هنا وينقطع ضجيج الحياة
د. سلطان بن حباب الجعيد
وبعدُ: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ عزَّ وجلَّ، فهي النجاةُ من ناره وعذابه، كما أخبر سبحانه بقوله: ﴿وَإِنْ مِنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ [مريم: ٧١-٧٢].
وهي اللِّباسُ الذي نَسْتُرُ به عَوْراتِنا المَعنويةَ، كما نَسْتُرُ بِلِباسنا عَوْراتِنا الحِسِّيَّةَ، ولذلك رَبَطَ اللهُ بَيْنَهما فقال: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَٰلِكَ خَيْرٌ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأعراف: ٢٦].
أيها الناس؛ إنَّ من لُطْفِ اللهِ ورحمتِهِ بعبادِه، أنْ جَعَلَ بُيوتًا له على أَرْضِه، يَقْصِدُها النَّاسُ ويَفِيئُونَ إليها. جَعَلَها مَناراتٍ للهُدى والنُّور، فيها يُعْبَدُ سُبْحانَه ويُذْكَرُ: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ [النور: ٣٦-٣٧].
أرادَها بقاعًا يَنْقَطِعُ فيها ضجيجُ الحياةِ وصَخَبُها، فيَجِدُ العَبْدُ فيها نَفْسَهُ التي افْتَقَدَها في زُخْرُفِ الحياةِ وإغْوائِها.
أرادَها بقاعًا، تَعْرُجُ فيها الأرواحُ وتُحَلِّقُ في مَلَكُوتِ اللهِ، فَيَتَعَالَى فيها العَبْدُ بذلك عن جانِبِه المادِّيِّ الذي أَثْقَلَه وأَعْياه.
أرادَها بقاعًا يَقْصِدُها العبدُ في يَوْمِه وليلتِه خَمْسَ مَرَّاتٍ، حتى يَتَخَلَّصَ من أَدْرانِه وخَطايَاه، التي سَوَّدَتْ قَلْبَه وحياتَه، فتَبْيَضُّ بذلك صَحائفُه وتَطْهُرُ، كما يُطَهِّرُ بالماءِ بَدَنَه وثوبَه.
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أَرَأَيْتُمْ لو أنَّ نَهْرًا ببَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ منه كُلَّ يَومٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هلْ يَبْقَى مِن دَرَنِهِ شيءٌ؟ قالوا: لا يَبْقَى مِن دَرَنِهِ شيءٌ، قالَ: فَذلكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بهِنَّ الخَطَايَا).
أرادَها بقاعا يَلُوذُ بها المهمومُ والمغمومُ، فَيَنْطَرِحُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ دَاعِيًا ومُسْتَجِيرًا وشاكِيًا، ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل: ٦٢].
كم هو بائِسٌ مَن إذا حَزَبَه أَمْرٌ قَصَدَ بُيوتَ الخَلْق، وتَرَكَ بيتَ مَن بِيَدِه الأَمْر، الذي لا يُعْجِزُه شيءٌ في الأرضِ ولا في السماء، وهو السميعُ العليمُ. فهي البيوتُ التي تُرْفَعُ فيها الحاجاتُ بلا خِطاباتٍ وشَفاعات، ولا يُوجَدُ على أَبْوابِها حُجّابٌ وحَراسات.
جاء في الحديثِ الذي يرويه أبو سعيدٍ الخدري رضي الله عنه قال: دَخَلَ الرسولُ المسجدَ، فَوَجَدَ رَجُلًا من الأنصار، فقال: يا أبا أمامةَ، ما لي أراكَ جالسًا في المسجدِ بغيرِ وقتِ صلاة؟ قال: هُمُومٌ لَزِمَتْنِي ودُيُونٌ أَثْقَلَتْنِي يا رسولَ الله، قال الرسولُ: ألا أُعَلِّمُكَ كلامًا إذا قُلْتَه أَذْهَبَ اللهُ غَمَّكَ وقَضَى دَيْنَكَ؟ قال: بلى، قال: قُل إذا أَصْبَحْتَ وإذا أَمْسَيْتَ: اللهم إني أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ والحُزْنِ، والعَجْزِ والكَسَلِ، والجُبْنِ والبُخْلِ، وغَلَبَةِ الدَّيْنِ وقَهْرِ الرجال. قال: فَفَعَلْتُ فأَذْهَبَ اللهُ هَمِّي وقَضَى دَيْنِي.
