هوية المسلم (1)

محمد بن إبراهيم الشمسان
1441/12/23 - 2020/08/13 07:32AM
الحمد لله كتب العزةَ لمن أقامَ شرعه واتبعَ دينَه، والذِّلةَ والصغارَ لمن خالفَ أمره وأعرضَ عن سبيلِه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القويُّ العزيز، والحكيمُ العليم، وأشهدُ أن محمدا عبده ورسوله، بشر وأنذر، ودعا وحذر، فمن أطاعه واتبع هديه فاز ونجا وعزّ، ومن تنكبَ طريقَه وخالف أمره خسر وهلك وذلّ، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، فالتقوى هي العزُّ والكرامةُ والفلاحُ في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡ﴾[الحُجُرات:13]، وسُئل رسولُ صلى الله عليه وسلم عَنْ أكرمِ النَّاس؟ فَقَالَ: (أَتْقَاهُمْ) متفق عليه.
أيها المؤمنون:
جاء رجلٌ من اليهود إلى عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ، لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ عِيدًا. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا﴾[المائدة:3]، قَالَ عُمَرُ: "قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ، وَالمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ" أخرجه البخاري.
لقد أدرك هذا اليهوديُّ ما اشتملت عليه هذه الآية من معانٍ يَحِقُّ لأهلها أن يعتزوا بها ويفتخروا؛ ففيها التقريرُ البين والتأكيدُ الواضح على أنّ الله قد أكمل لهذه الأمة دينَها، وأتمّ عليها نعمتَه، ورضي لها الإسلام دينا.
إنه الشرف العظيم عباد الله.. الذي يتقاصر دونه كلُّ شرف.. فنحمدُ الله الذي جعلنا من أهل هذا الدينِ القويم، والكتابِ العظيم، والنبيِّ الكريم، قال ابنُ كثير رحمه الله تعالى: "هَذِهِ أَكْبَرُ نِعَمِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ حَيْثُ أَكْمَلَ تَعَالَى لَهُمْ دِينَهُمْ، فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى دِينٍ غَيْرِهِ، وَلَا إِلَى نَبِيٍّ غَيْرِ نَبِيِّهِمْ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا جَعَلَهُ اللَّهُ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ، وَبَعَثَهُ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَلَا حَلَالَ إِلَّا مَا أَحَلَّهُ، وَلَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ، وَلَا دِينَ إِلَّا مَا شَرَعَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَخْبَرَ بِهِ فَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ لَا كَذِبَ فِيهِ وَلَا خُلْف".ا.هـ.
إن هذه الآيةَ الكريمة تملأُ الفؤاد عزّا وفخرا، وفرحاً واستبشاراً بنعمة الله وفضله ﴿قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ﴾[يونس:58].
لقد كان من أعظمِ ميزات أمة الإسلام في صدر قيامها وأوج حضارتها أنها أمةٌ معتزةٌ بهُويتها مستمسكةٌ بتراثها ولغتها ومجدها، وتاريخِ رجالها وعظمائها.
وكانت محطَ أنظار العالم في ذلك الزمان، بل كان شبابُ النصارى يرون التقدمَ والرقيَ في تقليد المسلمين وتعلمِ لغتهم وعلومِهم، وإليكم هذه الزّفرةَ التي أطلقها أحدُ أساقفة النصارى في تلك القرون يتحسر فيها على حال شباب النصارى في بلاد الأندلس، فكان مما قاله: "إن كثيرين من أبناء ديني يقرؤون أساطيرَ العرب ويتدارسون كتابات المسلمين من الفلاسفة وعلماء الدين، ليس ليدحضوها، وإنما ليتقنوا اللغةَ العربية ويحسنوا التوسل بها حسب التعبير القويم والذوق السليم!".
