واجب المسلمين نحو فلسطين المحتلة

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وسلام على عباده الذين اصطفى، والسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أما بعد:

 

فما زالت فلسطين تحت احتلال اليهود المعتدين، فلسطين الأرض المقدسة أرض الأنبياء الذين نحن المسلمين أحق بهم من كل من يدَّعي اتباعهم، فنحن أحق بموسى من اليهود المغضوب عليهم، وأحق بعيسى من النصارى الضالين.

 

في فلسطين المسجد الأقصى أولى القبلتين، وثالثُ المساجد التي تُشد إليها الرحال، وهو مسرى النبي محمد عليه الصلاة والسلام كما قال الله مبينا الارتباط بين المسجدين: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). 

 

قضية فلسطين هي قضية جميع المسلمين، فلسطين هي ميراث الأجداد، ومسؤولية الأحفاد، معراج محمدي، وعهد عُمَري، فتحها المسلمون بعد وفاة الرسول بست سنوات فقط في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وحكمها المسلمون قرونا طويلة، ثم احتلها الصليبيون فأخرجهم المسلمون المجاهدون بقيادة صلاح الدين، ثم احتلها النصارى البريطانيون في القرن الماضي، وسلموها لليهود ليقيموا فيها دولة لهم في أرض غيرهم، فأعلنوا قيام دولة إسرائيل سنة 1367 هجرية الموافق سنة 1948 ميلادية، وما زلوا يطمعون أن يوسعوها حتى تصل إلى نهر النيل في مصر، ونهر الفرات في العراق، وفي عَلمِ دولتهم خطان أزرقان إشارة إلى أن حدود دولتهم من النيل إلى الفرات.

 

 أيها المسلمون: حديثنا اليوم عن فلسطين .. فلسطين التي يُدمى جرحها كل يوم، فماذا فعلنا لها؟ ماذا قدمنا من التضحيات؟ هل أدينا أقل الواجبات؟! أو نقول بكل أسف: ماذا حققنا من التنازلات؟!

في الوقت الذي يُقتَّل فيه المسلمون نرى كثيراً من المسلمين لاهين عن مصائبهم بدنياهم، وكأن أمر إخوانهم المسلمين لا يعنيهم!

 

أيها المسلمون: لقد أتى على مسلمي فلسطين قرابة قرن من الزمن وهم يدافعون بأموالهم وأنفسهم عن البلاد المقدسة التي كُتبت تاريخها بدماء الصحابة وأتباعِهم المجاهدين، تتابعت حكومات الإسلام في أرضها، وتعالت رايات الإيمان في ساحاتها، احتلها الصليبيون في آخر القرن الهجري الخامس سنة 492 للهجرة، لكنَّ المسلمين وقفوا لهم بالمرصاد، كان العلماء يحثونهم على الجهاد، وكان الأغنياء يبذلون أموالهم في الإعداد، وكان الحكام يقودون المجاهدين لنصرة دين رب العباد، فجاهدوا واجتهدوا في إخراج النصارى من الأرض المقدسة، ولم يتمكنوا من إخراجهم إلا بعد تضحيات كبيرة، فقد كان الصليبيون يتفوقون على المسلمين في العدد والعَتاد، وكانت إمداداتهم تأتي باستمرار من أنحاء أوروبا، فقد كانوا يعتبرونها حروبا مقدسة، ودعوا جميع النصارى للمشاركة، فوقعت معاركُ طاحنةٌ بين المسلمين والحملات الصليبية، هُزِم المسلمون في بعض الوقائع، وتشتت شمل بعض القادة في بعض المعارك، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا وما استكانوا، ولم يستسلموا مع كثرة القتل والدمار الذي خلفته الحملات الصليبية المتوحشة، واستمر المسلمون في الجهاد قرابة تسعين سنة حتى حقق الله لهم النصر في معركة حِطِّين الفاصلة عام 583 هجرية، وتطهر المسجد الأقصى من النصارى، الذين كانوا يظنون أنهم لن يخرجوا من أرض فلسطين أبدا، (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)، (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

 

 قال الله -تعالى-: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)؛ فبعد أن كان المسلمون قوة عظمى، تفرقوا وتنازعوا وضعفوا، وتمالأ الكفار عليهم مرة أخرى، وتآمر الصليبيون واليهود جميعا لاحتلال المسجد الأقصى، ومكَّن النصارى الإنجليز لليهود إقامة دولة لهم في أرض غيرهم، في جريمة تعتبر من أعظم جرائم التاريخ، حيث قاموا بإخراج شعبِ فلسطينَ من أرضه وإقامةَ شعبٍ آخر مكانه!

