هل للسلفية مرجعية؟!

هل للسلفية مرجعية؟!
19/7/1436
الْحَمْدُ لِلَّـهِ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ، الْجَوَادِ الْكَرِيمِ، الْبَرِّ الرَّحِيمِ؛ لَهُ شُئُونٌ فِي عِبَادِهِ لَا تَنْتَهِي، وَلَهُ حِكَمٌ فِي أَفْعَالِهِ لَا تَنْقَضِي ﴿يُنَزِّلُ المَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [النحل: 2]، وَيَقْضِي الْقَضَاءَ فِي خَلْقِهِ عَلَى مُرَادِهِ، لَا رَادَّ لِأَمْرِهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ المُذْنِبِينَ، وَنَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ لَا يُدْرِكُ سِرَّهُ فِي هِدَايَةِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ غَيْرُهُ، وَلَا يَمْلِكُ الْهِدَايَةَ لِلْحَقِّ سِوَاهُ ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ﴾ [القصص: 56]. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ لَا قَوْلَ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مَعَ قَوْلِهِ، وَلَا طَاعَةَ لِأَحَدٍ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَطَاعَتُهُ مِنْ طَاعَةِ اللَّـهِ تَعَالَى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النساء: 80]، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَقِيمُوا دِينَهُ، وَالْزَمُوا صِرَاطَهُ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِهِ، وَتَمَسَّكُوا بِوَحْيِهِ، وَلَنْ تَبْلُغُوا ذَلِكَ حَتَّى تُجَرِّدُوا المُتَابَعَةَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَطَّرِحُوا مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ، ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلَاغُ المُبِينُ﴾ [المائدة: 92].
أَيُّهَا النَّاسُ: حِينَ قَضَى اللهُ تَعَالَى قَدَرًا أَنْ يَحْفَظَ دِينَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ قَضَى شَرْعًا بِمَا يَكُونُ سَبَبًا فِي حِفْظِهِ، وَيَمْنَعُ ضَيَاعَهُ؛ فَأَمَرَ بِالْعِلْمِ وَحَضَّ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ خَيْرَ النَّاسِ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ. فَالْجَهْلُ سَبَبٌ لِضَيَاعِ الدِّينِ كَمَا ضَلَّ النَّصَارَى بِجَهْلِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَأَدْخَلَ المُحَرِّفُونَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَأَخْرَجُوا مِنْهُ مَا هُوَ مِنْهُ.
وَلَمْ تَمْضِ قُرُونٌ ثَلَاثَةٌ إِلَّا وَالتَّوْحِيدُ الَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ حَوَّلَهُ المُحَرِّفُونَ إِلَى عَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ الشِّرْكِيَّةِ، وَطَمَسُوا دِينَ المَسِيحِ لِيَسْتَبْدِلُوا بِهِ الشَّعَائِرَ الْوَثَنِيَّةَ الْيُونَانِيَّةَ وَالرُّومَانِيَّةَ.
وَمِنَ الْوَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي حَفِظَ اللهُ تَعَالَى بِهَا الْإِسْلَامَ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ مَنْعُ الِابْتِدَاعِ فِي الدِّينِ، وَمَنْعُ التَّشَبُّهِ بِالْكَافِرِينَ؛ لِأَنَّ الِابْتِدَاعَ وَالتَّشَبُّهَ هُمَا طَرِيقَا التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ. وَكَانَ مِنْ مَنْهَجِ أَهْلِ الْأَثَرِ وَأَتْبَاعِ السَّلَفِ: الْإِصْرَارُ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالنَّصِّ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالصَّرَامَةُ المَنْهَجِيَّةُ فِي فَهْمِهِ، بِحَيْثُ لَا يُجَافِي فَهْمُهُ فَهْمَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ لِأَنَّ المُحَرِّفَ وَالمُبَدِّلَ قَدْ لَا يَرُدُّ النَّصَّ وَلَكِنَّهُ يَتَأَوَّلُهُ، وَيُفْسِدُ مَعْنَاهُ، حَتَّى يُفْرِغَهُ مِنْ مُحْتَوَاهُ، فَيُصْبِحُ نَصًّا يُتْلَى وَلَكِنْ لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَهَذَا مِنْ فَسَادِ الدِّينِ.
