والله أعلم بأعدائكم

ناصر محمد الأحمد
1439/04/07 - 2017/12/25 23:58PM

والله أعلم بأعدائكم

11/4/1439ه

د. ناصر بن محمد الأحمد

الخطبة الأولى :

إن الحمد لله ..

أما بعد: أيها المسلمون: إن وجود الأعداء سنة كونية أودعها الله عز وجل في خلقه، وهذه العداوة موجودة بين البشر والشيطان، وبين البشر بعضهم بعضاً، وبين البشر وبعض الكائنات الضارة، وبين الكائنات المختلفة.

وعندما نتأمل ونتفكّر ونتدبّر، نجد أن وجود الأعداء نعمة من الله عز وجل لا تستقيم الحياة من دونها. وأنت يا عبدالله قد تسلم من العدو الأول لكنك لن تسلم من العدو الثاني، وإن سلمت فلن تسلم من العدو الثالث، وإن سلمت فلن تسلم من العدو الرابع، وإن سلمت فلن تسلم من العدو الخامس.

فلنتعرف على بعض أعدائنا، لنحذر منهم:

العدو الأول: عدو الله إبليس: ويأتي الشيطان على رأس أولئك الأعداء، الذي لم يأت تحذير من عدو كما جاء من التحذير منه، فكم في القرآن من وصفه بأنه عدو مبين؟ بل إن من أبلغ الآيات وضوحاً في بيان حقيقته وما يجب أن يكون موقفنا منه، هو قوله تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِير) [فاطر: 6]!. وقد جاء التعجب الصريح، والذم القبيح لمن قلب عداوة إبليس إلى ولاية: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) [الكهف: 50]؟!.

أول عداء في تاريخ البشرية كان مع إبليس أعاذنا الله منه، حيث أخبرنا الله عز وجل في القرآن الكريم أن إبليس رفض واستكبر السجود لآدم، ورفض طاعة أمر الله عز وجل، فطرده الله من رحمته، وحقداً على آدم وذريته فإنه أخذ عهداً على نفسه بأن يضل آدم وذريته ليتبعوه، ونجح الشيطان في تحقيق أول أهدافه وأغوى أبوينا آدم وحواء فأكلا من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها، وكان العقاب الخروج من الجنة والنـزول إلى الأرض: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين) (البقرة : 36)، أي: أن الله عز وجل جعل العداء موجوداً بين بني آدم كي تستقر الحياة، وفي غواية إبليس لأبوينا درس لذرية آدم إلى يوم القيامة نتعلم منه أن من يطيع الشيطان لن يدخل الجنة.

والعداوة والبغضاء بين البشر تكون بفعل عدونا الأول الشيطان اللعين: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين) (يس : 60).

العدو الثاني: الأعداء من البشر: بل إن من سنن الله سبحانه وتعالى أنه جعل لكل نبي عدواً: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) (الفرقان : 31)، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُون) (الأنعام : 112)، وجعل الله لنبيه محمد أعداء من الكفار واليهود، وطلب الله سبحانه وتعالى منه صلى الله عليه وسلم الصبر والاقتداء بأولي العزم من الرسل: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُم) (الأحقاف : 35)، فوجود الأعداء والصبر عليهم ومحاولة التغلب عليهم، يزيد أجر الأنبياء والمؤمنين، ويرفع درجاتهم يوم الدين. وكذلك قال الله تعالى في قرآنه: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا) (الحج : 40)، فتدافع الناس بعضهم لبعض ومقاومة الظالمين والمستبدين ووجود صراع بين القوى المختلفة، من السنن الإلهية التي تصلح بها الحياة على الأرض، وتجعل هناك توازناً بين القوى، فلولا خوف الناس والدول من بعضها بعضاً لما حدث التوازن في الدنيا ولما صلحت الحياة.

العدو الثالث: الكفار المحاربون لنا: ومن كان في حكمهم ممن يريد تبديل ديننا، أو طمس معالم شريعتنا، قال تعالى في سياق آيات صلاة الخوف من سورة النساء: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا) [النساء: 101]. قال أهل العلم: "والمعنى أن العداوة الحاصلة بينكم وبين الكافرين قديمة والآن قد أظهرتم خلافهم في الدين وازدادت عداوتهم وبسبب شدة العداوة أقدموا على محاربتكم وقصد إتلافكم إن قدروا فإن طالت صلاتكم فربما وجدوا الفرصة في قتلكم".