 

وأيد النصارى البريطانيون والأمريكيون اليهود في فلسطين، وشجعوهم على ارتكاب المجازر الشنيعة، فقتلوا الرجال والنساء والأطفال، وأحرقوا القرى، وأفسدوا النسل والزرع، ولا يزال الصهاينةُ مستمرين في قتل المسلمين الفلسطينيين وأسْرِهِم، وإيذائهم والتضييقِ عليهم، ولا يزالون ينشئون المستوطنات في أرض المسلمين، ويعتدون على المصلين في المسجد الأقصى في كل حين، بتشجيع ورضا من دول الكفر الظالمة، فكم أسالوا من دماء المسلمين شبابا وشيوخا وأطفالا ونساء! وكم في سجونهم من المستضعفين المظلومين! يُدنِّس اليهود المقدسات، ويعقدون لمخادعة العرب المؤتمرات، وقد أخبرنا الله أنهم كاذبون مخادعون، وأنهم للعهود ناقضون، (أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ).

 

أيها المسلمون، لن يخرج اليهود من فلسطين إلا بالجهاد، ولا مقاومة للصهاينة إلا بالقتال، قال الله -تعالى-: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، وعندما رُفِعت رايةُ الجهاد في فلسطين على أيدي قلةٍ من المجاهدين بدأت قوائم القتلى تتصاعد في أوساط اليهود، وأخذ الأمن ينحسر، والاقتصاد يخسر، والهجرة اليهودية تتراجع، وتذوَّق المسلمون حلاوة النصر بدلاً من ذل الهزيمة، وعفَنِ السلام المزعوم.

 

ولكن ما حال بقية العرب والمسلمين؟ هل دعموا المجاهدين ونصروهم أو كانوا سببا في حصارهم والتضييق عليهم؟! نرى مِنْ حكام المسلمين غفلة وتغافلاً، وصمتاً وخوفاً، وعجزاً وبخلاً إلا من بعض التصريحات الخجولة أو المساعدات القليلة التي تُبعث من هنا وهناك. 

 

هذا والدول الاستعمارية الطاغية المتكبرة التي تدَّعي أنها راعيةُ السلام، ومحاربةُ التطرفِ والإرهاب، وتدَّعي الاهتمامَ بحقوق الإنسان؛ لا تحجب عن اليهود مساعداتٍ طلبوها، ولا تسألهم عن جريمة ارتكبوها، ولا توجه إليهم أي لوم وعتاب على القتل والظلم والخراب، بل يتوافد رؤساء تلك الدول وكبارهم لتأييد اليهود في اغتصاب أرض الإسلام، ويصرحون بكل وقاحةٍ أنهم في صف اليهود ضد المسلمين!

 

أيها المسلمون: إن كل هذه التناقضات ليست غريبة على أعداء الإسلام والمسلمين؛ فاليهود والنصارى لن يرضوا عنا حتى نتبع ملتهم، ونخضع لقراراتهم، كلُّ ذلك لا يُستغرب ممن أضله الله وغضب عليه ولعنه، لكن المستغرب حين يدعو بعض قادة العرب إلى السلام والتطبيع مع اليهود المغضوب عليهم، ويوالون النصارى الضالين، والله يقول: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [المائدة: 51]، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا»، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ»، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهَنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ». 

 

 أيها المسلمون: إننا بحاجة إلى مراجعة للوضع، وإصلاح للحال، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، فكيف يأتينا النصر ونحن نرى الجبن في النفوس، واستجداء الحلول وتعليقها على دول صليبية لا تفتر عن دعم اليهود ودولتهم منذ قامت وإلى يومنا هذا؟

 

أصبح كثير من قيادات الأمة ومناضليها المزعومين قليليَّ الدِّين، ضعفاءَ اليقين، يبيعون الحق والأمة بمنافع شخصية، همهم النفس متاعهم الزائل، واغتروا بالدنيا الفانية، وهجروا ما أمرهم الله به في القرآن من إعداد القوة المادية والمعنوية للجهاد في سبيل الله، وسلكوا في قضية فلسطين مسالك المبادرات والمنظمات والتجمعات التي تتأرجح بين يمين ويسار بشعارات زائفة من العلمانية والوطنية والقومية والبعثية، اجتماعاتهم وقراراتهم تعِد ولا تُنجِز، تقول ولا تفعل، تشجب ولا تقاوم، قلوبٌ شتى، ووجوهٌ متباينة، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).

