وإنَّما لِكلِّ امرئٍ ما نوى

الخطبة الأولى

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

{ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡس وَٰحِدَة وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالا كَثِيرا وَنِسَآء وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبا}.

أما بعد...

اتقوا الله تعالى أيها المسلمون، وتعاهدوا قلوبكم، وجددوا نياتكم، فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.

أيها المسلمون:

فإن من عظيم نعمة الله على هذه الأمة أن ضاعف لها في الأجر وبارك لها في العمل، فرتب الحسنات على كل الأعمال والأقوال والسكتات، ما دام قلب صاحبها متعلقا بالله تعالى ومستحضرا النية الصالحة الطيبة في كل أحواله.

روى مسلم من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- أن ناسا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-:- (يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضل أموالهم، فقال عليه الصلاة والسلام: "أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة". قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر).

هذا حديث عظيم ذكر لنا فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن استمتاع الإنسان وقضاءه لشهوته يثاب ويؤجر عليها، إذا كانت في الحلال ولم تكن في الحرام، فكم من الأعمال والمباحات التي يقوم بها الإنسان في يومه وليلته؟ وماذا لو استحضر نية صالحة لله تعالى في كل عمل يقوم به.

قال ابن دقيق العيد –رحمه الله-: (وفي هذا الحديث فضيلة التسبيح وسائر الأذكار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضار النية في المباحات، وإنما تصير طاعات بالنيات الصادقات).

وقال أيضا: "فالجماع يكون عبادة إذا نوى به الإنسان قضاء حاجة الزوجة ومعاشرتها بالمعروف، أو طلب ولد صالح، أو إعفاف نفسه أو زوجته، أو غير ذلك من المقاصد الصالحة).

روى الشيخان من حديث عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه).

أيها المسلمون:

يمر الإنسان في حياته بمناسبات اجتماعية وأحوال أسرية، مع بيته وأقاربه وجيرانه، حري فيها كلها أن يكون حاضرا لنيته، طالبا الثواب من الله تعالى.

من منا حين ينفق على أهله وأولاده، ويحضر لهم حاجاتهم من السوق يكون مستحضرا أن هذا من أفضل الإنفاق ومن خير وجوه البذل.

روى الشيخان من حديث أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (نفقة الرجل على أهله وهو يحتسبها صدقة).

وروى الشيخان من حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلا أجرت عليها، حتى اللقمة ترفعها إلى في أمرأتك).

وفي صحيح مسلم عن ثوبان –رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أفضل الدنانير دينار ينفقه الرجل على عياله، ودينار ينفقه على فرس في سبيل الله، ودينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله).

من منا حين ينام ويقوم يستحضر النية الصالحة بأن نومته لراحته التي تعينه على أداء واجباته الدينية والدنيوية.

في الصحيحين أن معاذا وأبا موسى –رضي الله عنهما- كانا قاضيين في اليمن بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم للقضاء فيها، واليمن مخلافان، فكان معاذ يختص في قضايا النجود وما ارتفع من بلاد اليمن، وأبو موسى في التهائم وما انخفض من بلاد اليمن، وكانا يتزاوران ويتعاهدان بعضهما، فكان من حديثهما أن سأل أبو موسى –رضي الله عنه- معاذا –رضي الله عنه- كيف تقرأ القرآن؟ فقال أنام أول الليل، فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي.

من منا حين يرغب في الزواج مثلا يكون مستحضرا لنية أو نيات صالحات، فقضاء للشهوة بالمباح وإعفاف للنفس والغير، وتكثير للنسل وامتثال للأمر النبوي، وكم في الزواج من البر والخير إذا استحضر ذلك طالبه.

من منا حين يذهب إلى مكان عمله كل يوم يستحضر فضل سعيه في الرزق، ليحصل على المال بطريق مباح، فيكفي نفسه وأهله وولده، ويؤدي الأمانة المناطة على عاتقه، بالانضباط في عمله حضورا وانصرافا، وأداء لحق صاحب العمل، وبالصبر على أذى الناس، وتفريج كرب المسلمين، إلى غير ذلك من الفضائل العظيمة التي يؤجر صاحبها عليها إذا كان مستحضر النية الصالحة لله تعالى.

كثير من الناس يلتزم بالأنظمة في سيره في الطرقات وفي تعاملاته ومراجعاته، وذلك اتقاء للمخالفات وتجنبا للعقوبات أو الغرامات، لكن الموفق من الناس من يستحضر معنى وجوب الطاعة لإمام المسلمين الذي وضع هذه الأنظمة وأمر بالالتزام بها، والطاعة لولي الأمر معنى عظيم وهو جزء من شريعتنا وعقيدتنا.

في البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- : أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله وجهاد في سبيله. قلت فأي الرقاب أفضل؟ قال: أعلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها. قلت فإن لم أفعل؟ قال تعين ضائعا "أو صانعا" أو تصنع لأخرق. قلت فإن لم أفعل؟ قال: تدع الناس من الشر فإنها صدقة تصدق بها على نفسك.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولك من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا وحده لا شريك تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. أما بعد ...

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنه من المعلوم في شريعتنا عظيم فضل الله وسعته ورحمته، وأن الله تعالى قد يغفر الذنوب العظيمة بأفعال يسيرة صغيرة، إلا أن صاحبها كان مستحضرا النية فيها لله تعالى.

روى مسلم عن عبد الله بن عمرو –رضي الله عنهما- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين). وفي رواية: (مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم فأُدخل الجنة).

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (بينما كلب يطيف بركية، كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فسقته فغفر لها).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- معلقاً على حديث البغي التي سقت الكلب، وحديث الرجل الذي أماط الأذى عن الطريق: (فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها، وإلا فليس كل بغي سقت كلباً يغفر لها).

وقال ابن القيم -رحمه الله- : (فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض).

في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم).

اللهم اهدنا لأحسن الأقوال والأفعال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت

اللهم صل وسلم وزد وبارك، على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، ومن سار على نهجهم وسلك طريقتهم إلى يوم الدين.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين

المرفقات

1708013478_وإنما لكل امرئ ما نوى.docx

1708013490_وإنما لكل امرئ ما نوى.pdf

المشاهدات 875 | التعليقات 0