وفي سورة الممتحنة ما يجلي هذا النوع من الأعداء، يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ، إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُون) [الممتحنة: 1، 2]. فهذا النوع من الكفار حرم الله علينا مودتهم وموالاتهم، وعلل القرآن هذا بقوله: (وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُم).

ومن كمال الشريعة أنها فرقت بين أنواع الكفار، فقال الله تعالى في نفس سورة الممتحنة التي حذرنا ربنا فيها من موالاة الصنف السابق: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون). [الممتحنة: 8، 9].

العدو الرابع: المنافقون: الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ولم يوصف في القرآن كله من فاتحته إلى خاتمته شخص أو فئة بأنه "العدو" معرفاً بـ(أل) إلا المنافقون، قال الله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُون) [المنافقون: 4]. ولم يأت تفصيل في القرآن والسنة لصفات طائفةٍ أو مذهب كما جاء في حق المنافقين، وتأمل أوائل سورة البقرة يكشف لك هذا المعنى بوضوح. يقول ابن القيم رحمه الله: "وقد هتك الله سبحانه أستار المنافقين وكشف أسرارهم في القرآن وجلى لعباده أمورهم ليكونوا منها ومن أهلها على حذر. وذكر طوائف العالم الثلاثة فى أول سورة البقرة: المؤمنين والكفار والمنافقين، فذكر في المؤمنين أربع آيات، وفي الكفار آيتين، وفي المنافقين ثلاث عشرة آية، لكثرتهم وعموم الابتلاء بهم، وشدة فتنتهم على الإسلام وأهله، فإن بلية الإسلام بهم شديدة جداً، لأنهم منسوبون إليه وإلى نصرته وموالاته وهم أعداؤه في الحقيقة. يُخرجون عداوته في كل قالب، يظن الجاهل أنه علم وإصلاح، وهو غاية الجهل والإفساد!.

فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه! وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه! وكم من علم له قد طمسوه! وكم من لواء له مرفوع قد وضعوه! وكم ضربوا بمعاول الشبه في أصول غراسه ليقلعوها! وكم عمّوا عيون موارده بآرائهم ليدفنوها ويقطعوها! فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية، ويزعمون أنهم بذلك مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون". انتهى.

إذا تبين هذا، اتضح لنا أهمية تأمل هذه القاعدة القرآنية: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُم)، وأن لا تخدعنا عن معرفة حقائق أعدائنا ظروف استثنائية، أو أحوال خاصة، فإن الذي أخبرنا بهؤلاء الأعداء هو الله الذي خلقهم وخلقنا، ويعلم ما تكنه صدور العالمين أجمعين، (أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِين) [العنكبوت: 10]، (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير) [الملك: 14]؟!.

وحالُ المنافقين ليس بجديدٍ على أمةِ الإسلام، فعداوتهم متأصلةً منذُ هجرة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد وصفهم الله في سبعةٍ وثلاثين موضعاً من كتابه، وأفاضت السنة في وصفهم، وهي صفاتٌ تتوارثها الأجيال المنافقة، زمنٍ بعد زمن حتى وقتنا الحاضر: (وإذا رأيتهم تُعجبك أجسامهم، وإن يقولوا تسمع لقولهم)، فما أكثرَ المستمعين لحديثهم، المنصتين لهرائهم، المتابعين لإنتاجهم، والعجبُ أن تتولى حفنةٌ قليلةٌ من المنافقين والمنافقات إفساد الأمة، ومسخها عن دينها ودعوتها، إلى التحررِ والإباحية، والعفنِ والرذيلة، وهكذا هُم المنافقون في كلِّ أمةٍ وفي كل قطر، يتحينون الفرص، ويقطعون الطريق، (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) لا يملّون ولا يكلّون، ولهم جَلدٌ وصبرٌ عجيب، شعارهم: تقدم خطوتين وارجع خطوة. (وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم).