 

لا يزال المسلمون في قضية فلسطين تائهين لأنهم تركوا الاعتزاز بالإسلام، ووالى كثير منهم الكفار، وأصبحت آمال أكثر المسلمين معلقة على دولة أمريكا راعية السلام، وكيف يرعى السلام أكبر دولة إرهابية عرفتها البشرية، وثبت للعالم أجمع أنها لا توالي إلا اليهود؟! أيُّ سلامٍ بعد آلاف القتلى من المسلمين بلا ذنب؟ أيُّ سلامٍ بعد عشرات الآلاف من الجرحى، وكثير منهم معاق طِيلةَ حياته؟ أيُّ سلامٍ بعد هدم بيوت المسلمين فوق أهلها؟ أيُّ سلامٍ وسجون اليهود مكتظة بالرجال والنساء وحتى الأطفال؟ أيُّ سلامٍ وهم يتوغلون ليل نهار في أرضنا، ويدنسون مقدساتِنا؟ أيُّ مبادرةِ سلامٍ وذلٍّ وتطبيعٍ نبيع فيه أرضنا المباركة وقدسنا المعظم؟!

 

أيها المسلمون: يقول الله -سبحانه- متوعدا لنا: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)، إذا تركنا الجهاد سلط الله علينا ذلا لا ينزعه حتى نرجع إلى ديننا، وإذا اتقينا الله واتبعنا القرآن وأخذنا بأسباب النصر فسيجعل الله لنا مخرجا، وسينصرنا على أعدائنا، ومن أعظم أسباب النصر: تحقيق الإيمان وتقوى الله، واجتماع الكلمة على الحق، وترك التنازع والتفرق، وإعداد ما نستطيع من العدة للجهاد في سبيل الله، والتضحية بالأموال والأنفس، وغير ذلك من أسباب النصر التي بينها الله في كتابه الكريم.

 

وإن من أعظم أسباب نصر الله لنا أن ننصر دينه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ).

 

واعلموا أيها -المسلمون- أن من خان حي على الصلاة، فسيخون حي على الجهاد، ومن لم يحافظ على صلاته، فهو لما سواها أضيع، فانصر -أيها المسلم- المسجد الأقصى ولو بصلاتك وصلاحك ودعائك، فإذا نصرنا الله بإقامة دينه نصرنا على عدونا، (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)، وقد ذكر بعض اليهود أن المسلمين لن ينتصروا على اليهود حتى يكون المصلون في صلاة الفجر كالمصلين في صلاة الجمعة، وصدق وهو كذوب.

 

إن اليهود يحرصون على إضلال شباب المسلمين وإغوائهم بالمغريات والملهيات، والمسلسلات والمباريات، فهم من شياطين الإنس، فلنحذر مكرهم وكيدهم، ولنحرص على ما ينفعنا في ديننا ودنيانا، (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا).

 

أيها المسلمون: إن الله ناصر دينه وعباده المؤمنين بنا أو بغيرنا، في حياتنا أو بعد موتنا، (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)، قال الله -تبارك وتعالى-: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)، وقال: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، وقال: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)، وقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)؛ فالمستقبل للإسلام ولو كره الكافرون، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «بشِّر هذه الأمة بالسَّناء والنصر والتمكين، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة نصيب».

 

إن الله القوي قادر على نصر المسلمين بلا جهاد ولا عمل بالأسباب، كما قال الله -تعالى-: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)؛ لكن من حكمة الله أن يبتلي المسلمين بالكفار، وجعل للنصر أسبابا، وأمر المسلمين أن يعملوا بالأسباب بقدر استطاعتهم لينصرهم بقدرته، فقد جعل الله لكل شيء سببا، (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

 

أيها المسلمون: قضية القدس أغلى وأثمن وأكبر من أن تُترك لمفاوضات استسلام، قضيتنا في القدس لا تنفصل عن الإسلام، فليست أرضاً فلسطينية أو عربية فحسب، بل هي أرض المسلمين جميعاً. 

 

وليستيقنَ الجاهلون والمنافقون أنهم لن يروا نصراً ولن يحفظوا أرضاً ما داموا مصرين على مخالفة القرآن والسنة، ومغترين بالعقائد الضالة أو مناهجِ الإلحاد المنحرفة، إن هذا الركام كله نبتُ الشيطان، وغرس الكفار، وهو الذي يؤخر نصر الله، ويمد في حبال اليهود وحمايتهم، يجب أن نعلم أن الكفاح مع تراكم العقبات وكثرة التضحيات أعزُّ وأفضلُ من القعود والتخلف من أجل راحة ذليلة، ونِسَبِ أرضٍ ضئيلةٍ لا تليق بهمم الرجال.  