ثم يكملُ ويقول: "واحسرتاه! إن الشبابَ النصارى جميعَهم اليوم، الذين لمعوا وفاقوا أقرانهم بمواهبهم لا يعرفون سوى لغةِ العرب والأدبِ العربي! إنهم يتعمقون في دراسةِ المراجع العربية باذلين في قراءتها ودراستها كلَّ ما وسعهم من طاقة، منفقين المبالغَ الطائلة في اقتناء الكتب العربية وإنشاء مكتبات خاصة، ويذيعون جهراً في كل مكان أن ذلك الأدبَ العربي جديرٌ بالإكبار والإعجاب! ولئن حاول أحد إقناعهم بالاحتجاج بكتب النصارى فإنهم يردون عليه باستخفاف، ذاكرين أن تلك الكتب لا تحظى باهتمامهم!" ا.هـ.
أيها المسلمون: لقد امتدت حضارةُ المسلمين أكثرَ من عشرة قرون، فتح المسلمون فيها القلوبَ قبل الأرض، كانت حضارةً تُعظِّمُ العلمَ والعدلَ والإحسان، وتمقُتُ الجهلَ والظلمَ والعدوان، أمِن فيها الجميع، واستفاد من خيراتها وعلومها القريبُ والبعيد، وحين ضعف المسلمون وصارت القوة والحضارة بيد غيرهم سعى العدو بكل إمكاناته خيرِها وشرِّها ليقطع الأمة المسلمة عن دينها وتراثها ولغتها ومجدها، وليغرس في أعماقها التعلقَ والشغفَ بما عليه الأمم الأخرى، من حضارة وثقافة وقيم وعادات، ولذا ضعفت الهُويّة لدى كثير من أبناء المسلمين، وأنَّى لأمة أن ترقى سلم المجد، وهي لا تعتز بهُويتها وتراثها.
إنه ما من أمة علت وارتفع شأنُها إلا وُجِدت حريصةً كلَّ الحرص على تنشئة أجيالها على الاعتزازِ بهُويتهم، والفخرِ بلغتهم وتراثهم، وهذا ليس خاصّا بأمة من الأمم، بل هو عامّ في كل أمة تنشد الريادة، وتتطلع إلى التميز على غيرها، فهذه دولةُ يهود في أرضنا المحتلة جاء أفرادُها من بقاع شتى من بلاد العالم، يحمل كلُّ واحدٍ منهم لغةً غيرَ لغةِ صاحبه، ولم يكن يعرفُ اللغة العبرية إلا النوادرُ من اليهود، فنادى أحدُ مفكريهم بإحياء اللغة العبرية، لتكون جامعة لهذا الخليط اليهودي المختلف، وكان مما قال: لا حياة لأمة دون لغة، وكوَّن لذلك لجنةً خاصة جمع فيها كبارَ الأدباء واللغويين اليهود، حتى صارت العبريةُ لغتَهم في سائر مجالاتهم العامةِ والخاصة، وفي تعليمهم، ومخاطباتهم الرسمية، وغيرِها.
وهذه فرنسا كان لها اهتمامٌ شديد بلغتها، وتراثها، نشرا لها، ومحافظة عليها، فسعت بكل إمكاناتها لغرس اللغة الفرنسية في مستعمراتها لتكون اللغة الأولى في تلك المستعمرات، وليكون لتلك المستعمرات انتماءٌ للثقافة الفرنسية وتأثرٌ بها، وهذا ما نراه اليوم في أغلب البلاد التي دخلها الاستعمارُ الفرنسي، وأنشأت فرنسا من أجل ذلك رابطةً للدول التي يكون للفرنسية فيها انتشار، كما أنها اشترطت على كل مشارك فرنسي في أي مؤتمر أن يكون حديثُه باللغة الفرنسية، وأنّ أيَّ مؤتمرٍ أجنبي يُعقد في فرنسا فلا بد أن تكون بحوثُة مكتوبةً باللغة الفرنسية.
فإذا كانت هذه الأممُ تحرص على هُويتها، وترى أن ذلك ركنٌ من أركان تميُّزها وبقاءها، وهي أممٌ متخلفة في الدينِ والقيمِ والأخلاق، فكيف بأمة الإسلام التي أكمل الله لها دينَها، وأتمّ عليها نعمتَه، ورضي لها الإسلام دينا، فنحن أجدرُ بالافتخار بهُويتنا، وأحقُّ بالاعتزاز بديننا ولغتنا وتراثنا.