إِنَّ الْإِدْخَالَ فِي الدِّينِ يَبْدَأُ صَغِيرًا ثُمَّ يَكْبُرُ، فَكُلُّ أَهْلِ زَمَنٍ يُحَافِظُونَ عَلَى الْإِدْخَالِ الْقَدِيمِ وَيَزِيدُونَ عَلَيْهِ إِدْخَالًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى يُبَدَّلَ الدِّينُ كُلُّهُ، كَمَا بُدِّلَ دِينُ النَّصَارَى بِإِدْخَالِ الرُّهْبَانِ عَلَيْهِ عَبْرَ الْقُرُونِ، وَكَمَا خَرَجَتْ كَثِيرٌ مِنَ الْفِرَقِ الْبَاطِنِيَّةِ عَنِ الْإِسْلَامِ بِكَثْرَةِ إِدْخَالِ شُيُوخِهَا فِي مَذَاهِبِهِمْ.
وَكَذَلِكَ تَأْوِيلُ النَّصِّ الثَّابِتِ المُحْكَمِ يَبْدَأُ قَلِيلًا بِمَا تَحْتَمِلُهُ اللُّغَةُ مِنْ مَعْنًى وَلَوْ كَانَ مَرْجُوحًا ثُمَّ يَتَّسِعُ التَّأْوِيلُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى حَدِّ رَدِّهِ وَطَمْسِهِ.
وَمِنْ هُنَا نَعْلَمُ لِمَ كَانَ الْقُرْآنُ زَاخِرًا بِالْآيَاتِ المُؤَكِّدَةِ عَلَى طَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، المُشَدِّدَةِ فِي مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7]، ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63]، وَآيَاتٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا فِي هَذَا المَعْنَى؛ حَتَّى قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «نَظَرْتُ فِي المُصْحَفِ فَوَجَدْتُ فِيهِ طَاعَةَ رَسُولِ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ مَوْضِعًا».
لَقَدْ أَدْرَكَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَهَمِّيَّةَ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِهَةِ نَقْلِهِ وَمِنْ جِهَةِ تَطْبِيقِهِ، فَنَقَلُوهُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَطَبَّقُوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ. وَكَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يُقَدِّمُ اخْتِطَافَ رُوحِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَانْتَقَلَ هَذَا التَّعْظِيمُ لِلسُّنَّةِ وَالْأَثَرِ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَى التَّابِعِينَ فَأَتْبَاعِهِمْ، وَنُصُوصُهُمْ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُعْرَضَ فِي هَذَا المَقَامِ: قَالَ أَبَو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-:«لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ بِهِ إِلَّا عَمِلْتُ بِهِ، وَإِنِّي لَأَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ» أَخْرَجَ هَذَا الْأَثَرَ الْعَظِيمَ الْإِمَامُ ابْنُ بَطَّةَ الْعُكْبَرِيُّ ثُمَّ عَلَّقَ عَلَيْهِ قَائِلًا: «هَذَا يَا إِخْوَانِي الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ يَتَخَوَّفُ عَلَى نَفْسِهِ الزَّيْغَ إِنْ هُوَ خَالَفَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَاذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ زَمَانٍ أَضْحَى أَهْلُهُ يَسْتَهْزِئُونَ بِنَبِيِّهِمْ وَبِأَوَامِرِهِ، وَيَتَبَاهَوْنَ بِمُخَالَفَتِهِ، وَيَسْخَرُونَ بِسُنَّتِهِ؟! نَسْأَلُ اللهَ عِصْمَةً مِنَ الزَّلَلِ وَنَجَاةً مِنْ سُوءِ الْعَمَلِ»، يَقُولُ ذَلِكَ ابْنُ بَطَّةَ وَهُوَ قَدْ مَاتَ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ الْهِجْرِيِّ، فَمَا عَسَانَا أَنْ نَقُولَ فِي زَمَنِنَا هَذَا الَّذِي اشْتَدَّتْ فِيهِ الْفُرْقَةُ، وَعَظُمَتِ الْفِتْنَةُ؟!