فانظرْ إلى هذا الصحابيِّ رضي الله عنه عندما أَحاطَتْ به الهمومُ والحاجاتُ، قَصَدَ بيتَ رَبِّه، فكان ذلك سببًا في تَفْريجِ همِّه وقضاءِ دَيْنِه.
أرادَها بقاعًا، تَذُوبُ فيها الفوارقُ، فلا فَرْقَ بين غنيٍّ وفقيرٍ، أو رئيسٍ ومرؤوسٍ، أو عربيٍّ وعجميٍّ، أو أيٍّ من المَعاييرِ التي نَبْتَكِرُها لِيَتَعالَى بعضُنا على بعض.
تُعَلِّمُنا هذه البِقاعُ المُباركةُ أننا سَواسِيَة، تَمامًا كَوُقوفِنا في الصفِّ، فلا تُوجَدُ صُفوفٌ لفِئةٍ دونَ أُخْرى، وعندما يقول الإمامُ: “استَووا” فإنَّه يُذَكِّرُنا بهذه القيمةِ العَظِيمة.
وكما تُعَلِّمُنا هذه البِقاعُ المُساواةَ، فإنَّها تُعَلِّمُنا أيضًا أنَّ التفاوتَ إنما يكون بالعَمَلِ والسَّبْق، فمَن بَكَّرَ فقد حَظِيَ بالصَّفِّ الأوَّلِ وتَكْبِيرةِ الإِحْرام، وقَبلَ ذلك بالرِّباطِ واستِغْفارِ المَلائِكَةِ بانتظارِ الصَّلاة.
أيها الإخوة، كَمْ هُم بائِسونَ مَن هَجَرُوا بَيْتَ اللهِ، وكَمْ هُم غارِقونَ في ضَجيجِ الحَياةِ وقلقِها بِلا هُدوءٍ وطُمَأنينَةٍ، وفي الهُمومِ والغُمومِ بِلا مَلاذٍ ومَأْوًى، وفي الذُّنوبِ والآثامِ بِلا مَغفِرَةٍ ومَحْوٍ.
إنَّ الهَاجِرينَ لِبُيُوتِ اللهِ هُم المُشَرَّدُونَ حَقًّا، ولَوْ آوَتْهُم قُصُورُ الدُّنيا، وهُمُ الغُرَباءُ ولَوْ آوَتْهُم أوْطانُهُم، وهُمُ التائِهونَ ولَوْ ظَنُّوا أنَّهُم على الطَّريقِ المُسْتَقيمِ.
اللَّهُمَّ آوِنا إلَيْكَ واجْعَلْنا مِن قُصَّادِ بُيُوتِكَ، ولا تُخَيِّبْ لنا ظَنًّا ولا رَجاءً.
