هيئة الأمر بالمعروف .. إلى أين ؟! د . أحمد بن صالح الزهراني

أبو عبد الرحمن
1431/11/13 - 2010/10/21 07:48AM
هيئة الأمر بالمعروف .. إلى أين ؟!

استبشرت كغيري كثيراً بالتغييرات الّتي طالت هيئة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وتأملت كما تأمّل غيري أن تكون تلك التغييرات ستسير بالهيئة في الاتجاه الصّحيح، ولا أريد أن أقول هنا إنّ أملي قد خاب؛ فما زال الأمل معقوداً بالله تعالى ومعلقاً به وحده أن ينقذ الله هذا الجهاز وينقذ به..

أمّا من حيث ما يراه البشر، فأقول وللأسف الشديد.. إنّ غاية ما حققه الجهاز منذ التغييرات الّتي جاءت بالشيخ الفاضل "الحمين" على رأس الجهاز هي محاولات مستميتة - أحياناً - لإرضاء اللوبي الصحفي الّذي يثير الغبار حول الهيئة كمبدأ شرعي لا كجهاز إداري.

بعض الكلام يؤلم، ومصدر ألمه أنّه الحقيقة الّتي نحاول لفت الأنظار عنها..

لكن الواقع المؤلم الّذي نعيشه لا يترك لنا فرصة ولا مجالاً للنسيان والتغافل، ففي كلّ جهة تلتفت إليها ستجد آثار التقصير والضّعف الّتي لحقت بالجهاز، في الأسواق والحدائق العامة والشواطئ.. أينما ذهبت ستلاحظ غياب الهيئة أو قلة حضورها أو سلبيتها..

منذ البدء حاول القائمون على الجهاز – جاهدين - استرضاء اللوبي الإعلامي ومن يؤيده داخل الأروقة الرسمية الذين يعارضون الهيئة، مصرين على إحسان الظنّ - المبالغ فيه- في هؤلاء بأنّهم إنّما ينتقدون تجاوزات بعض أفراد الهيئة، مع أنّنا نعرف أنّ غالبيتهم يعترضون على مبدأ الحسبة أصلاً، يصرحون بذلك بلا حياء ولا خجل، فكيف يمكن أن يصل المحتسب إلى رضا مثل هذه الفئة إلاّ بترك شريعة الله؟!

وهذا الضغط مع التهديد المستمر بمحاسبة المتجاوزين أدّى إلى خلق مزيد من حالة الضعف في شخصية المحتسب، والعضو المحتسب في النهاية بشر، لم يكلفه الله أن يضحي بمصدر عيشه واستقراره الأسري لأجل منكر يعرف هو مسبقاً أنّه إذا أخطأ في التعامل معه - ولو بغير قصد - سيكون مصيره النقل خارج نطاق الجغرافيا تحت مُسمّى – مصلحة العمل - هذا إذا لم يجد المحققون سبيلاً إلى إدانته، أمّا إذا كان مخطئاً فسوف يدعو ثبوراً..

قبل فترة كتب الدكتور محمد الهرفي في عكاظ مقالاً تحدث فيه عن ضعف موقف عضو الهيئة أمام امرأة تجاوزت الشرع والعرف والنظام.. ولما اتصل بمسؤولي الهيئة ردّوا بأنّهم عاجزون عن التعامل مع امرأة مثلها..

في الحقيقة ليست المشكلة كونها امرأة فقط، فهذه مشكلة بحد ذاتها، ولكن الخشية أكثر من كونها امرأة من الطبقة المخملية اللواتي يستطيع ذووها التسبب للمحتسب بمشكلة حتى لو لم يكن مخطئاً.
المقربون من الهيئة يعلمون قصة الضابط الّذي أجبر على التقاعد، وزميله الذي نُقل إلى جنوب البلاد، وعضو الهيئة الذي كُفّت يده فقط لأنّهم أخطؤوا وتجرّؤوا وقاموا باستدعاء رجل كان يجلس في مطعم عام مع امرأة كانت سافرة متبرجة لأجل نصحه، فاتضح أنّ الرجل شخصية هامّة له قرابة بشخصية هامة أخرى، فتسبب لأعضاء دورية الهيئة بتلك الإجراءات الخارجة عن النظام.

مشكلة النساء والتعامل معهنّ من أهمّ وأبرز مشاكل الهيئة؛ إذ لا يوجد نظام صريح وواضح يحمي رجل الهيئة عند التعامل مع المرأة، وإنّما اجتهادات شخصية، فإن كانت المرأة ضعيفة أو كان ذووها من ذوي الستر فبها ورحمت، وإلاّ تسبب التعامل معها إمّا إلى (مرمطة) جهاز الهيئة على يد امرأة سيئة الخلق والمسلك أمام الناس، وإمّا إلى تعامل الهيئة معها بطريقة تستغلها جهات لا تريد الهيئة لمزيد من التشويه والتأليب ضدّ الجهاز..

