هيّا اقترب!
سامي بن محمد العمر
هيا اقترب
هيا اقترب؛ فقد فتح لك الباب وهيئت لك الأسباب.
هيا اقترب، لأقرب موضع بينك وبين مالك الملك ومسبب الأسباب ومحقق الآمال وهادي الحيارى وناصر المستضعفين ومجيب السائلين وغافر الذنب وقابل التوب.
هيا اقترب، ففي ذاك الموضع من رياض من النعيم واللذة والانشراح والسعادة والارتياح؛ ما لا يُستطاع وصفه بلسان ولا خطِّ بنان.
لقد شُرع لكل مسلم أن يدخل على مولاه في لقاء خاص كل يوم خمس مرات؛ يُلقي في أول اللقاء تحية التكبير والتمجيد رافعًا يديه، ثم يستكين مطأطئ الرأس ليبدأ بالثناء والحمد والتبجيل لربه بكلامه سبحانه الذي هو أعظم ثناء يحبه الله ويرتضيه؛ حتى إذا ما انتهى من ذاك الثناء خضع راكعًا لله يعظمه بقالبه وقلبه ولسانه: سبحان ربي العظيم، في كبريائه وجلاله، ويملأ قلبه من هيبة ربه العظيم الذي هو واقف بين يديه الآن؛ فلا تكاد تحمل الخاشعَ قدماه إجلالا لله وتعظيماً.
ثم يؤذن له بالرفع من ركوعه فلا يملك وقد عاد للوقوف أمام الملك سبحانه إلا أن يعود للثناء والحمد والمدح والتبجيل: ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد.
والآن قد حقق العبد مقدمات القرب والاصطفاء، وأتى بمطلوب الدنو من رب الأرض والسماء؛ وبقيت خصلة واحدة: تُظهر مقدارَ إيمان المرء وصدقَ توجهه، وعظيمَ يقينه.
تلك الخصلة التي يتفاوت فيها المصلون كما بين السماء والأرض، فمن قائم بها حق القيام توصله بإذن الله إلى مرافقة نبيه صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى، ومن مهملٍ لها تُرد عليه صلاته وتُرمى في وجهه كالثوب الخلِق.
إنها مرتبة التذلل والخضوع والاستكانة والافتقار والحاجة الشديدة والرغبة الملحة، والتي يبديها المصلي أولاً:
بسجوده لله الذي يحمل كل معاني إذلال النفس وإخضاعها لخالقها ومولاها.
وثانياً: بلسانه اعترافًا بتقصيره، وتصريحًا بخطيئته، واعتذاراً من جرائمه، وطلبًا للعفو والمعذرة، والرحمة والمغفرة.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء». رواه مسلم([1]).
وسرُّ هذا التقريب وفقه هذا الاصطفاء في أمور:
1- أن العبد حين يمرغ وجهه في الأرض وهو أشرف أعضائه؛ ينزع عنه لباس الكبر والعجب والغرور والاختيال، ويلبس رداء الذلة والخضوع والعبادة الذي يحبه الله من عباده ويمدحهم لأجله، ويناديهم به في كتابه فيقول: (يا عبادي).
2- أن الساجد على الأرض والتراب حين التصاقه بها يتذكر بدايته ونهايته؛ ويعلم حقيقة خلقته فيزداد يقينا بضعفه وحاجته لربه {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55].
3- أن الدنيا تصغر في عين الساجد حتى لا يرى منها إلا جزءا يسيرا هو ما بين عينيه فقط، فتظهر لصاحب القلب الحي حقارتُها ودناءتُها في مقابل الآخرة وعظيم ما فيها من الجزاء والحساب.
4- أن السجود هو الموضع الوحيد من الصلاة الذي لا يمكن أن ينشغل فيه المصلي بالتفاتة بصر، أو التفاف عنق، أو عبث بيد، أو حركة برجل؛ فالسجود يلزمك أن تُسكن هذه الأعضاء كلها توقيراً لمن سجدت له وهيبة لمن أذن لها بالدنو والاقتراب.
5- أن الساجد يتذلل لله بجوارحه كلها التي طالما أسرفت في المعاصي وتلطخت بالذنوب، فهي في تلك اللحظة تستكين مع القلب، وتستمطر عفو ربها ومسامحته.
ولا يكمُلُ السجود ولا يصل المرء إلى أعلى درجات الدنو والاقتراب حتى يمتثل هدي الأنبياء والصالحين:
- فيكون مع سجوده خشوع وبكاء {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]
- ويكون في قلب الساجد خوف ورجاء {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9].
- ويكون في حال سجوده متبرئا من العجب والكبر {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15]
بارك الله لي ولكم ..
الخطبة الثانية
أما بعد:
السجود عنوان العبودية، ورمز الخضوع، وموقف من مواقف العز، وموطن من مواطن الكرامة؛ فلا عجب أن يختاره الله أقرب موضع بينه وبين عباده يسمع فيه حاجاتهم ويستجيب دعواتهم، وأن يجعله مكاناً تُشفى فيه النفوس من ضيقها وهمومها {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 97، 98]، وأن يجعل فيه انتصارا على الشيطان، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله. أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمرت بالسجود فأبيت فلي النار»([2]) .
فيا عبد الله: أطل سجودك لله باكيا وداعيا ومسبحا ومتضرعا وخاضعا، وشاكرا.
فلولا محبة الله لسجودك ما خصه بالتكرار من بين أركان الصلاة، ولما جعله سرّها وأفضل أفعالها، ولما صير ما قبله تمهيدا له، وتنظيما للدخول عليه سبحانه وتعالى.
واغتنم أيها الساجد تلك اللحظات التي يشاركك فيها الكون كله {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}[الحج: 18] سجدة
اللهم تقبَّل ركوعنا وسجودنا، وارزقنا سجودًا يرفع عندك درجاتنا وتمحو به سيئاتنا.
([1]) أخرجه: مسلم 2/ 49 (482) (215).
([2]) أخرجه مسلم (81).
المرفقات
1741897258_هيا اقترب.docx
1741897259_هيا اقترب.pdf