(وإياك نستعين)
راكان المغربي
أما بعد:
كل منا ألقى نظرة على سير الصالحين قديما وحديثا..
قرأ أخبارَهم، أو حُكيت له عجائبُهم، أو شاهد بأم عينه عظيمَ اجتهادهم..
هذا يقوم الساعات الطوال في كل ليالي العام، وهذا لا يفوّت صيام الاثنين والخميس، وهذا يختم في رمضانَ وغير رمضانَ الختماتِ المتواليات، وغيرُ ذلك من الأخبار الكثيرة في كل زمان ومكان.
حين يتأمل المسلم المقصر في تلك الأحوال قد يتساءل:
يا ترى ما سر إقبالهم وسبب إدباره؟
ما الذي عملوه حتى نالهم التوفيق، ولم يعمله فكان الحرمانُ نصيبَه؟
أي قوة تلك التي أمدتهم، وأي غذاء ذلك الذي تغذوا به، فقدروا ولم يقدر، وتقدموا ولم يستطع اللحاق بهم؟!
ذلك التساؤل قد تسيل للجواب عنه أقلامُ الكتاب، وتفيض له عباراتُ الخطباء.
ولكن ثمةَ جواب مجمل قد يكون جامعا لكل تلك الحروف والعبارات.
إن أعظم أسرار الإقبال، هو معونة الله لهم، حين أمدهم بتوفيقه، وصرف قلوبهم إلى طاعته، وأسلكهم سبيل مرضاته.
إن الاستعانة بالله هي أعظم الوسائل للرقي في سلم درجات العبودية. ولأجل ذلك فرض الله عليك أن يتلو لسانُك مرارا، وأن يطرق سمعَك تكرارا قولُ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، تلك الآية التي توسطت فاتحةَ الكتاب، فقُدّمت العبادةُ فيها لأنها الغاية العظمى التي خلق العباد من أجلها، ثم ذُكرت الاستعانة لأنها الوسيلة الناجعة لتحقيق تلك الغاية.
بعد تأمل طويل يصل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى نتيجة نافعة يقول فيها: " تأمَّلتُ أنفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)"
إن هذه الآية حين يتلوها المؤمن بقلبه فإنه يعلن عجزه وضعفه، ويقر بفقره وحاجته، ويتبرأ من حوله وقوته، ليلجأ إلى الله طالبا مدده، سائلا توفيقه، مستعينا به على طريق العبودية له. وحينها يردُّ الله عليه كما جاء في الحديث (هذا بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي، ولِعَبْدِي ما سَأَلَ، فإذا قالَ: {اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عليهم غيرِ المَغْضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ} قالَ الله: هذا لِعَبْدِي ولِعَبْدِي ما سَأَلَ)
بمثل هذه المشاعر كان السلف يقرؤون هذه الآيةَ العظيمة. قال مزاحم: "صلى بنا سفيان الثوري المغرب، فقرأ حتى بلغ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فبكى حتى انقطعت قراءته". وقال محمد بن عوف الحمصي: "رَأَيْتُ أَحْمَدَ بنَ أَبِي الحَوَارِيِّ عِنْدَنَا بِطَرْسُوْسَ، فَلَمَّا صَلَّى العَتَمَةَ، قَامَ يُصَلِّي، فَاسْتَفْتَحَ بِـ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} إِلَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فَطُفْتُ الحائط كله، ثم رجعت، فَإِذَا هُوَ لاَ يُجَاوِزُهَا، ثُمَّ نُمْتُ، وَمَرَرْتُ فِي السَّحَرِ وَهُوَ يَقْرَأُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} . فَلَمْ يزل يرددها إلى الصبح".
عباد الله
ولأهمية الاستعانة بالله في حياة المسلم، شُرع لنا العديد من الأدعية والأذكار التي تحقق هذا المعنى العظيم في قلب المسلم.
فحين تطرق كلمات الأذان سمعَك، أوصاك الحبيب صلى الله عليه وسلم أن تردد ما يقول المؤذن، حتى إذا دعاك المؤذن إلى الصلاة، ودعاك إلى الفلاح، شُرع لك أن تقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، قال الطيبي في العلة من ذلك: "معنى الحيعلتين: هلم بوجهك وسريرتك إلى الهدى عاجلاً، والفوز بالنعيم آجلاً. فناسب أن يقول: هذا أمر عظيم لا أستطيع مع ضعفي القيام به إلا إذا وفقني الله بحوله وقوته"
ولذا كان لهذه الكلمة ثواب عظيم لعظم أثرها في إصلاح حال العبد في سيره إلى الله، كما جاء في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه حين قال له: (يا عَبْدَ اللَّهِ بنَ قَيْسٍ، قُلْ لا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إلَّا باللَّهِ، فإنَّهَا كَنْزٌ مِن كُنُوزِ الجَنَّةِ).
قال الإمام النووي: "قال العلماء: سبب ذلك أنّها كلمةُ اسْتسلامٍ وتفويضٍ إلى الله تعالى، واعْترافٍ بالإذعان له، وأنّه لا صانع غيره، ولا رادّ لأمره، وأنّ العبد لا يملك شيئاً من الأمر، ومعنى الكنْز هنا: أنّه ثواب مدّخر في الجنّة، وهو ثواب نفيس، كما أنّ الكنْزَ أنفسُ أموالكم".
