{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
محمد بن عبدالله التميمي
الخطبة الأولى
الحمد لله المحسنِ الوهّاب، هدانا للإسلام الدينِ الحقِّ بلا ارتياب، وخصَّنا بأفضلِ رسولٍ وأحسنِ كتاب، وأحسَنَ خَلْقَنَا وسوَّانا، وأطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا فله الحمد كما يحبُّ ربنا ويرضى، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ربُّ الأرباب، وأشهد ان محمدًا عبدُه ورسولُه المبعوثِ للثَّقَلَين وخاتمِ النبيِّين فلا نبيَّ بعده إلى يومِ الحساب، صلى الله عليه وعلى الآلِ والأصحاب، وعلى من تبعهم بإحسان، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، تقوًى تَحْجُزُ عن أسباب العقاب، وتَحُثُّ على التزوُّدِ من حسنِ الثواب، ويُعظِمُ توكُّلَه على الله تعالى فلا يتعمد على الأسباب، فيكون حريًّا بدخول الجنة بلا حِساب، وتستُرُه عن النار فيَسلَم من العذاب {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
أيها المؤمنون.. إنَّ اللهَ تعالى مُحسِنٌ متَّصِفٌ بالإحسان، وأمرَ عبادَه بالإحسان، {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} قالله تعالى قد أتقن الخلق وأحكمه {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}، وأنعم على خلقه أجمعين: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}، إنه لا يخلو موجودٌ من إحسانِه طرفةَ عين، فمِنْهُ الإيجادُ والإمداد، بِكمالِ الرحمة وسعةِ البر والإحسان، وكثرةِ المواهبِ والرأفةِ والرحمةِ والحنان، فجميعُ ما حَصَل لعباده من المنافع والمحابّ والمسارّ، وما صَرَف عنهم من المكاره والمخاوف والأخطار والمضار، فَمِن رحمته وجوده وكرمه وفضله، وربما أجرى عليهم مكاره تُوْصِلْهُم إلى ما يُحِبُّون فذاك من إحسانه بهم ورحمته الواصلةِ لهم.
عباد الله.. إن اللهَ جلَّ وعلا يُحبُّ مِن خلقه أنْ يَتقربوا إليه بمقتضى معاني أسمائه، فهو الرحمنُ يُحِبُّ الرُّحَماء، الكريمُ يُحِبُّ الكُرَمَاء، المحسنُ يُحِبُّ المحسنين، قال جلَّ ذِكرُه: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وفي الحديث أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله مُحْسِنٌ يُحِبُّ الإِحْسانَ» وذلك بإجادة العمل وإتقانه وإخلاصه، إحسانٌ في عبادة الله، وإحسانٌ إلى عباد الله، فالإحسان رُتبةٌ في الدين فوق رُتبةِ الإسلام والإيمان، قال صلى الله عليه وسلم في بيان ما الإحسان: «أن تعبُدَ اللهَ كأنَّك تراهُ، فإن لم تكُن تراهُ فإنه يراكَ» رواه مسلم، فيَعبدُ اللهَ على المشاهدة -كأنه يرى الله- فإن لم يكن فعلى المراقبة -مستحضرا مراقبة الله ورؤيته له-، وإذا حسُنَ مُعتقدُ العبدِ ضُوعِفَت أجورُه، قال عليه الصلاة والسلام: «إذا أحسنَ أحدُكم إسلامَه فكلُّ حسنةٍ يعملُها تُكتَبُ له بعشر أمثالِها إلى سبعمائة ضِعفٍ، وكلُّ سيئةٍ يعملُها تُكتَبُ له بمثلِها»؛ متفق عليه.
ويُحسنُ المرء عبادتَه فيأتي بها كما أُمِر، فيَعظُمُ له الأجر «فما من امرئٍ مُسلمٍ تحضُرُه صلاةٌ مكتوبةٌ، فيُحسِنُ وضوءَها وخُشوعَها ورُكوعَها إلا كانت كفَّارةً لما قبلَها من الذنوبِ ما لم يُؤتِ كبيرةً، وذلك الدهرَ كلَّه»؛ رواه مسلم. «ومن توضَّأَ فأحسنَ الوضوءَ ثم أتَى الجُمُعةَ فاستمعَ وأنصَتَ؛ غُفِرَ له ما بينَه وبين الجُمعة وزيادةُ ثلاثة أيام»؛ رواه مسلم، «وإقامةُ الصفِّ من حُسن الصلاة»؛ متفق عليه.