وأنا أقول: إنّ المرأة الّتي تجاهر بالمنكر، وترفض تقبّل النصح والالتزام بالشرع لا تستحق معاملتها كأنثى.

مشكلة أخرى من أبرز مشاكل الهيئة، وهي أنّها الجهاز الوحيد في اعتقادي الّذي يستطيع متنفذون من خارجه التأثير في قراراته، وهذا وإن كان موجوداً منذ وقت، إلاّ أنّه أصبح أكثر بروزاً الآن، وبشكل يثير السخرية، فكلنا نعلم أنّ الرئيس العام بنفسه لا يستطيع تحريك بعض الأسماء من مكانها، ويصدر القرارات الّتي تذهب مع الريح..

ونعلم كذلك أنّ بعض المناطق يسري فيها نظام عُرفي غير الأخرى؛ فمثلاً الأماكن العامة من حق الهيئة بل من واجبها بل هو أساس عملها التواجد فيها، بينما نجد أنّ في منطقة كبيرة من البلاد لا تستطيع الهيئة ممارسة حقها ولا تأدية واجبها بسبب توجيه صادر من جهة إدارية؛ فالكل يعرف أنّ الهيئة مرتبطة مباشرة برئاسة الوزراء، وأنّ أحداً لا يملك الحد من صلاحياتها إلاّ بتوجيه من رئاسة الوزراء وبتعديل النظام، لكن الواقع يقول خلاف ذلك، ونحن كمواطنين نرى بأمّ أعيننا مناطق شاسعة لا تدخلها الهيئة ولا تؤدي فيها واجبها كما ينبغي؛ لأنّ جهة إدارية ما ترفض ذلك، أو تهدّد بالويل والهلاك لمن أخطأ.

وأذكر من خلال عملي لسنوات في جهاز الهيئة أنّ مدينة جدة مثلاً كان يتوافد إليها في الإجازات أعداد هائلة من مناطق أخرى؛ لأنّهم يجدون فيها متنفساً لفعل ما لا يقره الشرع أكثر من مناطقهم.. ولضعف الهيئة فيها مقارنة بغيرها كمنطقة الرياض مثلاً.

وعليه فإنّ أكبر وأهمّ ما ينبغي لرئاسة الهيئة تحقيقه أمران:

أوّلهما: استقلالية جهاز الهيئة عن الجهات الإدارية الأخرى من حيث قراراتها وشخصيتها الاعتباريّة، ومن حيث نظامها، ما دامت في كل هذا لا تخرج عن الصلاحيات والأنظمة المحددة لعملها؛ فالهيئة وحدها تعلم من يصلح لها ومن لا يصلح، وذلك بالتشاور مع الجهات ذات العلاقة.
مثلها في ذلك مثل كل أجهزة الدولة.

فمن غير المعقول أن يُكف عضو عن الميدان؛ لأنّ الحاكم الإداري يرى أنّه غير صالح لممارسة عمله؛ فالحاكم الإداري كغيره له الحق في الاعتراض على عضو هيئة ما عبر مخاطبة مرجعه، لكن لا يجوز لمرجعه الاستجابة لرغبة كلّ أحد بتنحية عضو، أو كفّ يده، أو الحد من صلاحياته، إلاّ بموجب أنظمة الدولة العامة وأنظمة الهيئة الخاصة.

حتى لو أخطأ عضو الهيئة فالخطأ يُقدّر بقدره، ويُعاقب العقوبة النظامية، فليس من الشرع ولا العدل أن تكون عقوبة رجل الهيئة مزاجية كردة فعل لخطأ قام به، ولإسكات الأبواق العلمانية والليبرالية في الإعلام. إنّ إحساس العضو بتربص المسؤولين في الجهة الإدارية له إذا أخطأ، ومعرفته بأنّه يُحاسب محاسبة زائدة عن حد الشرع والعقل، هذا وحده كافٍ لإحباطه والحد من كفاءته، وقلْ مثل ذلك في مجال عمل الهيئة على وجه العموم.

والأمر الآخر هو دعم الفرد المحتسب نفسياً وتقويته بصلاحيات النظام، لا نقبل منه التجاوز، لكن في الوقت ذاته لا نريد منه التردّد في تطبيق النظام.