ومن الأذكار المتعلقة بالاستعانة ذكر البسملة، فحين يقول العبد "بسم الله" فإن ذلك يعني أنه يبدأ عمله مستعينا بالله، متبركا بذكر اسمه، ولذا شرعت البسملة في بداية كثير من الأعمال المخصوصة كقراءة القرآن والمراسلات والذبح والطعام والشراب والجماع وغير ذلك. وشرعت عموما عند بداية كل أمر مهم ذي بال كما ذكر ذلك العلماء، وما ذاك إلا لتكون سببا في استمداد المعونة والتوفيق من الله.
ومن أدعية الاستعانة الواردة، تلك الوصية التي وصى به النبي صلى الله عليه وسلم صاحبه معاذ وقدم الوصية بتعبيرات المحبة الفعلية والقولية لتكون أدعى للقبول والاستمساك، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه: "أنَّ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّمَ أخذَ بيدِهِ، وقالَ: يا مُعاذُ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّكَ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّك، أوصيكَ يا معاذُ لا تدَعنَّ في دُبُرَ كلِّ صلاةٍ تقولُ: اللَّهمَّ أعنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسنِ عبادتِكَ"
وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يريد منا أن يكون لنا ورد يومي من الاستعانة لا نتركه أبدا، على أن يكون هذا الورد في دبر الصلاة أي آخر الصلاة قبل التسليم أو بعده على قولين للعلماء.
عباد الله
لقد كان حال الصالحين الدائم أنهم لا يفترون عن استمداد العون من الله، في العسر واليسر، وفي السراء والضراء، وفي حال القوة وحال الضعف. فهذا نبي الله سليمان عليه السلام الذي بلغ الغاية في الملك والقوة الدنيوية، حين حشر له جنوده من الجن والإنس والطير، وحين أسمعه الله وأفهمه قول النملة، لم تغره تلك القوة، وذلك الملك، وما كان له إلا أن يسأل الله أن يلهمه شكر نعمته وأن يوفقه ويعينه على أن يعمل لمرضاته، قال سبحانه حاكيا حاله: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ).
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يحكي عنه تلميذه ابن القيم فيقول: "وشهدت شيخ الإسلام قدس الله روحه إذا أعيَتْه المسائل واستصعبَت عليه فرَّ منها إلى التوبة والاستغفار، والاستغاثةِ بالله، واللَّجَأِ إليه، واستنزالِ الصواب مِن عنده، والاستفتاحِ من خزائن رحمته، فقلَّما يلبَث المدد الإلهيُّ أن يتَتابع عليه مدًّا، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيَّتهن يبدأ"
فاللهم افتح علينا من فتوحك، واهدنا لهداك واجعل عملنا في رضاك..
بارك الله لي ولكم
الخطبة الثانية:
أما بعد:
ففي الليلة المقبلة يكون قد اكتمل البدر، وانتصف الشهر، وانقضى من رمضان الشطر.
أما من أحسن فما هو إلا بتوفيق من الله، فما أحوجه إلى استمرار المدد، واستدرار المعونة من الكريم. وأما من قصر فما هو إلا الخذلان والحرمان، الذي لا يمكن رفعه إلا بسؤال الله التوفيق والعون على مرضاته.
ولئن كان الذي مضى من الشهر كثيرا، فإن ما بقي منه أكثر وأعظم وأفضل. ولو لم تكن فيه إلا ليلة القدر لكفى، الليلة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (فيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ، من حرمَ خيرَها فقد حُرِم).
تلك الليلة التي من أجلها كان النبي صلى الله عليه وسلم، يبلغ أعظم مستويات الاجتهاد في الطاعة والعبادة والإقبال على الله، فكان كما تقول عائشة رضي الله عنها (إذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ -أي اعتزل النساء أو جد في العبادة - ، وأَحْيَا لَيْلَهُ، وأَيْقَظَ أهْلَهُ).
تلك الليلة التي كان من أجل إدراكها يحبس النبي صلى الله عليه وسلم نفسه في المسجد طوال العشر الأواخر معتكفا في بيت الكريم سبحانه، ليستثمر كل لحظاتها في العبادة فينال من مكرماته، وينهل من رحماته.
إنها ليلة العفو والغفران التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا؛ غُفر له ما تقدمَ من ذنبهِ). وإلى الله في تلك الليلة تمتد طلبات العفو، من العفو الذي يحب العفو. سألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسولَ اللهِ أرأيتَ إنْ علِمتُ أيَّ ليلةٍ ليلةُ القدرِ ما أقولُ فِيها؟ قال : (قُولي : اللهمَّ إنكَ عفوٌ، تحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي).
ليلة القدر ما هي إلا ساعاتٌ قليلة في حسبة البشر، لكنها تعدل عند الله أكثر من ألف شهر، فهنيئا لمن وفقه الله وأعانه إلى استثمار ساعاتها ودقائقها وثوانيها، ويا حرمان من خذله الله وكان حاله الحرمان فيها.
فاللهم بلغنا ليلة القدر، ووفقنا لقيامها إيمانا واحتسابا، واجعلنا فيها من الفائزين.
اللهم بلغنا ليلة القدر، وأعنا فيها على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واكتب لنا فيها أوفر الحظ والنصيب.
المرفقات
1649945996_(وإياك نستعين).docx
1649945996_(وإياك نستعين).pdf