وَقَالَ التَّابِعِيُّ الْجَلِيلُ عَبْدُ اللَّـهِ بْنُ الدَّيْلَمِيِّ: «إِنَّ أَوَّلَ ذَهَابِ الدِّينِ تَرْكُ السُّنَّةِ، يَذْهَبُ الدِّينُ سُنَّةً سُنَّةً، كَمَا يَذْهَبُ الْحَبْلُ قُوَّةً قُوَّةً».
وَلمَّا كَثُرَ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ فِي عَصْرِ التَّابِعِينَ، وَكَانُوا يُحَرِّفُونَ مَعْنَى الْأَثَرِ؛ شَدَّدَ التَّابِعُونَ فِي النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُمْ، قَالَ أَبِو قِلَابَةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «إِذَا حَدَّثْتَ الرَّجُلَ بِالسُّنَّةِ، فَقَالَ: دَعْنَا مِنْ هَذَا وَهَاتِ كِتَابَ اللَّـهِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ ضَالٌّ». سَاقَ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ هَذَا الْأَثَرَ ثُمَّ عَلَّق عَلَيْهِ فَقَالَ: «وَإِذَا رَأَيْتَ المُتَكَلِّمَ المُبْتَدِعَ يَقُوْلُ: دَعْنَا مِنَ الْكِتَابِ وَالْأَحَادِيْثِ الْآحَادِ وَهَاتِ الْعَقْلَ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ أَبُو جَهْلٍ، وَإِذَا رَأَيْتَ السَّالِكَ التَّوْحِيْدِيَّ يَقُوْلُ: دَعْنَا مِنَ النَّقْلِ وَمِنَ الْعَقْلِ وَهَاتِ الذَّوْقَ وَالْوَجْدَ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ إِبْلِيْسُ قَدْ ظَهَرَ بِصُوْرَةِ بَشَرٍ، أَوْ قَدْ حَلَّ فِيْهِ».
هَكَذَا كَانَ سَلَفُ الْأُمَّةِ تَعْظِيمًا لِلنَّصِّ، فَمَا وَصَلَ عِلْمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَى الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ المَشْهُورِينَ المَتْبُوعِينَ إِلَّا وَقَدْ تَشَبَّعَ أَهْلُ السُّنَنِ وَالْآثَارِ بِتَعْظِيمِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا، وَتَقْدِيمِهَا عَلَى مَا سِوَاهَا. فَكَانَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ تَبَعًا لِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي تَعْظِيمِ الْأَثَرِ وَالِاحْتِفَاءِ بِهِ، وَحَثِّ أَتْبَاعِهِمْ عَلَى تَقْدِيمِهِ عَلَى أَقْوَالِهمْ، قَالَ الْفَقِيهُ ابْنُ عَابْدِينَ الْحَنَفِيُّ: «صَحَّ عَنْ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أَنَّهُ قَالَ: إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي».
وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، أُخْطِئُ وَأُصِيبُ، فَانْظُرُوا فِي رَأْيِي؛ فَكُلَّمَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَخُذُوا بِهِ، وَكُلَّمَا لَمْ يُوَافِقِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَاتْرُكُوهُ».
وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «إِذَا وَجَدْتُمْ فِي كِتَابِي خِلَافَ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعُوا مَا قُلْتُهُ».
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ، -وَذَكَرَ حَدِيثًا- فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: تَأْخُذُ بِالْحَدِيثِ. فَقَالَ لَنَا -وَنَحْنُ خَلْفَهُ كَثِيرٌ-: اشْهَدُوا أَنِّي إِذَا صَحَّ عِنْدِي الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ آخُذْ بِهِ فَإِنَّ عَقْلِي قَدْ ذَهَبَ».
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «مَنْ ردَّ حَدِيْثَ رَسُولِ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ عَلَى شَفَا هَلكَةٍ».