إن الذوبانَ في ثقافات الآخرين ونمط حياتهم ومعيشتهم، يعني الانسلاخَ من ثوابت الأمة وقيمِها ومصادرِ تميزها، وهي هزيمةٌ داخليةٌ خطيرة، تجعل القلوب ترى أن الضعفَ فيها، وأن القوةَ والتميزَ في عدوِّها، وقد قال الله: ﴿وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾[آل عمران:139]، إن من سمات الأممِ المغلوبة أنها مولعةٌ بتقليد الغالب، كما أشار لذلك عالمُ الاجتماع المسلم عبدُالرحمنِ بنُ خُلدون رحمه الله تعالى.
إن المتأملَ في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديثِه يرى بوضوح كيف حرص المصطفى صلى الله عليه وسلم على تميز هذه الأمةِ عن غيرها من الأمم، ففي الحديث الذي أخرجه أبو داود عن ابنِ عمر - رضي الله عنهما - قَال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقومٍ فهو منهم)، وذلك لتبقى أمةُ الإسلام محافظةً على هُويتها، مستقلةً بذاتها، حتى إن اليهودَ لما أنزل الله الأمرَ باعتزال النساء في المحيض قالوا: "ما يريدُ هذا الرجلُ أن يدعَ من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه" أخرجه مسلم، لقد فهم اليهودُ ماذا يريدُ الإسلامُ من أتباعه، لكن الحسرة أن أتباعَ الإسلام لم يفهم كثيرٌ منهم ماذا يريد الإسلام منهم، ﴿كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ﴾[آل عمران:110]، إننا حين نتميزُ بهُويتنا، ونعتزُّ بشخصيتنا، وننتصرُ من دواخلنا، يحصل لنا السؤدد والتمكين.
ولقد قال المحَدَّثُ الملهم والخليفةُ الراشد عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه قولَته المشهورة والتي تكتب بمداد من ذهب، قال رضي الله عنه: "إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ، فَأَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، فَمَهْمَا نَطْلُب الْعِزَّةَ بِغَيْرِ مَا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللَّهُ".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَعۡلَمُونَ﴾[المنافقون:8].
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أخبر أن من اختار دينا غيرَ دينِ الإسلام فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، تركنا على محجةٍ بيضاء، ليلُها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله.
أيها المؤمنون:
إن اعتزازَ المسلم بدينه وهُويته لا يعني ترك الاستفادة من علومِ الآخرين وتجربتِهم ومخترعاتهم، بل يعني أن تَشتَدَّ عنايةُ المسلم بنقل كلِّ ما يساهم في بناء مجد الأمة واستقلالها، مع محافظته على دينه وتميزه وهُويته.
إن نبينا صلى الله عليه وسلم حين استشار الصحابة في غزوة الأحزاب فأشار عليه سلمانُ الفارسي رضي الله عنه بقوله: "يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا"، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الرأي وعمل به، وما زال المسلمون يأخذون عن غيرهم ما تميزوا به من علومٍ وتجارب، حتى فاقوا غيرهم، مع محافظتهم على دينهم ولغتهم وهُويتهم.
إنّ شاباً لا يعرف من دينه وتاريخه إلا الشيءَ اليسير، يتعرضُ كلَّ يوم عبر هذا الفضاء المفتوح من خلال الأفلامِ والمقاطع، واللقطاتِ والصور، والأخبارِ والألعاب إلى تمجيدِ ثقافة الآخرين وتفخِيمها، والتهوينِ من تاريخه وثقافته والاستخفافِ بها، ليكوننّ ولا شك مسلوبَ الإرادة، تائهَ الهدف، ضعيفَ الانتماء لدينه وبلاده ومجتمعه.
إن على الآباءِ والأولياءِ والمربين مسؤوليةً كبرى في تعزيز انتماء الأبناء والبنات لدينهم وبلادِهم وتاريخِهم ولغتِهم.
المشاهدات 1429 | التعليقات 0