وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [1] خُلُقُهُ ﷺ مَعَ الأَطْفَالِ [2] 1442/5/3هـ

عبد الله بن علي الطريف
1442/04/25 - 2020/12/10 01:00AM
الخُطْبَةُ الأُولَى:

أما بعد أيها الإخوة: لقد اختار اللهُ تعالى نبيَهُ محمداً واصطفَاه ليكونَ خاتمَ النبيّين وأفضلَهم، ويكونَ قدوةً للعالمين أجمعين، فقالَ عزَ من قائلٍ: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّـهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21] في هذه الآيةِ أمرَ اللهُ تعالى عبادَهُ المؤمنين في كلِ زمانٍ ومكانٍ بالتأسي بالرسولِ تأسيًا مُطلقًا.

وجعلَ سبحانَهُ الاهتداءَ الحقيقي باتباعِهِ فقال: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158].

وقد كان خيرَ معلمٍ، وكانت وعشرتُه لأهلِه أفضلَ عِشْرَةً، ومعاملتُه لعمومِ الناسِ أفضلَ معاملة، وكان يُغمرُ الأطفال بعطفِهِ وحنانِه، ومع ذلك كان حريصاً على حُسن تربيتهم التربيةَ المثلى المحفوفة بلطفه ورفقه..    

أيها الإخوة: نعود لإكمال حديثٍ بدأنَه، ونبحرُ في بحرِ حُسنِ خُلُقِهِ وجميل تعامله وتربيته التي نجزم بأنها خَصلةٌ من خصاله الكريمة..

فقد كان يُداعبُ الأطفالَ ويعطفُ عليهم، ويلاطِفُهم، ومن ذلك ما رواه البخاري وغيره قال: قَالَ أَبُو التَّيَّاحِ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ لَيُخَالِطُنَا، وَكَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ -قَالَ: أَحْسِبُهُ- فَطِيمًا، وَكَانَ النَّبِيُّ إِذَا جَاءَ قَالَ: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ» وفي رواية: «وَكَانَ لَهُ نُغَرٌ يَلْعَبُ بِهِ فَمَاتَ؛ فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ذَاتَ يَوْمٍ فَرَآهُ حَزِينًا فَقَالَ: «مَا شَأنُهُ؟» قَالُوا: مَاتَ نُغَرُهُ، فَقَالَ: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟» [وأَبُو عُمَيْرٍ: هو أخٌ لأَنسٍ من أمِهِ أمِ سليم ابنٌ لأبي طلحة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم] والنُّغَيْرُ [مُصَغْرُ نَغْر هُوَ طَائِرٌ يُشْبِهُ الْعُصْفُور، أَحْمَرَ الْمِنْقَارِ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَهُ الْبُلْبُلَ] وقولُه: أَحْسِبُهُ كانَ فَطِيماً أَي أنَّه بدأ يُدرك. قال ابن بطال: والكنيةُ للصغيرِ إنما هي على معنى الكرامةِ له، والتفاؤلِ بأن يكونَ أباً ويكون له ابن..

ومن لطفه وحسن خلقه أنه كان يلاعبُ ربيبتَهُ زينب بنت أبي سلمة فيناديها بتصغير اسمها إيناساً لها وترفقاً بها؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ يُلاعِبُ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا زُوَيْنِبُ، يَا زُوَيْنِبُ مِرَارًا» رواه الضياء المقدسي وصححه الألباني.

وكان يُوجدُ فُرصاً للعبِ الأطفال، ويسعى في تمكينهم من اللعبِ مع أقرانِهم الأطفال؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِيِّ وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي، «فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ، فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِي» رواه البخاري، والمعنى أنه يرسلُ صواحبَها ليلعبنَ معها تقديراً منه لحداثَةِ سنها؛ فقد كانت صغيرة لما انتقلت إلى بيت الزوجية، فقد كانت بنت تسع سنين، فكان من لطفه إشباع حاجته المرحلة العمرية، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُومُ عَلَى بَابِ حُجْرَتِي، وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ، فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ، لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى لَعِبِهِمْ، ثُمَّ يَقُومُ مِنْ أَجْلِي، حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّتِي أَنْصَرِفُ، فَاقْدِرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ، حَرِيصَةً عَلَى اللهْوِ» رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم..

أيها الإخوة: ومن عظيم لطفه ورفقه بالأطفال أنه يتلطف بهم حتى وهو في محرابِهِ يصلي بالناس، أو وَهُوَ على منبره يعظُ الناس ويرشدُهم، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ فِي إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعِشَاءِ وَهُوَ حَامِلٌ حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ فَوَضَعَهُ، ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ فَصَلَّى فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا، قَالَ أَبِي: فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَرَجَعْتُ إِلَى سُجُودِي، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ الصَّلَاةَ قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ، قَالَ: «كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ» رواه النسائي وصححه الألباني..

وَعَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَخْطُبُنَا إِذْ جَاءَ الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ مِنَ المِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا وَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «صَدَقَ اللَّهُ ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15] نَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا.» رواه الترمذي والنسائي وأحمد وصححه الألباني. كل هذه المواقف وغيرها كثير يجعلك توقن أن النَّبِيَّ مربي الأمة الأول وسيدها.. فصلوات ربي وسلامه عليه...

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُ بِإِحْسَانٍ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْإِخْوَةُ اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَتَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ نَبِيْكُمْ تُفْلِحُوا أَلَا فمعَ لطفه بالأطفال وملاعبتهم لهم وحرصه على إشباع حاجاتهم في مرحلة الطفولة، كان يحترمهم ويثبت حقوقهم في مجالس الكبار، ومن ذلك مَا وَرَدَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ بِقَدَحٍ، فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ أَصْغَرُ القَوْمِ [هو عبدالله بن عباس وقيل الفضل رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم] وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ، فَقَالَ: «يَا غُلاَمُ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ الأَشْيَاخَ» [أي الكبار في العمر] قَالَ: مَا كُنْتُ لِأُوثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ. رواه البخاري ومسلم.

وكانَ يُحَذِرُ من الكذب على الأطفال تقديراً لمقامهم، وتعويداً لهم على الصدق، ومن ذلك ما روى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا، فَقَالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ؟» قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ» رواه أبو داود وحسنه الألباني.

وكان يعلم الأطفال، ويوجههم ولا يأنف من الأكل معهم، وإن رأى منهم مخالفة للأدب، وجههم بلطف ورفق ولين فَعَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ غُلاَمًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَا غُلاَمُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ.. رواه البخاري

وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِتُّ عِنْدَ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَ، فَقَامَ النَّبِيُّ فَقَامَ يُصَلِّي، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِأُذُنِي فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ. رواه البخاري

وَقَالَ أَنَسٌ: أَرْسَلَنِي النَّبِيُّ يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لَا أَذْهَبُ، وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللهِ فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: «يَا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟» قَالَ قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ، يَا رَسُولَ اللهِ. رواه مسلم.

الله.. كم من معاني الرحمة واللطف وحسن التوجيه وبراعة المتابعة بهذا المواقف.. وصلوا وسلموا....

 

 
 
المشاهدات 1051 | التعليقات 2

جزاك الله خيرا


السلام عليكم 

غيرت تاريخ الإلقاء لأنني لم القها في التاريخ الذي ذكرت استجابة لتعميم معالي الوزير وفقه الله لكل خير..