هَذَا هُوَ المَنْهَجُ السَّلَفِيُّ الْأَثَرِيُّ النَّقِيُّ الَّذِي تَنَاقَلَهُ الْأَئِمَّةُ مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ إِلَى زَمَنِنَا هَذَا، وَسَيَبْقَى إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، وَهُوَ الَّذِي أَبْقَى لِلْإِسْلَامِ صَفَاءَهُ وَنَقَاءَهُ، فَلَمْ يُزَدْ فِيهِ شَيْءٌ، وَلَم يُنقَصْ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَأَمَّا الْأَشْخَاصُ المُقْتَفُونَ لِلْأَثَرِ، النَّاهِجُونَ مَنْهَجَ السَّلَفِ الصَّالِحِ؛ فَيُصِيبُونَ وَيُخْطِئُونَ، وَيَقْتَرِبُونَ مِنَ الْحَقِّ فِي المَسَائِلِ وَيَبْتَعِدُونَ، إِمَّا لِشَطَطٍ فِي فَهْمِ النَّصِّ، وَإِمَّا لِهَوًى قَادَهُ حَظُّ النَّفْسِ، وَلَا عِصْمَةَ لِأَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ مَهْمَا بَلَغَتْ إِمَامَتُهُ، وَعَلَتْ مَكَانَتُهُ، وَاتَّسَعَ عِلْمُهُ، فَإِذَا حَادَ عَنِ الصَّوَابِ؛ فَأَهْلُ السُّنَّةِ هُمْ أَوَّلُ مَنْ يُقَوِّمُهُ فَيَرُدُّونَ بَاطِلَهُ، وَيُصَوِّبُونَ خَطَأَهُ، وَلَا يُحَابُونَهُ عَلَى دِينِ اللَّـهِ تَعَالَى مَهْمَا كَانَ ذَا شَأْوٍ فِيهِمْ، وَكُتُبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَتْبَاعِ السَّلَفِ الصَّالِحِ زَاخِرَةٌ بِذَلِكَ؛ سَيْرًا عَلَى مَنْهَجِ أَئِمَّتِهِمُ الْكِبَارِ فِي تَقْدِيمِ النَّصِّ عَلَى أَقْوَالِ الرِّجَالِ، وَاطِّرَاحِ الْخَطَإِ مِنْ أَقْوَالِ الْإِمَامِ. وَهَذَا هُوَ النَّقْدُ المُفِيدُ الَّذِي امْتَازَ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ عَنْ غَيْرِهِمْ؛ فَأَبْقَى لَهُمْ صَلَابَةَ مَنْهَجِهِمْ، وَلَمْ يُسْقِطْ أَئِمَّتَهُمْ.
وَلَيْسَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ تَدَّعِي أَنَّهَا سَلَفِيَّةٌ أَوْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ تَكْتَسِبُ بِدَعْوَاهَا صِحَّةَ المَنْهَجِ، فَمَنْ وَافَقَ السَّلَفَ فِي أَجْزَاءٍ مِنَ المَنْهَجِ، وَخَالَفَهُمْ فِي أَجْزَاءٍ أُخْرَى فَقَدْ حَادَ عَنِ المَنْهَجِ السَّلَفِيِّ الْأَثَرِيِّ وَلَوِ ادَّعَى أَنَّهُ يَحْتَكِرُهُ وَطَائِفَتَهُ. فَالدَّعْوَى شَيْءٌ وَصِحَّةُ المَنْهَجِ شَيْءٌ آخَرُ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُرِيَنَا الْحَقَّ حَقًّا وَيَرْزُقَنَا اتِّبَاعَهُ، وَأَنْ يُرِيَنَا الْبَاطِلَ بَاطِلًا وَيَرْزُقَنَا اجْتِنَابَهُ، وَأَنْ لَا يَجْعَلَهُ مُلْتَبِسًا عَلَيْنَا فَنَضِلَّ، وَأَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الْحَقِّ إِلَى المَمَاتِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُوهُ ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران: 131-132].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: إِنَّ مَرْجِعِيَّةَ السَّلَفِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِفَهْمِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَهِيَ تَرْتَكِزُ فِي الْأَسَاسِ عَلَى عِصْمَةِ النَّصِّ وَمَنْ جَاءَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ عَمَلًا بِقَوْلِ اللَّـهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النَّجم: 3-4]. وَلمَّا نُهِيَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ عَنْ كِتَابَةِ كُلِّ مَا يَصْدُرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْمَأَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ، فَقَالَ: «اكْتُبْ؛ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ».