أقُولُ قَوْلِي هذا وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِن كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِروهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
وبَعْدُ،
أيُّها الإِخْوَةُ، إنَّ مَكانَةَ المَسْجِدِ في تَاريخِنا الإِسلامِيِّ عَظِيمَةٌ جِدًّا، فَهُوَ اللَّبِنَةُ الأُولَى في المُجْتَمَعِ المُسْلِمِ، بَناهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ فَوْرَ وُصُولِهِ المَدِينَةَ، ثُمَّ شَيَّدَ كُلَّ شَيْءٍ عَلَيْهِ، فَفِيهِ يُصَلُّونَ وَيَتَحَدَّثُونَ وَيَتَعَلَّمُونَ وَيَتَشاوَرُونَ وَيُقَرِّرُونَ…
فِي المَسْجِدِ عُقِدَتِ الأُلُويَةُ الَّتِي فَتَحَتْ مَشارِقَ الأَرْضِ وَمَغارِبَها، فَدَخَلَ النَّاسُ في دِينِ اللهِ أَفْواجًا…
وفي المَسْجِدِ عُقِدَتْ حَلَقاتُ العِلْمِ في كافَّةِ العُلُومِ وَالتَّخَصُّصاتِ، فَأَشْرَقَ نُورُ العِلْمِ وَالحَضارَةِ على البَشَرِيَّةِ في كُلِّ مَكانٍ…
وكَأنَّ المَسْجِدَ هُوَ قَلْبُ المُجْتَمَعِ المُسْلِمِ الَّذِي يُمِدُّ كُلَّ أَجْزائِهِ الاِجْتِماعِيَّةِ وَالعِلْمِيَّةِ وَالسِّياسِيَّةِ بِالحَياةِ وَالنُّورِ.
إنَّنا نُريدُ أَنْ نَعُودَ لِلْمَسْجِدِ حَتَّى يَعُودَ دَوْرُهُ فينا، لا نُريدُ عَلاقَةً بِالمَسْجِدِ باهِتَةً، نُؤَدِّي فِيهِ الصَّلَواتِ ثُمَّ نَمْضِي، بَلْ نُريدُ أَنْ يَمْتَدَّ أَثَرُهُ فِينا، أَنْ يَكُونَ جُذُورُنا وَنَحْنُ أَغْصانُهُ وَفُروعُهُ الَّتِي مَهْما امْتَدَّتْ وَبَعُدَتْ إِلَّا أَنَّها مَشْدُودَةٌ إِلَى أَصْلِها تَسْتَمِدُّ مِنْهُ حَياتَها…
نُريدُ أَنْ نَعِيشَ القِيَمَ الَّتِي تَعَلَّمْناها فِي المَسْجِدِ، فِي حَياتِنا، فَنَرْجِعُ إِلَى المُجْتَمَعِ بِقُلُوبٍ مَلأَها الحُبُّ فَلا بَغْضاءَ وَلا أَحْقادَ، وَمَلأَتْها الرَّحْمَةُ فَلا قَسْوَةَ وَجَفاءَ، وَمَلأَتْها التَّقْوَى فَلا جَرْأَةَ على حُدُودِ اللهِ وَمَحارِمِهِ، وَمَلأَها حُبُّ الإتْقانِ وَالنِّظامِ وَالاِنْضِباطِ فَلا تَفْرِيطَ فِي الأَعْمالِ وَالوَظائِفِ.
إِنَّ مِنْ تَوْفِيقِ اللهِ لأَهْلِ الحَيِّ، أَنْ يَشُدَّ المَسْجِدُ عَلاقَتَهُمْ بِبَعْضِهِم وَيُحْكِمَها، فَيَتَذَاكَرُونَ إِذا نَسُوا، وَيَتَزاوَرُونَ إِذا مَرِضُوا، وَيُساعِدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِذا احْتاجُوا.
أَمَّا إِذا انْعَدَمَ تَأْثِيرُ المَسْجِدِ في عَلاقَتِنا بِبَعْضِنا، وَفي أَخْلاقِنا وَسُلُوكِنا، وَفي عَلاقَتِنا بِرَبِّنا، وَفي نَفْعِ أَنْفُسِنا وَبِلادِنا، فَهَذا دَليلٌ على أَنَّ عَلاقَتَنا بِالمَسْجِدِ وَزِيارَتَنا لَهُ لا تَخْتَلِفُ عَنْ زِيارَتِنا لِمُتْحَفٍ أَوْ مُنْتَزَهٍ أَوْ ما شابَهَ، عَلاقَةٌ روتينِيَّةٌ مَيِّتَةٌ لا حَياةَ فِيها وَلا رُوحَ.