وهذا هو واجبات الدين ومحرماته ومباحاته- أو لإقامة الإحسان، وهذا هو مستحبات الدين ومكروهاته.

فهذا الدين جاء بإقامة العدل مع كل أحد، وأول ذلك وأعظمه: العدل في معاملة الله تعالى، الخالق، المالك، I، فالتوحيد هو أول العدل، والشرك أعظم الظلم: ﴿إن الشرك لظلم عظيم﴾.

ثم العدل مع الناس، قال الله تعالى: «يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما؛ فلا تظالموا».

حتى الكفار منهم: ﴿ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا، هو أقرب للتقوى﴾.

حتى مع النفس، كما قال سلمان الفارسي t لأبي الدرداء: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه. فقال النبي ﷺ: «صدق سلمان».

عباد الله!

مما يضاد العدل ما يُعرف اليوم باسم: الفساد، ويراد به: أخذ المال العام بغير حق، واستغلال الوظيفة العامة لغير الأغراض التي من أجلها وضعت الوظيفة.

ربكم تعالى قال عن نفسه: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾، وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾.

ونهى المفسدين عن الإفساد، وأنذرهم، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾، ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾.

ومدح الذين ينهون عن الفساد وينكرونه فقال: ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إلا قليلا ممن أنجينا منهم﴾.

فالله تعالى يحب الإصلاح والمصلحين، ويكره الفساد والفاسدين.

ولكن، لنعلم أيها المسلمون، أن هذا الدين دين شامل، عظيم، تام، فالفساد الذي يكرهه الله، لا ينحصر في الفساد المالي والإداري، بل الله تعالى يكره الفساد كله، وأعظم الفساد وأشنعه: الانحراف عن عبادة من يستحق العبادة سبحانه، والانحراف عن تحكيم شريعة أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، هذا الفساد الذي يقع فيه كثير من الناس، وهم يرون أنفسهم مصلحين، وهم المنافقون الذين قال الله فيهم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)﴾.

من الفساد: الانحراف عن الخلق السوي، والفطرة المستقيمة، إلى الفحشاء والمنكر والبغي، كل ذلك فساد، وكل ذلك مكروه عند رب العالمين، والله تعالى يحب من يقاومه، ومن ينكره، فهو تعالى يحب المصلحين: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾، وهم الذين أصلحوا أنفسهم، وبذلوا جهدهم في إصلاح غيرهم، اللهم اجعلنا منهم.

أما الفساد المالي، والفساد الإداري، فهما من المنكرات والمحرمات، التي تمحق البركة، وتوقع العداوة والبغضاء بين الناس، وتفرق الكلمة، هذا الفساد هو أن يسعى الإنسان إلى مصلحته الخاصة على جسر من حقوق الناس المأخوذة بغير حق.

أيها المسلمون!

سأقرأ ثلاثة أحاديث فقط لنتعلم منها كيف كان رسول الله ﷺ يربي الناس على الاستقامة المالية والإدارية:

1- عن أبي حميد الساعدي t قال: استعمل النبي ﷺ رجلا على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي! فقال النبي ﷺ: «فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه، فينظر يهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر» ثم رفع بيده حتى رأينا عفرة إبطيه: «اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت» ثلاثا. متفق عليه.

2- عن أبي موسى t قال: دخلت على النبي ﷺ أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحدهما: يا رسول الله! أمّرنا على بعض ما ولاك الله U، وقال الآخر مثل ذلك. فقال: «إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا يسأله أو أحدا حرص عليه». متفق عليه.

3- عن أبي ذر t قال: قلت: يا رسول الله! ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: يا أبا ذر! إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها» رواه مسلم.

أيها المسلمون!

في الحديث الأول رأينا النبي المعلم ﷺ يبين للموظف والمسؤول ما يحل له أخذه من الهدايا، وهي الهدية التي لو جلس في بيته لجاءته، وأن الهدية التي أُعطيها بصفته موظفا أو مسؤولا حرام، بل هي رشوة في حقيقتها.

ونرى في هذه الأحاديث كيف استثار النبي ﷺ الإيمان الذي في القلب، وخصوصا الإيمان باليوم الآخر، ليكون وازعا للمسلم عن الفساد والرشوة.

كما نرى في هذه الأحاديث، أن النبي ﷺ لم يكن يولّي على الولايات من هو حريص عليها، وطالب لها؛ لأن الغالب على من كان كذلك أن يكون قصده المال والشرف، والحرصُ على المال والمكانة هو سبب الفساد الحقيقي، كما قال ﷺ في حديث آخر «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه»، فالحرص على المال والمكانة بين الناس يفسد دين المرء أشد من إفساد ذئبين جائعين أُطلقا بين الغنم.

ونرى في هذه الأحاديث أن النبي ﷺ كان يؤدب الصحابة، ويشعرهم أن الولايات والوظائف أمانات، لا تشريفات، وأن المؤتمن مسؤول عن أمانته، كما نرى أنه ﷺ كان خبيرا بأصحابه، فيضع الرجل في المكان الملائم له، ويُبعده عن المكان الذي لا يلائمه، ولو كان ذلك الرجل صالحا مستقيما.

اللهم سلّمنا من الخيانة، اللهم إنا نعوذ بك أن نَظلِم أو نُظلَم، اللهم أعنا على أداء الأمانة...

***

الخطبة الثانية:

 

من أراد السلامة من الفساد، وأن يلقى الله تعالى بريء الذمة من حقوق الناس، وأن يسلم من مطالباتهم يوم القيامة فليعرف ما له وما عليه، ليعرف واجبات عمله، وأحكامه الشرعية، كي لا يقع في الظلم وهو لا يعلم.

من أراد السلامة فليعامل الناس كما يحب أن يعاملوه.

من أراد السلامة فليتذكر أنه ليس إلا وكيلا ونائبا عن المجتمع في تحقيق مصالحهم.

من أراد السلامة فليتنبه لأنواع الخيانة التي تقع من بعض الموظفين، ومن أكثرها وقوعا: تضييع وقت العمل في غير منفعته، وأداء الأعمال أداء رديئا بعيدا عن الجودة، وتعسير أمور الناس وتعقيدها وتأخيرها بلا مبرر، ليحذر من الواسطة المفسدة، وهي أن يقدم الشخص على من هو أحق منه لمجرد قرابته أو صداقته، هذا فضلا عن أخذ المال بلا حق، وتبذير المال العام في غير ما وضع له.

أيها المسلم!

تذكر أن الحساب يوم القيامة حساب فردي، فليس عذرا في ذلك اليوم أن تقول: كل الناس يفعلون هذا، كل الناس يتساهلون في الحقوق، ولكن قل: ﴿وكلهم آتيه يوم القيامة فردا﴾.

 

 

المشاهدات 586 | التعليقات 0