وَفِي المَنْهَجِ السَّلَفِيِّ لَا عِصْمَةَ لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَائِنًا مَنْ كَانَ حَتَّى يَنْزِلَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
بَيْدَ أَنَّ مَنَاهِجَ فِرَقِ الضَّلَالِ الَّتِي حَادَتْ عَنْ مَنْهَجِ الصَّحَابَةِ وَمَنْهَجِ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ تَشَظَّتْ إِلَى فِرَقٍ لَا تُحْصَى مِنْ كَثْرَتِهَا:
فَمِنْهَا فِرَقٌ جَعَلَتْ سُلْطَانَ الْعَقْلِ أَعْلَى مِنْ سُلْطَانِ النَّصِّ، فَبِالْعَقْلِ المُنْحَرِفِ يُرَدُّ النَّصُ أَوْ يُحَرَّفُ، وَلمَّا كَانَتِ الْعُقُولُ كَثِيرَةً وَمُخْتَلِفَةً انْقَسَمَ أَصْحَابُ هَذَا المَنْهَجِ الْفَاسِدِ إِلَى فِرَقٍ يَعْسُرُ عَدُّهَا مِنْ كَثْرَتِهَا.
وَمِنْهَا فِرَقٌ أُخْرَى عَلَّقَتْ دِينَهَا بِالرِّجَالِ، فَاخْتَصَرَتْهُ فِي بَشَرٍ يُخْطِئُونَ وَيُصِيبُونَ، وَيَرْكَبُهُمُ الْهَوَى، فَجَعَلُوا لَهُمُ الْعِصْمَةَ بِاسْمِ الْوِلَايَةِ، وَخَلَعُوا عَلَيْهِمُ الصِّفَاتِ الَّتِي لَا تَلِيقُ إِلَّا بِصَاحِبِ الرِّسَالَةِ، بَلْ بَالَغَ بَعْضُهُمْ وَاتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّـهِ تَعَالَى، لَا يَعْصُونَ لَهُمْ أَمْرًا، وَلَا يُعَقِّبُونَ لَهُمْ حُكْمًا، وَيُعَطِّلُونَ عُقُولَهُمْ أَمَامَهُمْ، وَيُلْغُونَ بِحَضْرَتِهِمْ عُلُومَهُمْ وَمَعَارِفَهُمْ، حَتَّى ذَكَرَ أَرْبَابُ التَّصَوُّفِ أَنَّ المُرِيدَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْ شَيْخِهِ كَالمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيْ غَاسِلِهِ لَا يُخَالِفُهُ فِي شَيْءٍ مُطْلَقًا.
وَكُلُّ أَرْبَابِ الْفِرَقِ الْبَاطِنِيَّةِ قَدْ سَطَوْا عَلَى عُقُولِ أَتْبَاعِهِمْ فَعَطَّلُوهَا، وَسَلَبُوهُمْ حُرِّيَّتَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَانْتَهَكُوا حُرُمَاتِهِمْ وَأَعْرَاضَهُمْ، وَجَعَلُوهُمْ كَالْأَنْعَامِ يَسِيرُونَ خَلْفَهُمْ. وَفِي اسْتِعْمَارِ بَعْضِ الْبِلَادِ دَفَعَ المُسْتَعْمِرُ لِبَاطِنِيٍّ مُعَمَّمٍ مَالًا فَأَمَرَ أَتْبَاعَهُ أَنْ يُرَحِّبُوا بِالمُسْتَعْمِرِ الَّذِي اسْتَعْمَرَ أَرْضَهُمْ بَعْدَ أَنِ اسْتَعْمَرَ المُعَمَّمُ عُقُولَهُمْ. فِي حِينِ أَنَّ المُسْتَعْمِرَ ذَاتَهُ لَمْ يَسْتَطِعْ إِخْضَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ لِمَشْرُوعَاتِهِ، وَعَجَزَ عَنْ كَسْرِهِمْ بِقُوَّاتِهِ، وَضَاقَ مَعَهُمْ كَيْدُهُ وَمَكْرُهُ.
