{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} 12 رمضان 1445هـ
د عبدالعزيز التويجري
الخطبة الأولى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} 12 رمضان 1445هـ
الحمد لله ولي المؤمنين {نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا ، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله صلَّى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وزوجاته ومن تبعهم بإحسان إلى اليوم الدين.
أما بعد: فاتَّقوا الله – أيها المؤمنون - حقَّ التقوى، وراقِبوه في السرِّ والنجوَى.
القرآنُ عظيمٌ لا تعلوه عظمه {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} عظيمٌ وكريمٌ لأنه كلامُ ربِّ العالمين، تكلَّم به حقيقةً بحرفٍ وصوتٍ مسمُوعَين، والله جل جلاله يتكلَّم متى شاء، إذا شاء، بما شاء، ولا مُنتهى لكلماته {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} لو أن كل أشجار الدنيا من أولها إلى آخرها، أشجار البلدان والبراري والبحار، كلها أقلام يكتب بها، {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} لتكسرت تلك الأقلام ولفني ذلك المداد، ولم تنفد {كَلِمَاتُ اللَّهِ} {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}
كتابٌ لا يعادله كتاب {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} .
بالغٌ في الشرف والمجد أعلاه {بل هُوَ قُرْآن مجيد}
كريم لا يسامى {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}
عالٍ لا يُدانَى {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}
عزيزٌ لا يُجارى {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} من دنا منه نالَه العزُّ ، ومن ابتعدَ عنه كان حيًّا بلا حياة {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} .. من تمسَّك به عُصم من الضلال «تركتُ فيكم ما لن تضلُّوا بعده إن اعتصمتُم به: كتاب الله»، ومن سار على نهجه أنار عقله وأبصر طريقه {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}
ليس حديثٌ أحسنَ منه {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) وليس قصص أبلغ منه {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ}
ألفاظه كعقود الدرِ ساطعةٌ وآيه لظلام الجهل أقمارُ
رقت معانيهِ إذ دقت لطائِفهُ فأمعنت فيه ألبابُ وأفكارُ
حاز من الخيرية أسماها ، ومن البركة أعلاها، نزل به خيرُ الملائكة على خير الرُّسُل عليه الصلاة والسلام، في خير البِقاع، وفي خير شهرٍ { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} .
في خير ليلةٍ ليلةُ القدر {إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ليلةٌ مباركة {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}.
هذا القرآن شرف وتشريف لهذه الامة (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) .
حفِظَه الله قبل إنزاله {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) .
وتكفَّل بحفظِه بعد نزوله {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)
قدَّمه الله في الذكر على كثيرٍ من نعمه {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ)
شفاءٌ لأمراض الأبدان؛ لدغَت عقربٌ رجلاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقُرئَ عليه سورةُ الفاتحة فبرأَ . (أخرجه البخاري).
كيف تضل أمة وتتيه مجتمعات فيها كتاب الله {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} فهو أعظم المواعظ وازكاها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}
فمن أراد الثبات عند الفتن والمصائِب والمصاعِب فليلزم القرآن{كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}
تلاوتُه تزيدُ في الإيمان {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}
وهو التجارةُ الرابحةُ المُضاعفَة " مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا".
آياتُه أبكَت العظماء؛ قرأ ابن مسعودٍt على رسول الله r سورة النساء، فبكى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وجعلت عيناه تذرِفان" .
كان أبو بكرٍ إذا قرأَ القرآنَ لا يكادُ يُسمِعُ من خلفَه من البكاء.
طاف عمر بالمدينة ليلة فسمع رجلاً يقرأ في بيته (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ) فبكى عمر ورجع إلى بيته وعاده الناس أياماً .
وقرأَ جعفرُ الطيارُ على النجاشيِّ سورة مريم، فبكَى النجاشي حتى أخضلَ لحيتَه، وبكَى أساقِفتُه حتى أخضَلوا مصاحفَهم.
سمع جبير بن مطعم وهو مشرك آيات من سورة الطور فكاد قلبه ان يطير .
الصوت الحسن فيه هبة من الله .كان داود عليه السلام إذا قرا الزبور تقف الطيور على الجبال تستمع وتجاوبه {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ}.
كان عليه الصلاة والسلام يأتي بيت أبي موسى الاشعري فيستمع لقراءته، ويقول: لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود »؛ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَكَانَ عُمَرُ إِذَا جَلَسَ عِنْدَهُ أَبُو مُوْسَى قَالَ لَهُ:«ذَكِّرْنَا يَا أَبَا مُوْسَى، فَيَقْرَأُ».
