(وأن إلى ربك المنتهى)
تركي بن عبدالله الميمان
الخُطْبَةُ الأُوْلَى
إِنَّ الحَمْدَ لِلهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيه، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوْصِيْكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ؛ فَهِيَ سَبَبٌ لِولَايَةِ الرَّحْمَنِ، وَنَفْي الخَوْفِ والأَحْزَانِ! ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾.
عباد الله: إِنَّهُ كَنْزٌ ثَمِين، وَسِرٌّ دَفِين، لا يَسْتَخْرِجُهُ إِلَّا المُتَدَبِّرُون، وَلا يَكْشِفُهُ إِلَّا المُتَفَكِّرُوْن؛ إِنَّهُ في قَوْلِهِ ﷻ: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ المُنْتَهَى﴾. قال ابنُ القَيِّم: (تَحْتَ هَذِهِ الآيَة سِرٌّ عَظِيمٌ مِنْأَسْرَارِ التَّوْحِيدِ، وَهُوَ أَنَّ القَلْبَ لا يَسْتَقِرُّ ولا يَطْمَئِنُّ إِلَّا بِالوُصُولِ إِلى الله! وَكُلُّ مَا سِوَاهُ؛ فَمُرَادٌ لِغَيْرِهِ، وَكُلُّ مُرَادٍ -لُمْ يُرَدْ لِأَجْلِهِ- فَهُوَ مُضْمَحِلٌّ مُنْقَطِعٌ!).
﴿وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ المُنْتَهى﴾؛ فَهُوَ المَقْصُودُ في جَمِيعِ الحَوَائِجِ؛ لِأَنَّهُ الوَاحِدُ الأَحَد، لا يَحْتَاجُ إلى أَحَد، وَيَحْتَاجُ إِليهِ كُلُّ أَحَد! قال U: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ﴾. قال المُفَسِّرُون: (الصَّمَدُ: هُوَالسَيِّدُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ أَحَد، وَيَصْمُدُ إِلَيْهِ النَّاسُ في حَوَائِجِهِم، والَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ السُّؤْدُد).
﴿وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ المُنْتَهى﴾؛ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ المُنْتَهَى إلى اثْنَيْن؛ كَمَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ المَخْلُوقَاتِ مِنِ اثْنَيْن!﴿وَقَالَ اللهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾.
وَعُلُومُ البَشَرِ وَعُقُوْلُهُمْ؛ تَنْتَهِي عِنْدَ عِلْمِ اللهِ وعَظَمَتِهِ! وَلا تَزَالُالأَفْكَارُ تَسِيرُ في حَقَائِقِ الأَشْيَاءِ؛ حَتَّى إِذَا وَصَلَتْ إلى ذَاتِاللهِ U؛ وَقَفَتْ وَانْتَهَى سَيْرُهَا؛ لِأَنَّ اللهَ أَعْظَمُ وأَجَلُّ مِنْ أَنْتُحِيطَ بِهِ عُقُولُ البَشَر! قال ﷺ: (يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟! فَإِذَا بَلَغَهُ؛ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ، وَلْيَنْتَهِ). قال السِّعْدِي: (إِنَّاللهَ جَعَلَ لِلْأَفْكَارِ وَالعُقُولِ حَدًّا تَنْتَهِي إِلَيْهِ وَلَا تَتَجَاوَزُهُ؛ فَإِذَا وَصَلَتِ العُقُولُ إِلى اللهِ؛ وَقَفَتْوَانْتَهَتْ؛ فَإِنَّهُ الأَوَّلُ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيء، وَالآخِرُالَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيء!).
﴿وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ المُنْتَهى﴾؛ فَهُوَ نِهَايَةُ كُلِّ مَطْلُوبٍ. وَكُلُّ مَحْبُوبٍ لا يُحَبُّ لِأَجْلِهِ؛ فَمَحَبَّتُهُ عَنَاءٌ وَعَذَابٌ، وَكُلُّ عَمَلٍ لا يُرَادُ لِأَجْلِهِ؛فَهُوَ ضَائِعٌ وَبَاطِلٌ! ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهُ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ﴾.
وَلا بُدَّ لِلْقَلْبِ مِنْ مَطْلُوبٍ يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَيَطْمَئِنُّ بِه؛ وَهَذَا لا يَكُونُ إِلَّا للهِ! ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.
﴿وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ المُنْتَهى﴾؛ فَلَا يَسْتَقِرُّ القَلْبُ، حَتَّى يَصِلَ إلى الرَّبِّ!قال I: ﴿إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ﴾. يقولُ ابنُ القَيِّم: (اللهُ غَايَةُ كُلِّ مَطْلَبٍ، وَلَيْسَ وَرَاءَ اللهِ مَرْمَى، وَلَا دُونَهُ مُسْتَقَرٌّ، وَلَا تَقَرُّ الْعَيْنُ بِغَيْرِهِ الْبَتَّةَ!).
﴿وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ المُنْتَهى﴾؛ فَكُلُّ قَلْبٍ لا يَصِلُ إِلَيه؛ فَهُوَ شَقِيٌّ مَحْجُوْبٌ عَنِ السَّعَادَةِ، مَهْمَا بَلَغَ النِّهَايَةَ في نَعِيمِ الدُّنيا! كما قال U: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾.