نريد من جهاز الهيئة إشعار العضو بأنّه ممثّل للجهاز كلّه، الجهاز الّذي يمثل الدولة، فهو بالتالي لا يتصرف وفق مرئياته وذوقه، وإنّما يصدر عن أوامر وصلاحيات منحها له الشرع ومن ثمّ النظام، بمعنى أنّ كل فرد لا يستجيب لتوجيه عضو الهيئة بعد نصحه وإرشاده فلا يجوز تركه ولا التهاون معه ذكراً كان أم أنثى، كبيراً أم صغيراً، ما دمنا نتفق على أنّ عضو الهيئة يمثل سلطة الدولة؛ فالاستهانة به إضافة لكونها استهانة بأمر الله فهي استهانة بسلطة الدولة.

وكما يجب إشعار العضو بذلك يجب إشعار المجتمع كلّه بهذا المعنى، إذا أردنا للهيئة أن تعمل تحت أنظمة وقوانين محددة فيجب أن تسير كلّها وفق الأنماط العصرية المنظّمة، فلا يجوز التعامل مع المعاندين لعمل الهيئة وفق مبدأ التسامح والعفو؛ لأنّ هذا يمكن في الحق الشخصي، أمّا في حق الشرع والدولة فيجب أن يُعاقب ويُشدّد في حق كل شخص يتطاول على أفراد الهيئة، وأن تُقنّن عقوبته لرفع الحرج عن عضو الهيئة الّذي يُضغط عليه بسيف العفو والكرم والتسامح.

لا يجوز أن يتحوّل عمل عضو الهيئة إلى مجرد دعوة، وإلاّ فهذا يمكن أن يفعله الجميع، كلنا يستطيع أن ينصح فإن استُجيب له وإلاّ فإنّه قد أدّى ما عليه، أمّا عضو الهيئة فلا يجوز أن يتزحزح من مكان المنكر حتى ينتهي، هذه وظيفته وهذه مهمته بقوة الشرع والنظام، ومن يحاول تحوير الأمر إلى دعوة ورفق وصبر فهذا في حق المحتسب الذي لا يمثل إلاّ نفسه، أمّا من يمثل الدولة فمثله مثل رجل الشرطة ورجل المرور ومفتش البلدية وغيرهم هو مؤتمن على عمل، ويجب عليه أن يؤديه ولا يتهاون فيه، وكل هذا بلا شكّ يكون كما علّمه الله بالرفق واللين ابتداء نصحاً وتوجيهاً، وتبقى الشدة والحزم مع المعاند المصر على الخطأ.

لقد بذلت الهيئة الكثير لتحسين صورتها، لكني أرى أنّ المبالغة في هذا، بالإضافة لضغط اللوبي الليبرالي في الإعلام أدّى إلى إضعاف الصورة وليس إلى تحسينها، وقد حان الوقت لأن تبذل الهيئة جهداً مضاعفاً في مخاطبة المجتمع بوظيفة المحتسب وصلاحياته النظامية، وحدود ما يجب على كل فرد أن يستجيب فيه لتوجيه المحتسب. يجب أن يشعر الناس من خلال جهد إعلامي وطني بأنّ الهيئة جهاز دولة وليس جهاز دعوة فقط، وأنّ من حق الهيئة أن تتعامل مع المخالفات الشرعية وتبين هذه المخالفات ليحيا من حيّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بيّنة.

صدقاً أقول: إنّ الهيئة، هذا الجهاز الّذي تفخر المملكة بوجوده منذ عهد المؤسس الملك عبد العزيز -طيب الله ثراه- مسؤولية الجميع، كلنا يجب أن يساهم في بقائه وتقويته والإشادة به والتماس العذر لأعضائه إن أخطؤوا بلا قصد، فوالله إني لأعلم يقيناً أنّه لا يوجد في كل أجهزة الدولة -مع احترامي لها جميعاً- من يعمل بجهد وتفانٍ وإخلاص واحتساب مثل أعضاء الهيئة، والله يعلم كم يعملون خارج أوقات عملهم وفي كل وقت، وكم يغيبون عن أسرهم، وكم يفوتون من مصالحهم، وأهم من ذلك كم يلاقون من أذى بعض أفراد المجتمع، كل ذلك من أجل الاحتساب على المنكرات التي لا يعلم حجمها وخطرها إلاّ من يعاينها من أعضاء الهيئة وبقية الأجهزة الأمنية الّتي تشترك مع الهيئة في مجال عملها.
واللهَ أسأل أن يوفق القائمين على هذا الجهاز إلى ما فيه الخير ورفعة شأن هذه الفريضة العظيمة، وأن يهيّئ لهم من أمرهم رشداً وسعة، والله المستعان.
المشاهدات 1446 | التعليقات 0