ومُعلِّم القرآن ومُتعلِّمه هم خيرُ الناس،«خيرُكم من تعلَّم القرآن وعلَّمه».
لم ينقطع الصحابة عن تعليم القرآن حتى بعد أن تقلدوا المناصب..وَلَّى عُمَرُ، أبا موسى الأشعري إِمْرَةَ الْبَصْرَةِ؛ فكَانَ يُقْرِئُ النَّاسَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ الْأَمِيرُ.. قَالَ أَنَسٌ t بَعَثَنِي أبو موسى الأَشْعَرِيُّ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ لِي عمر: كَيْفَ تَرَكْتَ الأَشْعَرِيَّ؟ قُلْتُ: تَرَكْتُهُ يُعَلِّمُ النَّاسَ القُرْآنَ».
ومَكَثَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِإِقْرَاءِ النَّاسِ القُرْآنَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ e ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
مجالسُ القرآن وحلق القرآن ومواطِنُ تعلُّمه مظانُّ تنزُّل السكينة والرحمة على مُعلِّميها والمُتعلِّمين "ماجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ». أخرجه مسلم
استغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إني ربي رحيم ودود.
الخطبة الثانية .. الحمدلله ولي المؤمنين والصلاة والسلام على إمام المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد ..
إن للقرآن لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه. {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}
القرآن عزيز ،لا ينال حفظه وضبطه إلا من بذل الغالي من وقته ، وضحى بعمره.
ومع هذا فهو يسير لمن أعطاه وقته وجعله همه وهمته، يحفظُه العربيُّ والعجميُّ، والصغيرُ والكبيرُ، والذكرُ والأنثى، والغنيُّ والفقيرُ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
من حفظ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يُوحى إليه.
لا حسد في الدنيا ولا في مناصبها ولا في أموالها، إلا في تعلم القرآن وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار «أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ، أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ»، «والماهرُ بالقرآن مع السَّفَرة الكرام البرَرة».متفق عليه
حاملُ القرآن مُكرَمٌ في حياته وبعد مماته؛ ففي الحياة «يؤمُّ القومَ أقرأُهم لكتاب الله».
وبعد الوفاة: كان عليه الصلاة والسلام يجمعُ بين الرجُلَين من شُهداء أُحُد، ويسألُ: «أيُّهم أكثرُ أخذًا للقرآن»، فيُقدِّمُه في اللَّحد. (رواه البخاري).
وأهلُ القرآن خيرُ جليسٍ للمرء، "كان القُراء أصحاب مجالس عُمر ومُشاورته"
أسعدُ الناسِ أقربُهم من كتاب الله، وهو شرفُ وسُؤدَدُ المُسلمين، ورُقيُّ وفخرُ الأجيال، وهو أمانٌ للمُجتمع وبركةٌ عليه، وفيه الأُنسُ والرِّفعةُ ورِضا رب العالمين.
وفي المقابل ..الاعراض عن القران وعدم تحكيمه في ميادين الحياة نكسة للأمة وتضييع لمواردها وضيق في معيشتها {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} وتنحيةُ مبادئهِ وأخلاقهِ وقيمهِ تُسَيرُ الأجيال كالأنعام، لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا..
لا يُنالُ الأمنُ والرخاء، ولايعز شأن الأمة، ولا يرفع اقتصادها ويهذب أخلاقها إلا القرآن تلاوةً وعمل به وتحكيمًا ونشْرا. قال ابن كثيرٍ - رحمه الله -: "لما كانت خلافةُ عُثمان بن عفَّان رضي الله عنه امتدَّت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارِق الأرض ومغارِبِها، وعم أمنها، وكثُرت خيراتها، وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن".. هذا هو عزنا ومجدنا فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله .
يا أيها الناس جميعا عايشوا القرآن في بيوتكم، وحياتكم، يملأ الله بيوتكم رحمة وبركة وهداية ونوراً، ويملأ صدوركم إيماناً، ويقيناً، وخيراً وبراً، ويملأ مسيرتكم إشراقاً وفلاحاً ونجاحاً..
..
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك ..
المرفقات
1711022878_{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}.pdf
1711023178_{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}.docx