 

قال الله -تعالى- في كتابه الكريم: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

 

أيها المسلمون: الله يخبرنا أن الجهاد خير للأمة في دينها ودنياها، ومَنْ أصدقُ من الله قيلا؟! الجهاد ماض إلى يوم القيامة، وهو فرض على هذه الأمة، جهاد الدفع عند ضعفها، وجهاد الغزو عند قوتها، فما بال أقوام ينكرون هذه الفريضة، والله يقول في كتابه الحكيم: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)؟! وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو؛ مات على شعبة من نفاق». 

 

 اللهم إنا نعوذ بك من الكفر والنفاق، والجبن والبخل، ونعوذ بك أن نكره شيئا من دينك فتحبط أعمالنا ونحن لا نشعر، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على نعمة الإسلام، الحمد لله على نعمة القرآن، الحمد لله على نعمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الحمد لله على نعمة الهداية، ونستغفر الله من كل ذنب وغواية، ومن كل تقصير في طاعة واجبة، اللهم ارض عنا، فإن لم ترض عنا فاعف عنا، أما بعد:

 

فبلاد الشام تشمل فلسطين وسوريا ولبنان والأردن، وكلها أرض مباركة، وقد وردت في كتب السنة أحاديثُ صحيحةٌ في فضائل الشام نذكر منها ما يلي: عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا، وَفِي يَمَنِنَا» قَالُوا: وَفِي نَجْدِنَا؟ قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا وَفِي يَمَنِنَا» قَالُوا: وَفِي نَجْدِنَا؟ قَالَ: «هُنَاكَ الزَّلاَزِلُ وَالفِتَنُ، وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ»(رواه البخاري).

 

وعن جماعة من الصحابة -رضي الله عنه-م قالوا: قال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: «أَلا إِنَّ الإِيمَانَ -إِذَا وَقَعَتِ الفِتَنُ- بِالشَّامِ».

 

وعن ابن حَوالة -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: «عليك بالشام؛ فإنها خيرةُ الله مِنْ أرضه، يَجْتَبِي إليها خِيرتَهُ مِن عِبادِه، فإنَّ اللهَ تَوكَّلَ لِي بِالشَّامِ وأهْلِه»(رواه أحمد وأبو داود).

 

وعن قُرَّةَ بنِ إياسٍ -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا فسدَ أهلُ الشامِ فَلا خيرَ فِيكُمْ، لا تزالُ طائفةٌ مِنْ أُمَّتي مَنصُورِين، لا يَضُرُّهم مَنْ خَذَلَهم حَتَّى تقومَ السَّاعةُ»(رواه أحمد والترمذي).

 

وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ فُسْطَاطَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْمَلْحَمَةِ بِالْغُوطَةِ، إِلَى جَانِبِ مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا: دِمَشْقُ، مِنْ خَيْرِ مَدَائِنِ الشَّامِ»(رواه أحمد وأبو داود).

 

وعن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- قال: ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدجال فقال: «مَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ، فَإِنَّهَا جِوَارُكُمْ مِنْ فِتْنَتِهِ»، قُلْنَا: وَمَا لَبْثُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ يَوْمًا: يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ»، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ، أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؟ قَالَ: «لَا، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ، ثُمَّ يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، فَيُدْرِكُهُ عِنْدَ بَابِ لُدٍّ، فَيَقْتُلُهُ»(رواه مسلم)، والمنارة البيضاء معروفة إلى الآن في الجامع الأموي بدمشق، ومدينة لُدٍّ مدينة مشهورة في فلسطين.

 

وعن سلمة بن نُفَيل -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ، يَزْيِغُ اللَّهُ قُلُوبَ أَقْوَامٍ فَيُقَاتِلُونَهُمْ، وَيَرْزُقُهُمُ اللَّهُ مِنْهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، أَلَا إِنَّ عُقْرَ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ»(رواه أحمد). قال شراح الحديث: معنى عُقْرِ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ أَيْ أَصْلُهُ، أَشَارَ بِهِ إِلَى وَقْتِ الفتَن، أَيْ يَكُونُ الشَّامُ آمِناً مِنْ الفِتَنِ فِي آخِر الزَّمَانِ.

 

وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-ما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «سَتَخْرُجُ نَارٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مِنْ حَضْرَمَوْت تحشُرُ النَّاس»، قلنا: فماذا تأمرنا يا رسول الله؟ قال: «عَلَيْكُم بِالشَّام». رواه الترمذي، وبداية خروج هذه النار من عدن، كما في الأحاديث الصحيحة، وتجمع الناسَ إلى بلاد الشام في آخر الزمان.

