(وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ)
حسام الحجي
إِنَّ الْحَمْد للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمْنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
أما بعد: (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ ، طَاغِيَةٌ عَصَى اللهَ، وَادَّعَى الْأُلُوهِيَّةَ ، كَانَ حَاكِمًا لِمِصْر ، فَادَّعَى : أَنَّهُ إِلَهٌ لَهُمْ ؛ لِذَلِكَ سَطَّرَ اللهُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ ، فَقَالَ (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ) عُلُوٌّ وَكِبْرٌ وَغَطْرَسَةٌ وَجُحُودٌ ، قَالَ لِأَهْلِ مِصْرَ بَعْدَمَا اسْتَخَفَّهُمْ وَظَلَمَهُمْ ، وَجَارَ عَلَيْهِمْ ، وَذَبَحَ ذُكُورَهُمْ ، وَاسْتَحْيَا نِسَاءَهُمْ (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) أَيْ لَا أَعْرِفُ إِلَهًا وَلَا رَبًّا وَلَا خَالِقًا ، وَلَا مُوجِدًا لَكُمْ - يَا أَهْلَ مِصْرَ - إِلَّا أَنَا.
عَالٍ فِي الْأَرْضِ ، قَالَ الله (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) أَسْرَفَ وَطَغَى وَبَغَى ، وَتَعَدَّى الْحُدُودَ ، فَبَعَثَ اللهُ إِلَيْهِ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَبَعَثَهُ إِلَى أَهْلِ مِصْرَ ، فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَتَوْحِيدِهِ ، فَآمَنَ لِمُوسَى طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الظُّلْمُ وَالْجَوْرُ مِنْ قِبَلِ فِرْعَوْن ، فَاجْتَمَعَ مُوسَى مَعَ قَوْمِهِ ، فَقَالَ (يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ) أَتَعْرِفُونَ مَاذَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لَهُ ؟ (فَقَالُواْ عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) وَنَزَلَ الْإِذْنُ لِمُوسَى أَنْ يَخْرُجَ هُوَ وَقَوْمُهُ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ آخِذِينَ بِالْأَسْبَابِ ، بَعْدَ التَّوَكُّلِ عَلَى الْقَوِيِّ الْمُتَعَالِ ، وَانْظُرْ كَيْفَ صَوَّرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ هَذَا الْحَدَثَ (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) خَرَجَ مُوسَى ، وَخَرَجَ خَلْفَهُ فِرْعَوْنُ ، ذَكَرَ أَهْلُ السِّيَرِ : أَنَّ فِرْعَوْنَ خَرَجَ فِي أَكْثَرَ مِنْ مِلْيُونٍ وَسِتّمِائَةِ أَلْفِ جُنْدِيٍّ ، سَارَ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْفَارِّينَ بِدِينِهِمْ ، حَتَّى بَلَغُوا الْبَحْرَ ، فَكَانَ الْبَحْرُ مِنْ أَمَامِهِمْ ، وَفِرْعَوْنُ مِنْ خَلْفِهِمْ ، فَلَمْ يَجِدُوا فِرَارًا وَلَا مَلْجَأً إِمَّا بَحْرٌ يُغْرِقُ ، أَوْ عَدُوٌّ مُهْلِكٌ، وَاشْتَدَّ الرُّعْبُ وَالْخَوْفُ فِي أَوْسَاطِ أتْبَاعِ مُوسَى ، فَالْمَوْتُ يُحَاصِرُهُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، جَاءَ قَوْمُ مُوسَى إِلَيْهِ ، فَقَالُوا لَهُ : أَيْنَ الْمَفَرُّ ؟ (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) قَالَ مُوسَى الْمُؤَمَّنُ بِرَبِّهِ (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) حَتَّى إِذَا مَا اشْتَدَّ الْأَمْرُ ، وَاقْتَرَبَ مِنْهُمْ فِرْعَوْنُ ، وَزَادَ الْخَوْفُ ، فِي تِلْكَ الْأَثْنَاءِ أَنْزَلَ اللهُ عَلَى مُوسَى (أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) انْفَلَقَ الْبَحْرُ ، فَكَانَ أَرْضًا يَابِسَةً ، قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ وَالتَّفْسِيرِ : فَتَحَ اللهُ فِي الْبَحْرِ اثْنَي عَشَرَ طَرِيقًا ، حَتَّى نَجَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْمُهُ ، ثُمَّ قَالَ اللهُ لَهُ (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ) لَا تُحَرِّكْهُ ، حَتَّى إِذَا مَا دَخَلَ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ أَجْمَعُونَ أَوْحَى اللهُ إِلَى مُوسَى الْآنَ اضْرِبِ الْبَحْرَ ، فَضَرَبَهُ فَعَادَ كَمَا كَانَ ، وَأُطْبِقَ عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ ، مِلْيُون وَسِتُّمِائَةِ أَلْفِ شَخْصٍ غَرِقُوا أَجْمَعِينَ ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ (وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).
.أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ وَأسْأَلُ اللهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي وَلَكُمْ
:الْخُطْبَة الثَّانِيَة
الْحَمْدُ للهِ وَكَفَى ، وَصَلَاةً وَسَلَامًا عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى
أَمَّا بعْدُ: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) حَصَلَ ذَلِكَ فِي شَهْر مُحَرَّمٍ ، في الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْهُ ، أَنْجَى اللهُ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ ، فَمَا كَانَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنْ صَامَ ذَلِكَ الْيَوْمَ شُكْرًا للهِ عَلَى فَضْلِهِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا هُوَ دَوْمًا سُلُوكُ الْمُؤْمِنِ ؛ الشُّكْرُ فِي السَّرَّاءِ وَالصَبْرُ عِنْدَ الْبَلَاءِ ، وَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ ، فَسُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالُوا : هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي أَظْهَرَ اللهُ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ فَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا لَهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: " نَحْنُ أُولَى بِمُوسَى مِنْكُمْ " فَأَمَرَ بِصَوْمِهِ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ: قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: " فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ صُمْنَا يَوْمَ التَّاسِعِ " فَلَمْ يَأْتِ
.الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَعْنِي الْيَوْمَ التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ حَتَّى يُخَالِفَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَالَ ﷺ: " وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَه
.فَصُومُوهُ وَحُثُّوا أَبْنَاءَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ عَلَى صِيَامِهِ
.اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مُتَّبِعِينَ لَا مُبْتَدِعِينَ ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الصّالِحين