هل نحن منافقون؟ [خطبة مناسبة لأول جمعة بعد رمضان]
عبدالله الغامدي
الخطبة الأولى:
إنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إلَيْهِ، ونعوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فلا مضلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أن لاَ إلَهَ إلا اللَّهُ وَحَدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون﴾ أما بعد:
حضرَ حنظلةُ الأسيدي -رضي الله عنه- مجلسًا من المجالسِ الإيمانيِّةِ التي كان يعظُ فيها نبيُّنا ﷺ أصحابَه ويُذكِّرهم بالله واليوم الآخر؛ فتذرفُ لكلامهِ عيونُهم، وتوجلُ من موعظتهِ قلوبُهم.
خرجَ حنظلةُ -رضي الله عنه- من ذاك المجلسِ المهيبِ وهو يشعرُ بأنَّه وصلَ إلى درجةٍ عاليةٍ من الإيمان؛ أصبحَ فيها كأنَّه يرى الجنَّةَ والنَّارَ أمامَ عينيه!
لكن ما أن رجعَ إلى بيته؛ فجالسَ زوجتَه ولاعبَ أولاده؛ إلا وشعرَ بأنَّ تلكَ الروحَ المتوهِّجةَ التي كانت عندَ رسولِ الله ﷺ قد تغيَّرتْ، وأن تلك المشاعر الإيمانيَّة قد تبدَّلت!
لقد بردتْ حرارةُ الإيمانِ التي كان يشعرُ بها حنظلة، واختفى عن ناظريه مشهدُ الجنَّة والنَّار، وشعرَ بأنَّ منسوبَ الإيمانِ بدأ ينخفضُ ويتنازلُ بسببِ مخالطته لأهله وأولاده.
فزعَ حنظلةُ -رضي الله عنه- من ذلك الخفوتْ المفاجئ في إيمانه، وخرجَ من بيتهِ مطرقَ الرأس، منكسرَ النفس، تعلوه علاماتُ الهمِّ، وتكسوه أماراتُ الحُزنِ!
وبينما حنظلةُ يهيمُ على وجهه في سككِ المدينةِ؛ إذا به يلتقي قدرًا في طريقهِ بخيرِ هذه الأُمَّة، وأفضلها بعد نبيِّها ﷺ: أبو بكرٍ الصديق -رضي الله عنه-!
فما أن رآه أبو بكرٍ -رضي الله عنه- على هذه الحال الحزينة؛ إلا وسأله قائلًا: ما بالُك يا حنظلة؟!
فقال حنظلةُ بصوتٍ يملؤه الألم والأسى: لقد نافقَ حنظلةُ يا أبا بكر!
فقال أبو بكرٍ -رضي الله عنه-: وما ذاكَ يا حنظلة؟ فصارحه حنظلةُ -رضي الله عنه- بالسبب وقال: بينما نحنُ يا أبا بكرٍ عندَ رسولِ اللهِ ﷺ يذكرُ لنا الجنَّةَ والنَّارَ حتَّى كأننا نراها رأيَ عينٍ؛ إذ رجعنا بعد ذلك إلى أهلنا فعافسنا الزوجات ولاعبنا الأولاد؛ فنسينا كثيرًا! لقد نافقَ حنظلة!!
لقد كانَ حنظلةُ -رضي الله عنه- يشعرُ بأنَّ ارتفاعَ إيمانه بعدَ جلوسهِ معَ رسولِ اللهِ ﷺ، ثُمّ انخفاضهِ بعدَ رجوعهِ إلى أهله؛ علامةٌ على نفاقه وعدم صدقه؛ إذ من المفترض أن يكون مستوى إيمانُه في الحالين واحدًا!
فإذا بأبي بكرٍ الصديق -رضي الله عنه- أفضلُ هذه الأُمَّةِ وأعلاها إيمانًا بعدَ رسولِ الله ﷺ؛ يفاجؤه ويُكاشفه بأنَّه يشعرُ بنفسِ هذا الشُّعور، فيقول -رضي الله عنه-: وأنا واللهِ يا حنظلة أجدُ مثلما تجد! فانطلق بنا إلى رسولِ اللهِ ﷺ.
انطلق الصحابيان الجليلان إلى رسولِ اللهِ ﷺ ليشكوا إليه خوفَهُما وقلقَهُما من النفاق
وما أن وصلا ودخلا على رسولِ اللهِ ﷺ إلا وابتدرَ حنظلةُ رسولَ الله ﷺ بقوله: يا رسولَ اللهِ، لقد نافقَ حنظلة!
