وألحقني بالصالحين ... د. محمد عبد الله السحيم

علي القرني
1442/11/21 - 2021/07/01 10:44AM

أيها المؤمنون!

الصلاح نعمة ربانية سابغة، يهبها مِن عباده مَن سبقت له منه الحسنى. ومتى ظفر العبد بذلك الهناء فإن بحار المنن وسوابل مزنه تفيض عليه بالعطاء الغدق والصب الطيب مما لا يحاط عدّه أو يحصر وصفه. فلا نعمة تعدل نعمة الصلاح؛ ولذا كان لزاماً على كل مكلف أن يسأل ربه إياها سبع عشرة مرة كل يوم وليلة؛ حين يستهديه صراط المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. يطلبونها من مولاهم حين علموا أنها اجتباء رباني وفضل إلهي؛ لا يوجبه عمل ولا استحقاق، كما قال تعالى: ﴿ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [القلم: 50]. وكان الأنبياء يطلبونها بلسان الذل والافتقار لمولاهم، كما دعا إبراهيم ويوسف - عليهما الصلاة والسلام -: ﴿ وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101]. ولم تقف همتهم في ذلك الخير على حدود النفس، بل سمت ليشمل نعيمُ الصلاح ذريتهم، كما دعا إبراهيم - عليه السلام - على كبر سن وعقم زوج فقال: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الصافات: 100]. وطموح إيمان الصادقين يكسرهم لرب العالمين أن يدخلهم مع القوم الصالحين: ﴿ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ﴾ [المائدة: 84].

 

أيها المسلمون!

إن للصلاح ثماراً يانعة المنظر حلوة المخبر، تبدأ مع العبد حين يغدو صالحاً، وتبقى مدرارة عليه بعد موته، ويحظى بالجزاء العظيم عليها يوم الدين. فولاية الله للعبد بقدر صلاحه، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾ [الأعراف: 196]، ومن كان الله وليه فما ترونه صانعاً به؟! والعبد الصالح في حفظ من الله ومنعة غدت مثلاً يُنشَد، فقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عند نومه: " باسمك رب وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين " رواه البخاري ومسلم. وما يزال لطف الله بالعبد الصالح حفياً حتى ما يراه في منامه أو يُرى له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا يراها العبد الصالح أو تُرى له " رواه مسلم. والعبد الصالح بشر؛ يضعف ويهفو، والتوبة أرجى ما يكون قبولها إن قارنت الصلاح، كما قال تعالى: ﴿ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 25]. ويالهناء العبد الصالحِ حين تصعد ملايين دعوات المصلين المكرورة بطلب السلامة له كل يوم وليلة خمس مرات على الحد الأدنى، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا جلس أحدكم في الصلاة، فليقل: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين، فإذا قالها، أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض " رواه مسلم. وهذا من أسباب عدم انقطاع أجر الصالحين بعد موتهم، كما قال الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾ [فصلت: 8]. والصلاح مركب يُدخل الله به العبد عالم رحمته التي وسعت كل شيء وتنتهي بهم إلى جنة النعيم، كما قال تعالى: ﴿ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الأنبياء: 86]. والصلاح سبب وراثة الأرض وتمكّن الملك، كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 105، 106]. وبركة صلاح الولد تنال والده الميت، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " وذكر منها: " أو ولد صالح يدعو له " رواه مسلم. وكذلك فإن بركة صلاح الوالد يرجى نوالها للولد، كما قال تعالى على لسان الخضر - عليه السلام -: ﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ﴾ [الكهف: 82]. بل قد تمتد تلك البركة إلى الغير، يقول محمد بن المنكدر: «إن الله - عز وجل - ليحفظ بحفظ الرجل الصالح ولدَه وولدَ ولده ودويرته التي فيها والدويرات حوله فما يزالون في حفظ من الله - عز وجل - وستر ». والموت للعبد الصالح مستراح حين كان لغيره فجيعة وحزناً، قال أبو قتادة - رضي الله عنه -: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فمُرَّ عليه بجنازة فقال: " مستريح ومستراح منه ". قال: قلنا: أي رسول الله، ما مستريح؟ ومستراح منه؟ قال: " العبد الصالح يستريح من نصب الدنيا وهمها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب " رواه مسلم وهذا لفظ أحمد. وفي ساعة الموت تكون بشارة الجنة للعبد الصالح، كما قال تعالى: ﴿ وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30].

 

الخطبة الثانية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد، فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله...

 

أيها المؤمنون!

إن بنيان الصلاح الشامخ يقوم على ركنين اثنين؛ القيام بحق الله، والقيام بحق الخلق. ويأتي في مقدم حقوق الله الإيمانُ، واتباع القرآن، والصلاة، والأمر بالعروف والنهي عن المنكر، والمسارعة في الخيرات، كما قال تعالى: ﴿ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 113، 114]. وكذلك التوبة، كما قال تعالى: ﴿ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 25]. وهكذا التواضع وهضم النفس في حق الله وعدم تزكيتها، تأملوا دعاء إبراهيم ويوسف - عليهما السلام -: ﴿ وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101]؛ يالروعة الافتقار! يطلبون من ربهم إلحاقهم في موكب الصالحين وهم روّاده وأئمته! وشأن الصالحين رعاية حقوق الخلق والسلامة من ظلمهم وبخسهم حقهم، كما قال العبد الصالح لموسى - عليه السلام - حين تعاقد معه على استئجاره نظير إنكاحه ابنته؛ فطمأنه على وفائه حقه قائلاً: ﴿ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [القصص: 27] الذين يعرفون حق الخلق ويوفونه.

 

أيها المؤمنون!

اظفروا بالصلاح ما دام العمر باقياً؛ فإن طلب استدراكه بعد الموت أمنية الخاسرين؛ ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 9 - 11].



المشاهدات 1572 | التعليقات 0