وقد أمر الله بالإنفاق في سبيله في طرق الخير وحذر من الإمساك، فإنه الهلاك، فما أَنْفَقَ في سبيل الله فهو أَبْقَى لماله، وما أَمْسك عن واجبٍ فهو أحرى لهلاكه، وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ .
والإحسانُ في الصيام مكفِّرٌ للآثام، مُبَعِّدٌ عن عواقبها العظام، قال صلى الله عليه وسلم: «من صامَ رمضان إيمانًا واحتِسابًا؛ غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه» أخرجه البخاري ومسلم، وفيهما: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» أي: سبعين سنة.
وأما الإحسانُ إلى عباد الله -يا عبادَ الله- فهو بأن يُحسِنَ إلى الناس ببدنه وماله وجاهه فيقضي حوائجَهم، من تفريجِ كرباتِهم، وإزالةِ شدائدِهم، وعيادةِ مريضِهم، وتشييعِ ميِّتِهم، وإرشادِ ضالِّهم -ضالِّ الهدى والطريق-، فهو لكلِّ أحدٍ يُحسِن، حتى البهائم لها حقٌّ في الإحسان، قال عليه الصلاة والسلام: «إن اللهَ كتبَ الإحسانَ على كل شيءٍ فَإِذا قَتَلْتُمْ فأَحْسِنُوا القِتْلَةَ وَإِذا ذَبَحْتُمْ فأَحْسِنوا الذِّبْحَةَ ولْيُحِدَّ أحَدُكمْ شَفْرَتَهُ ولْيُرحْ ذَبيحَتَهُ» رواه مسلم.
والدعوةُ إلى الله على بصيرةٍ أحسنُ القول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}، والقولُ الحسَنُ داعٍ لكلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ وعَمَلٍ صالح فإنَّ مَن مَلَكَ لِسَانَه مَلَكَ جميعَ أَمْرَه {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}، وحُسنُ الخُلُق يرقِّي المؤمنَ لأعلى المنازِل في الجنان، قال عليه الصلاة والسلام: «أنا زعيمٌ ببيتٍ في أعلى الجنة لمن حسُنَ خُلُقُه»؛ رواه أبو داود.
والأولاد فتنة ابتلاء مأمور فيهم بالرعاية والاعتناء، و«من ابتُلِيَ من البنات بشيءٍ فأحسنَ إليهنَّ كُنَّ له سِترًا من النار»؛ متفق عليه.
عباد الله.. إن أحسنَ الحديثِ وأصدقَه: كتابُ الله -القرآنُ الكريم-، الذي نزل به جبريلُ رسولُه الكريم، على نبينا محمدٍ الأمينِ الكريم، وهو في صحفٍ مكرَّمَة، بأيدي الملائكةِ الكرام، والماهِرُ به مع السَّفَرة الكِرامِ البَرَرة، فليُكْرِم كلُّ أحدٍ نفسَه بتلاوة القرآن، والاهتداء بما فيه من معان، ويحفظَ ما استطاع، ويُراجعَ ما أخذ فإنْ ترَكَه ضاع، والذي ليس في جوفِه شيءٌ من القرآنِ كالبيتِ الخَرِبِ. رواه الترمذيُّ وصححه.
فمَنِ اتَّصَفَ بالإحسان، كان في معيَّة الرحمن، يُسدِّدُه ويُرشِدُه ويُعيْنُه على كلِّ أموره في الدنيا، ثم يُنِيْلُه كريم العطايا في الأخرى {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} فما جزاءُ مَن أحسنَ في الدنيا إلا أن يُحسِنَ اللهُ إليه في الآخرة {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المُسلمين من كل ذنبٍ.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا. أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وأحسنوا في عبادةِ الله، وإلى عبادِ الله، فالإسلامُ إحسانُ عبادةٍ وحُسنُ مُعاملةٍ، والنفوسُ إذا عظُمَت طلبَت المعالِي وأحسنَت ظَنَّها بالباري، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي»، متفق عليه، وعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَبْلَ وَفَاتِهِ بِثَلَاثٍ، يَقُولُ: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللهِ الظَّنَّ» أخرجه مسلم.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه الكريم، فقال في مُحكَم التنزيل: {إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا}.
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وارضَ ربَّنا عنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ عهده لهُداك، واجعَل عملَهما في رِضاك. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
المرفقات
1685565423_وأحسنوا إن الله يحب المحسنين.doc
1685565423_وأحسنوا إن الله يحب المحسنين.pdf