هل من صديق؟
عبدالرزاق بن محمد العنزي
الخطبة الأولى:(6/4/1443هـ)
أيها الناس: لا بدَّ للإنسان السويِّ من أن يتَّخذَ له صَديقًا أو أصدقاء؛ ذلك لأنَّ الإنسان كائنٌ اجتماعيٌّ بطبيعته، فالصديق يُؤنِسُه في الرخاء، ويُعينه في الشدَّة إن كان من أهل الوفاء.
من أجلِ هذا كان اختيارُ الصديق أمرًا في غاية الأهميَّة؛ ذلك لأنَّ للصديق أثرًا عميقًا في فكر الإنسان وسلوكه، وهذه حقيقةٌ لا شكَّ فيها، فالمرءُ يتأثَّر بمَن يعايش ويرافق.
فإذا عاش المرءُ مع ناسٍ صالحين، كان - في الغالب - صالحًا، وإذا عاش مع ناسٍ مجرِمين، كان - في الغالب - مجرمًا.
إنَّه قد يشعُر في بادئ الأمر بالاستغراب والدهشة عندما يسمع كلمةَ الكفر، أو عندما تُمارَس أمامَه المنكرات والفواحش، ولكنَّ هذا الاستغراب، وتلك الدهشة يَضعُفانِ شيئًا فشيئًا، حتى يصبحَ ما كان يُنكره مألوفًا لديه، ثم يقع فيه ويَهلِك.
وقد حذَّرَنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من اتِّخاذ الخليل الفاسد، ودعانا إلى النظر والتأمُّل؛ فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((المرءُ على دِين خَليله، فلينظُرْ أحدُكم مَن يُخالِل)).
وذلك لأنَّ المرء إذا صادق إنسانًا زائغَ العقيدة، منحرِفَ السلوك، سيِّئ الأخلاق، أَنِسَ بصحبته، وخالطه ووادَّه، واستمرَّتْ صداقتُه له - أصبح مِثلَه في العقيدة والسلوك، أو قريبًا منه.
ولقد نهانا الله - جلَّ جلالُه - عن القُعود مع المنحرِفين، وأمرَنا بالإعراض عنهم؛ قال سبحانه: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾.
وهذا إجراءٌ وقائيٌّ عظيم، وقد قصَّ كتابُ الله علينا قصَّةَ الرجل الظالِم الذي ضلَّ بسبب الخليل الضالِّ المضِلِّ، فذكر أنه يومَ القيامة يَعَضُّ على يديه، ويبدو نادمًا على اتِّخاذ ذاك الضالِّ خليلاً،ولكن هذا الندم لا يفيده شيئًا؛
قال تعالى:﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً ﴾.
ويذكر القرآن أنَّ الصديق السيِّئ يُهلِك مَن يستجيب له: ها هم أهل الجنة يتحدَّثون فيما بينهم وهم في النعيم المقيم،قال تعالى : ﴿ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ *
يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ* وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾.
وممَّا يدلُّ على تأثير الصديق في صديقه الحديثُ المشهور: (إنَّما مَثَلُ الجليس الصالِح وجليس السُّوء كحامِلِ المِسْكِ ونافِخِ الكِير، فحامِلُ المسك: إمَّا أن يُحذيَكَ، وإمَّا أن تبتاعَ منه، وإمَّا أن تجدَ منه رِيحًا طيِّبة، ونافخُ الكِير: إمَّا أن يحرِقَ ثوبَكَ، وإمَّا أن تجدَ منه رِيحًا مُنْتِنَة)
إذًا؛ لا بدَّ من التأثُّر، وقد تختلف درجاتُه، ومن أجْل ذلك قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم:(لا تُصاحِبْ إلاَّ مؤمنًا، ولا يأكُل طعامَك إلاَّ تقيٌّ).
إذًا؛ فينبغي على الإنسان ألاَّ يتخذَ صديقًا يضلُّه عن سبيل الله، ويجعله يندم يومَ لا ينفعُ الندم، بل عليه أن يصبرَ نفسَه صبرًا مع الذين يُعينونه على سلوكِ الطريق الموصل إلى السعادة؛ قال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾.
بارك الله لي ولكم في القرآن،،،،
الخطبة الثانية:
مَن أراد أن يبحثَ عن معنى الصداقة الحقيقيَّة فلْيَتَأَمَّلْها في أروع أشكالها، وأعظم شخصياتها، وأرقى معانيها، ذلك الصديقُ الحقُ الذي وصَفَهُ الله عز وجل بأنه صاحِبُ النبي صلى الله عليه وسلم؛ ﴿ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾
فقد كان يفديه بكل ما يملك، ولا يظنُ فيه إلا الظنَّ الحسنَ، ولا يُصدِّقُ عنه إلا الخير، ولا يُكلِّفهُ ما لا يُحب، ولا يَحْمِلُ له في نفسه مِن السوءِ قِيِدَ شَعْرِةٍ، ولا يُثْقِلُ عليه في شيءٍ، ولا يُحب أن يراه إلا سعيدًا، ويسعى له في مصلحته كأنه يسعى لنفسه بل أكثر!
لما غاب عثمان عَن البيعة " بعذر " وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على يده اليسرى قائلاً ؛( وهذه يدُ عثمان )
ما أجمل أن تثق في صَاحبك حاضراً غائباً....
فأنت تعرف فِعَالَه وحَالَهُ وذائقَتَهُ ومحبوباتِهِ دون أن يٺَكَـلَّم ..
فأبحث عَن عُثمانَكَ تصفو لك أيامُك.
قال ابن كثير رحمه الله معلقاً على قول الله تبارك وتعالى:﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾.
إن كل صداقة وصحابة لغير الله، فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان لله عز وجل، فإنه دائم بدوامه.
ويقول الطبري رحمه الله: المتخالون يوم القيامة على معاصي الله في الدنيا, بعضهم لبعض عدو, يتبرأ بعضهم من بعض, إلا الذين كانوا تخالوا فيها على تقوى الله.
قال الحسن البصري رحمه الله عن الصاحب والصديق المؤمن قال: "مَنْ مِثْلُ أخيك المؤمن، إذا متّ انصرف أهلك وأولادك يقتسمون أموالك ووقف عند جدثك وعند قبرك يدعو لك ويسأل الله لك المغفرة".
قلت : لي صديق مضى على موته ما يقارب تسع سنين والله إني أدعوا له يومياً منذ أن مات .(ثم صلوا وسلموا،،،)