والغَايَاتُ وَالكَمَالاتُ؛ كُلُّهَا تَنْتَهِي إلى رَبِّ البَرِيَّات؛ فَهُوَ المُتَفَرِّدُبِالكَمَالِ وَالجَمَالِ وَالجَلَالِ! ﴿فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾.
وَإَذَا كانَ المُنْتَهَى إِلَى الله؛ فَاجْعَلْهُ غَايَتَكَ الَّتِي لا غَايَةَ لَكَسِوَاه! قال ابنُ القَيّم: (فَكَمَا انْتَهَتْ إِلَيهِ الأَوَاخِر؛ فَاجْعَلْنِهَايَتَكَ إِلَيْهِ، فـ﴿إِنَّ إِلى رَبِّكَ المُنْتَهى﴾، وَإِلَيْهِ انْتَهَتِ الغَايَاتُ، فَكَمَا كانَ وَاحِدًا في إِيْجَادِكَ؛ فَاجْعَلْهُ وَاحِدًا في تَأَلُّهِكَ وَعُبُوْدِيَّتِكَ، وَكَمَا ابْتَدَأَ وُجُوْدَكَ وَخَلْقَكَ؛فَاجْعَلْهُ نِهَايَةَ إِرَادَتِكَ وَحُبِّك!).
﴿وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ المُنْتَهى﴾ في كَشْفِ الضُّرِّ، وَجَلْبِ النَّفْعِ! ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
يقول ابنُ عُثَيْمِين: (وَكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ انْعَقَدَتْ لَهُ أَسْبَابُالرِّزْقِ، وَإِذَا هُوَ يُحْرَمُ مِنْهَا في آخِرِ لَحْظَةٍ؛ إِذًا لا يَجْلِبُ لَكَالخَيْرَ إِلَّا الله، وَلَا يَمْنَعُ عَنْكَ الضَّرَرَ إِلَّا الله، فَاجْعَلْهُمُنْتَهَاكَ في كُلِّ أُمُوْرِكَ).
وَإِذَا كانَ المُنْتَهَى إِلَى الله؛ فَأَخْلِصْ لَهُ العَمَل؛ فَإنَّ (مَا أُرِيْدَ بِهِوَجْهُ اللهِ يَبْقَى)؛ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالبَاقِي الذي لا يَفْنَى!
﴿وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ المُنْتَهى﴾: إِنَّهَا قَاعِدَةٌ عَظِيْمَةٌ: تُحَدِّدُ وِجْهَةَ المُسْلِمِ، وَتُوَجِّهُ بُوْصَلَةَ قَلْبِهِ إلى رَبِّه! قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.
﴿وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ المُنْتَهى﴾: وَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الإِنْسَانَ يَنْتَهِي عِنْدَحُدُودِ الله، وَيَقِفُ عِنْدَهَا؛ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِفَلَا تَعْتَدُوها﴾.
﴿وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ المُنْتَهى﴾؛ فَمَهْمَا طَالَتِ الدُّنْيا؛ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْنِهَايَةٍ! ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾.
﴿وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ المُنْتَهى﴾؛ فَمُنْتَهَى الْخَلْقِ وَمَصِيرُهُمْ إِلَى اللهِ، وَهُوَ مُجَازِيْهِمْ بِأَعْمَالِهِم! ﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الحَقِّ أَلَا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ﴾.
﴿وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ المُنْتَهى﴾: إِنَّهَا تَسْلِيَةٌ لَكَ أَيُّهَا المَحْزُوْنُ المَظْلُوم؛حِينَ تَعْلَمُ أَنَّ المُنْتَهَى إلى الحَكَمِ العَدْلِ، وَسَيَقْتَصُّ مِمَّنْظَلَمَكَ!
إلَى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي
وَعِنْدَ اللَّهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُومُ
سَتَعْلَمُ فِي الْمَعَادِ إنِ الْتَقَيْنَا
غَدًا عِنْدَ الْمَلِيكِ مَنِ الظَّلُومُ
وَإِذَا عَلِمَ الإِنْسَانُ، أَنَّ المُنْتَهَى إلى الرَّحْمَنِ؛ فَقَدِ اخْتَصَرَ الطَّرِيقَ عَلَى نَفْسِهِ؛ فَلَنْ يَتَعَلَّقَ بِالخَلَائِقِ، وَإِنَّمَا يَفِرُّ -مَبَاشَرَةً-إلى الواحِدِ الخَالِقِ، وَلِسَانُ حَالِهِ يَقُولُ: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾.
أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِه، وَأَشْهَدُ أَنْ لاإِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه.
أَمَّا بَعْدُ: فَمَنْ أَيْقَنَ أَنَّ المُنْتَهى إلى اللهِ؛ فَلَنْ يَثِقَبِالأَسْبَابِ، كما أَنَّهُ لَا يُسْقِطُهَا؛ فَإِنَّ الأَسْبَابَ تَنْتَهِي لا مَحَالَةَ، والتَّعَلُّقُ بِهَا؛ تَعَلُّقٌ بِمَا يَنْعَدِمُ. وَالتَّعَلُّق بِاللهِ U؛تَعَلُّقٌ بِالحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ! ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ* لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.
*******
* اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِيْن.
* اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمُوْمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ المَكْرُوْبِين.
* اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُوْرِنَا، وَوَفِّقْ (وَلِيَّ أَمْرِنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ) لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِمَا لِلْبِرِّ والتَّقْوَى.
* عِبَادَ الله: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.
* فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ﴿وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.