إِنَّهُ لَفَرْقٌ كَبِيرٌ بَينَ مَنْ يَكُونُ الوَحْيُ مَرْجِعِيَّتَهُ، وَبَينَ مَنْ تَكُونُ مَرْجِعِيَّتُهُ أَهْوَاءَ الرِّجَالِ وَأَذْوَاقَهُمْ وَاخْتِيَارَاتِهُمْ.
إِنَّهُ لَفَرْقٌ شَاسِعٌ بَينَ مَنْ رَكَنَ إِلَى اخْتِيَارِ الله تَعَالَى، فَشَرُفَ بِهِ، وَبَينَ مَنْ اسْتَنْكَفَ عَنْهُ لِيَرْضَى بِاخْتِيَارِ عَبِيدٍ مِثْلِهِ {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40].
هَذَا؛ وَقَدْ زَعَمَ الزَّاعِمُونَ أَنَّ المُسْتَعْمِرِينَ لَمْ يَتَفَاهَمُوا مَعَ أَهْلِ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّ مُشْكِلَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ لَا مَرْجِعِيَّةَ لَهُمْ يُمْكِنُ التَّفَاهُمُ مَعْهَا!! وَتَاللَّـهِ إِنَّ مَا عَابُوهُ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ هُوَ سَبَبُ قُوَّتِهِمْ، وَنَقَاءُ مَنْهَجِهِمْ، وَمَصْدَرُ صَلَابَتِهِمْ؛ فَلَا يَسِيرُونَ كَالْأَنْعَامِ خَلْفَ مَنْ يَتَلَعَّبُ بِهِمْ، وَيُعَبِّدُهُمْ لِنَفْسِهِ مِنْ دُونِ اللَّـهِ تَعَالَى.
إِنَّ مَنْهَجَهُمْ مُرْتَبِطٌ بِالْوَحْيِ لَا بِالرِّجَالِ، وَالْوَحْيُ مَحْفُوظٌ لَا يُغَيَّرُ وَلَا يُبَدَّلُ، وَالرِّجَالُ تَتَغَيَّرُ مَوَاقِفُهُمْ، وَتَتَبَدَّلُ قَنَاعَاتُهُمْ، وَيَسْعَوْنَ فِي مَصَالِحهِمْ، وَحِينَهَا يُمْكِنُ شِرَاءُ ذِمَمِهِمْ، فَيَبِيعُونَ دِينَهُمْ لِأَجْلِ دُنْيَاهُمْ، وَيُضِلُّونَ أَتْبَاعَهُمْ مَعَهُمْ. وَمِنْ هُنَا كَانَتْ قَاعِدَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ: الرِّجَالُ يُعْرَفُونَ بِالْحَقِّ، وَلَا يُعْرَفُ الْحَقُّ بِالرِّجَالِ.
فَلْنَفْرَحْ بِمَا هَدَانَا اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، وَلْنَتَمَسَّكْ بِهِ، وَلْنَثْبُتْ عَلَيْهِ؛ فَلَيْسَتْ هِدَايَتُنَا لِلْحَقِّ إِلَّا مَحْضَ فَضْلٍ مِنَ اللَّـهِ تَعَالَى ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّـهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات

هل للسلفية مرجعية؟ مشكولة.doc

هل للسلفية مرجعية؟ مشكولة.doc

هل للسلفية مرجعية؟.doc

هل للسلفية مرجعية؟.doc

المشاهدات 2293 | التعليقات 2

جزاك الله خيرا


وإياك أخي الكريم