 

عباد الله: إنَّ من علامات اقتراب الساعة كثرةَ الزلازل، وكثرة القتل والفتن، وإن الأحداث الجارية اليوم في بلاد الشام ليست كبقية الأحداث، إن هذه الأحداث تدل على اقتراب يوم القيامة، واقتراب البلايا التي تكون في آخر الدنيا، فعن عبد الله بنِ حَوالة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا رَأَيْتَ الْخِلَافَةَ قَدْ نَزَلَتْ أَرْضَ الْمُقَدَّسَةِ فَقَدْ دَنَتِ الزَّلَازِلُ وَالْبَلَابِلُ وَالْأُمُورُ الْعِظَامُ، وَالسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنَ النَّاسِ مِنْ يَدِي هَذِهِ مِنْ رَأْسِكَ»(رواه أحمد وأبو داود).

 

وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «عُمْرَانُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَرَابُ يَثْرِبَ، وَخَرَابُ يَثْرِبَ خُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ، وَخُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ فَتْحُ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَفَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ خُرُوجُ الدَّجَّالِ»، ثم قال لمعاذ: «إِنَّ هَذَا لَحَقٌّ كَمَا أَنَّكَ قَاعِدٌ».

وهذا الحديث الصحيح من أحاديث الملاحم وعلامات الساعة، والله ورسوله أعلم بالمراد منه، وسيعرف الناس حقيقة معناه عند وقوعه كما أخبر بذلك الذي لا ينطق عن الهوى.

 

عباد الله: لنسارع إلى التوبة إلى الله من ذنوبنا، ولنحرص على ما ينفعنا في ديننا ودنيانا، ولنترك الطمع في الدنيا، وعلينا أن نقنع بالحلال وإن قل، والآخرة خير لمن اتقى، وعلينا أن نستعد للقاء الله بالتقوى، فهي خير زاد لنا في سفرنا إلى الله، فما يدري أحدنا كم بقي من عمره، ولا ما بقي من عمر الدنيا.

 

اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نعوذ بك من فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، اللهم إنا نعوذ بك من اتباع الأهواء المضلة، والفتن المهلكة، اللهم أصلح مَنْ في صلاحه صلاحا للإسلام والمسلمين، وأهلك مَنْ في هلاكه صلاحا للإسلام والمسلمين، اللهم أنج المستضعفين من المسلمين في فلسطين، وفي مشارق الأرض ومغاربها، واجعل لهم فرجا ومخرجا. اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، ووحد صفوفهم، ووفقهم لاتباع كتابك وسنة نبيك، اللهم هيء الأسباب لتحرير المسجد الأقصى، واهد المسلمين حكاما ومحكومين لإقامة شريعتك، ونصرة دينك. 

اللهم عليك باليهود المعتدين، وبمن يعينهم من النصارى والمنافقين، اللهم انتقم منهم، وخالف بين كلمتهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ، وَنُثْنِي عَلَيْكَ الخَيرَ وَلَا نَكْفُرُكَ، وَنُؤْمِنُ بِكَ، وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُكَ، اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ، وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، نَرْجُو رَحْمَتَكَ، وَنَخَافُ عَذَابَكَ، إِنَّ عَذَابَكَ بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ.

اللَّهُمَّ عَذِّبِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَيُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَلَا يُؤْمِنُونَ بِوَعْدِكَ، وَيُقَاتِلُونَ أَوْلِيَاءَكَ، وَأَلْقِ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَخَالِفْ بَيْنَ كَلِمَتِهِمْ، وَأَنْزِلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ، والْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيْرا.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْعَلْ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَالْحِكْمَةَ، وَثَبِّتْهُمْ عَلَى مِلَّةِ نَبِيِّكَ، وَأَوْزِعْهُمْ أَنْ يُوَفُّوا بِالْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدْتَهُمْ عَلَيْهِ، وَانْصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِمْ، إِلَهَ الْحَقِّ، وَاجْعَلْنَا مِنْهُمْ. 

أيها المسلمون، أكثِروا مِنَ الصلاةِ والسلامِ على مَنْ أمركمُ اللهُ بالصَّلاةِ والسلامِ عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

اللهم صل وسلم على نبينا محمد وأهل بيته وأزواجه وذريته، وارض عن الخلفاء الراشدين، والصحابة أجمعين، والسلامُ علينا وعلى عباد الله الصالحين.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

المشاهدات 13924 | التعليقات 0