فقالَ رسولُ اللهِ ﷺ: مَه يا حنظلة! وما ذاك؟! يعني ما هذا الكلامُ الذي تقوله يا حنظلة؟ وما الأمرُ الذي حملكَ على أن تقولَ هذا عن نفسك؟!
فأخبرهُ حنظلةُ -رضي الله عنه- بما شعرَ به من ارتفاعِ إيمانه عندَ جلوسه معه ﷺ، ثُمَّ شعورهِ ببرودِ هذا الإيمان حينما رجعَ إلى أهله وعادَ إلى عياله؛ فلا تفسيرَ لهذا التغيّرِ إلّا التقلّبُ والنفاق!
فطمأنَ رسولُ اللهِ ﷺ حنظلةَ، وأزالَ همَّهُ وخوفَهُ من النفاقِ بقوله: يا حنظلة، لو أنَّكم تكونون عندَ أهاليكم كما تكونون عندي؛ لصافحتُكم الملائكةُ على فُرشكم وفي طُرقكم!
يعني: لو أنَّ الإنسانَ استمرَّ إيمانُه على ذاتِ المستوى الذي يشعرُ به بعدَ التذكيرِ بالله أو عقبَ مواسمِ العبادة؛ لوصلَ إلى درجةٍ أن تنزلَ ملائكةُ الرَّحمنِ من السَّماءِ لتُسلمَ عليه وتُصافحه؛ لأنَّه سيكونُ حينها مَلكًا معصومًا، لا بَشرًا ناقصًا!
فُقصّةُ حنظلةَ يا كِرام تطمأننا بأنَّ خفوتَ مستوى إيماننا قليلًا بعدَ رمضان، وما نراه من نقصِ بعض النوافلِ التي كُنَّا نحافظُ عليها فيه؛ ليسَ من النفاقِ في شيء، وإنّما هو حالٌ طبيعيَّةٌ تعرضُ حتَّى لصحابةِ رسولِ الله ﷺ الذين كانوا يجالسونه ويسمعونَ مواعظه وكلامَه.
لكنَّ المعيارَ والمقياسَ الذي ينبغي أن نُحاكمَ أنفسنا إليه في فتورنا بعد رمضان، هل فتورٌ طبيعيٌّ، أم فتورٌ شيطانيّ؛ هو ما بيَّنهُ لنا ﷺ بقوله: ((إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدِ اهْتَدَى ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ)).
فقوله ﷺ: لكلِّ عملٍ شِرَّة: يعني نشاط وحرص ورغبة -وهذا يحصل كثيرًا في مواسم الطاعات-. وقوله ﷺ: لكلِّ شِرَّةٍ فترة؛ يعني كسل وضعف وخمول -وهذا يحصل غالبًا بعد انقضاء مواسم العبادات-.
فإقبالُ نفوسِنا إذن في مواسمِ العبادات، ثُمَّ خمولها قليلًا بعد انقضاءِ مواسمِ الطَّاعات؛ أمرٌ طبيعيٌّ -كما وردَ في هذا الحديث، وكما جاءَ في قصّةِ حنظلةَ -رضي الله عنه--.
لكن إذا أردتَ أن تعرف هل فتورك مقبولٌ أم لا؛ فما عليك إلا أن تُحاسبَ نفسَك بهذا الضَّابطِ الذي ذكره لنا ﷺ بعد ذلك بقوله: (فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدِ اهْتَدَى) يعني إذا كانت فترةُ ضعفك تؤدّي بك إلى الإقلالِ من بعضِ النوافلِ التي كنتَ تفعلُها؛ لكنَّك محافظٌ على الواجبات، مبتعدٌ عن المحرّمات؛ ففتورك فتورٌ طبيعي لا إشكال فيه؛ بل قالَ رسولُ الله عن صاحبه؛ فقد اهتدى! يعني وُفّقَ وأحسنَ في تعامله مع الفتور.
أمَّا من وصلَ به الضعفُ والكسلُ بعدَ رمضان إلى أن يُفرِّطَ في الفرائضِ -وعلى رأسها الصّلوات الخمس- أو أن يقع في المحرَّماتِ؛ فهذا هو الذي قال عنه ﷺ: ((وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ)).