ومن كيدهم: بلبلةُ الصفِّ الإسلامي، بإشاعة الخور فيه والضعف، وذكرُ قوةِ الأعداء وتهويلها، (وقالوا لا تنفروا في الحر)، (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلاَّ خبالا) وكما قال قائلهم يوم تبوك: أتظنون جلادَ بني الأصفرِ كقتالِ العرب، والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال. واستعملوا أسلوبَ السخريةِ والاستهزاء، (ولئن سألتهم ليقولنَّ إنما كنَّا نخوض ونلعب).

أيُّها المسلمون: المنافقون هم الذين يتخذون الكافرين أولياءَ من دون المؤمنين، يبتغون عندهم العزةَ، ويُسارعون فيهم، يقولونَ نخشى أن تُصيبنا دائرة، فهم يتعاونون مع أعداءِ الإسلام لتدميرِ الأمةِ المسلمة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهؤلاءِ المنافقين في هذه الأوقات، فيهم ميلٌ إلى التتار، لكونهم لا يلزمونهم شريعة الإسلام". انتهى..

ويشهدُ التاريخُ ويشهدُ الحال على أنَّهُ ما من فتنةٍ هي أشدُّ خطراً وكيداً على الأمة وقيادتها ومبادئها مثل كيد المنافقين. فهم لا تربطهم بقادتهم ولا بأوطانهم مبادئُ سامية ولا قيمٍ نبيلة، رائدهم المصلحة وهدفهم الإفساد. روي عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "إني لا أتخوف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً، أمَّا المؤمن فيحجرهُ إيمانه، وأما المشركُ فيقمعهُ كفره، ولكن أتخوفُ عليكم منافقاً عالم اللسان، يقولُ ما تعرفون، ويعملُ ما تنكرون".

 

بارك الله ..


الخطبة الثانية :

الحمد لله ..

أما بعد: أيها المسلمون: العدو الخامس: الأبناء: فقد حذر الله عباده المؤمنين، وأخبرهم أن من أولادهم وأزواجهم من هو عدو لهم، كما أخبر أن الأموال والأولاد فتنة، وذلك في قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم، إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [التغابن:15]. والمراد بهذه العداوة أن الإنسان يلتهي بهم عن العمل الصالح، أو يحملونه على قطيعة الرحم، أو الوقوع في المعصية، فيستجيب لهم بدافع المحبة لهم. ولهذا قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المنافقون:9]. وقد أخرج الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً سأله عن هذه الآية، فقال: هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يَدَعُوهم، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم - أي بعد مدة - ورأوا الناس قد فقهوا في الدين أي سبقوهم بالفقه في الدين لتأخر هؤلاء عن الهجرة، فهمّوا أن يعاقبوهم، فأنزل الله هذه الآية: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التغابن:14].

وعن عطاء بن يسار وابن عباس أيضاً أن هذه الآية نزلت بالمدينة في شأن عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد، فكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه، وقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرق لهم فيقعد عن الغزو، وشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنـزلت هذه الآية في شأنهم.

فالولد يكون عدوا لأبيه، والزوجة تكون عدوة لزوجها، إذا تسببا في صرف الرجل عن طاعة الله أو إيقاعه في معصية الله، وهذا أمر معلوم مشاهد، فكثير من الآباء يُقصّرون في البذل والإحسان بسبب أبنائهم، ومنهم من يُدخل بيته المنكرات استجابة لرغبة أهله وأولاده، ولهذا كان على المسلم أن يحذر حتى يسلم.
وأما كون المال والولد فتنة، أي اختباراً وابتلاءً فأمر ظاهر، فمن الناس من يكون المال والولد سبباً في صلاحه واستقامته، ومنهم من يطغيه ذلك ويصرفه عن ربه سبحانه. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأولاد: "إنهم لمجبنة محزنة" رواه أحمد. أي قد يدعون أباهم إلى الجبن وعدم الإقدام مع ما يصيبه من الحزن عند فقدهم، وفي رواية: "إن الولد مبخلة مجهلة محزنة" رواه الحاكم بسند صحيح. أي يكون سبباً في بخل أبيه بالمال، وجبنه عن الإقدام، ووقوعه في الجهل، وانصرافه عن العلم.

 

اللهم ..

المشاهدات 1852 | التعليقات 0