فالضعفُ والفتورُ عذرٌ مقبولٌ وأمرٌ طبيعي لأن يُخفّف المرء من بعض نوافل العبادات، أو أن يتوسّعَ في بعض المباحات؛ لكنّه ليسَ عذرًا بأيِّ حالٍ من الأحوال لأن يصلَ بالواحد منَّا بأن يُفرِّطَ في الواجبات، أو أن يقعَ في المحرَّمات!
فعلينا أن نُحاسبَ أنفسنا باتزانٍ بعدَ رمضان: هل فتورنا طبيعي؟! فلا نجلدَ أنفسنا حينئذ ونحمّلها فوقَ طاقتها، أم هو فتورٌ شيطانيٌّ؟! فيحتاجُ حينها لأن نقفَ وقفةً جادَّةً مع أنفسنا؛ لئلا يتلاعبَ بنا الشَّيطانُ فيُضيَّعَ علينا ما تعبنا على تحصيله في رمضان.
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ الله لي ولكم فاستغفروه؛ فيا فوزَ المستغفرين
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقهِ وامتنانه، وأشهدُ ألا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه الداعي إلى رضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون﴾ أما بعد:
هل تعرفونَ المرأةَ الـمُلقَّبةَ بـ"خرقاءِ أو حمقاءِ مكَّة"؟!
هذه المرأةُ كانوا يرونها في طرقاتِ مكَّةَ تغزلُ غزلًا يأخذُ منها وقتًا طويلًا وجهدًا كبيرا، حتَّى إذا تكاملَ هذا الغَزلُ، وأصبحَ نسيجًا متينًا مُحكَمًا يسرُّ الناظرين؛ أخذتْ تلك المرأةُ هذا الغَزْلَ الذي تعبتْ كثيرًا في عقده وغزله؛ فحلَّتُه خيطًا خيطًا، ونكثتُه عقدةً عُقدة!! فلذلك لُقِّبت هذه المرأةُ بحمقاءِ مكَّة؛ لأنَّهُ ما الفائدةُ من هذا التعبِ والجهدِ الكبير إن كانت ستنقضه في كلِّ مرةٍ بعد تمامهِ وتكامله؟! وهذه المرأةُ -كما قال المفسِّرون- هي التي حذَّرنا اللهُ من حالها وصنيعها حينما قال: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [سورة النحل:92].
وحتَّى لا نكونَ كهذه المرأةِ؛ فينبغي أن نسائلَ أنفسَنا: لماذا ننقضُ في كلِّ سنةٍ بعدَ رمضان جميعَ ما بنيناه في رمضان؟ ولماذا نرجعُ في كلِّ مرةٍ إلى نقطةِ البدايةِ ومربعِ الصِّفر؟!
لا شكَّ أنَّه يَصعُب جدًا أن يكون حالُنا على ذاتِ الاجتهادِ الذي كُنَّا عليه في رمضان، لكن لا ينبغي كذلك أن نعودَ إلى نفسِ المستوى الذي كُنَّا عليه قبلَ رمضان أو أسوأ منه!
والشيطانُ بعدما أُطلقَ سراحُه وفُكَّتْ أصفادُه؛ حريصٌ كلَّ الحرصِ لأنْ يسلبنا ويسلخنا من كلِّ خيرٍ وإيمانٍ وصلنا إليه في رمضان! فعلينا أن نتنبهَ لهذا، وأن نجاهدَ شيطاننا وأنفسنا؛ فنفوسُنا في هذه الأيام لا زالتْ معتادةً على الطاعةِ والعبادةِ؛ "فاستمروا على السَّير، ولا تستقلوا الخير، ولا تنقطعوا عن العبادة، ولا تكونوا كالتي نقضتْ غزلها من بعد قوةٍ أنكاثًا. لا تتركوا قيامَ الليلِ ولو بركعة، ولا تهجروا تلاوةَ القُرآنِ ولو بصفحة، ولا تدعوا صيامَ التطوعِ ولو بيوم، ولا تُمسكوا عن الصدقةِ ولو بريال؛ فالركعةُ تَحطُّ الخطايا وترفعُ الدرجات، والحرفُ من القرآنِ بعشرِ حسنات، وصيامُ يومٍ يباعدُ عن النَّارِ سبعين خريفًا، والريالُ في الميزانِ كالجبال، ومن زادَ زادَ اللهُ لهُ، واللهُ ذو الفضل العظيم".
هذا وصلّوا وسلّموا....
المرفقات
1743754896_هل نحن منافقون؟.docx
1743754896_هل نحن منافقون.pdf