هل حقاً بلغنا رمضان ؟

د محمد بن حمد الهاجري
1442/09/03 - 2021/04/15 16:36PM

هاهي الأيام قد تتابعت، والشهور تسارعت ، وهاقد هل علينا هلال شهر رمضان، هلال الإيمان والتوحيد والقرآن، هلال الصيام والقيام، هلال التوبة والمغفرة، هلال الجود والكرم، هلال الدعاء والرجاء، هلال السعي إلى الجنان والعتق من النيران. هلال رمضان.
إن أيام الله متباينات، وأزمانه متفاوتات ومتفاضلات، وقد اختار الله من بينها أزمنة جعلها مواسم للخيرات، ومواعيد للنفحات، يكثر خيرها ويعظم أجرها حتى تتحفز الهمم للعمل، وتسعى لنيل الرضا وتحقيق الأمل.. ومن أجَلِّ هذه المواسم شهر رمضان المبارك، شهر التجارة الرابحة والفرص السانحة، يزرع المؤمنون فيه الخير، ليحصدوا عظيم الثواب والأجر:
أتى رمضان مزرعة العباد .. لتطهير النفوس من الفساد
فأد حقوقه قـــولا وفعــلا ..   وزادك فاتخـــذه للمـــعــاد 
ومن زرع الحبوب وما سقاها .. تأوه نادما يوم الحصاد.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه أن يبلغه رمضان، وكان يبشر أصحابه بقدومه.. ولم لا؟ وفيه من الخير ما فيه.
جاء الصيام فجاء الخير أجمعـه .. ترتيل ذكر وتحمــيد وتسـبيح
فالنفس تدأب في قول وفي عمل .. صوم النهار وبالليل التراويح
عباد الله
قد أظلكم شهر كريم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيام نهاره فريضة، وقيام ليله تطوعا، من تقرب إلى الله فيه بخصلة من الخير كان له من الأجر أضعاف ما تقرب به في سواه، هو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، من فطر فيه صائما كان له من الأجر مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيئا.. وهو شهر كله رحمة وكله مغفرة وكله عتق من النار.
لقد عاد رمضان وعاد معه موسم التجارة الرابحة، وأتت معه البشارة للمقطوعين بقرب زمان المصالحة، ولأصحاب المعاصي والذنوب بدنو زمن العفو والمسامحة. فيا باغي الخير أقبل.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجان، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة][الترمذي والحاكم وصححه على شرط الشيخين].
عباد الله
إن بلوغ رمضان نعمة كبرى وإنما يقدرها حق قدرها الصالحون المشمرون، فإذا كان الله قد من عليك ببلوغه ومد في عمرك للوصول إليه، فالواجب استشعار هذه النعمة واغتنام هذه الفرصة فإنها إن فاتت كانت حسرة ما بعدها حسرة، وخسارة ما بعدها خسارة.
وهل ثم خسارة أكبر من أن يدخل الإنسان رمضان ثم يخرج منه وذنوبه ما زالت جاثمة على صدره، وخطاياه ما زالت قابعة في ديوان عمله؟
وأي حسرة وأي مصيبة أن يدخل المسلم رمضان ثم يخرج منه وهو محمل بدعوة الأمينين جبريل ومحمد عليهما أزكى الصوات والتسليم كما روى ذلك ابن حبان بسنده عن النبي عليه الصلاة والسلام قَالَ: [أَتَانِي جِبْرِيلُ، فقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْتُ: آمِينَ].
وكيف لا يبعده الله وكل شيء في رمضان مهيأ لتوبته وأوبته، وتسهيل عودته وعبادته، وليس موسم في السنة أجدر بالتوبة منه، كما جاء عن المعصوم عليه الصلاة والسلام: 
ـ [من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه] 
ـ [منقام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه] 
ـ [من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه]
ـ [ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة].. ثم إذا كانت آخر ليلة من رمضان أعتق الله بعدد ما أعتق في رمضان كله.
فإذا حرم العبد المغفرة بعد كل هذا فمتى يرتجي حصولها، وفي أي وقت يصبح من أهلها؟
إذا الروض أمسى مجدبا في ربيعه .. ففي أي وقت يستنير ويزهر؟

قال الحسن البصري رحمه الله: "إن الله جعل رمضان مضمارا لخلقه، يستبقون فيه لطاعته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا".
عباد الله .. إن رمضان لم يكن أبدا شهر نوم وكسل، وضعف ووخم، ولا شهر أكل وشرب، وإنما هو شهر جد وعمل، وعبادة ومنافسة في الطاعة، ومسابقة في الخير بكل صوره وأنواعه. فـ {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة}،{وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنات}.. {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}، وأما الكسالى المتأخرون فقد قال عنهم صلى الله عليه وسلم: [ما زال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله}. فاللهم اجعلنا من السابقين إليك.
عباد الله
إن رمضان شهر تزود وتطهر وتغيير:
تزود من الطاعات، والحسنات والعبادات، وكل موجبات التقوى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}
شهر يطهر من الذنوب والسيئات، وردئ الأخلاق والصفات، وقبيح الأعمال والعادات.
فياذا الذي ما كفاه الذنب في رجب .. حتى عصى ربه في شهر شعبان
ها قـــد أظلك شهر الصوم بعدهما .. فلا تصيــره أيضــا شهر عصيان
واتل القــرآن وسبــح فـيه مجـتهدا .. فـــإنــه شهــر تســبيــح وقــــرآن.
شهر تغيير: تغيير من كل شر إلى كل خير، ومن كل قبيح إلى كل حميد، ومن كل مذموم إلى كل ممدوح، وتغيير من التقصير إلى الكمال، ومن البعد إلى القرب، ومن القسوة إلى اللين، ومن الإعراض عن الله إلى الإقبال عليه، ومن الأخلاق الرذيلة إلى الأخلاق الطيبة المحمودة، ومن العادات السيئة إلى أحسن العادات؛ فـ [من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه].
رمضان عودة إلى الله سبحانه، عودة إلى كتابه، عودة إلى شرعه، عودة إلى سنة نبيه، عودة إلى الصدقة، والبر، والجهاد، وعمل الصالحات، عودة إلى الطريق القويم، والصراط المستقيم.
رمضان فرصة للأمة لتغير حالها، وتحسن أمورها، وتعود لترضي خالقها ومعبودها، وتغير من واقعها ليغير الله لها حاضرها ومستقبلها. {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.
الخطبة الثانية
عباد الله: ها قد انصرمت سنة كاملة، ونحن على أبواب هذا الشهر العظيم، يستقبله أهل الطاعة والإيمان بقلوب مُلئت بالشوق والحنان. 
وبينما نحن كذلك، وكأننا وقد بكت القلوب على فراق هذا الشهر، كما هو الحال في جميع الأعوام الماضية. 
فرمضان يأتي بسرعة وينقضي بسرعة، فيا من ضيع عمره في غير الطاعة، يا من فرط في شهره بل في دهره وأضاعه، يا من بضاعته التسويف والتفريط، وبئست البضاعة، يا من جعل خصمه القرآن وشهر رمضان، كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة؟ ويل لمن شفعاؤه خصماؤه.
أيها المسلمون: إن شهر رمضان شهر مغنم وأرباح فاغتنموه بالعبادة وكثرة الصلاة وقراءة القرآن، والذكر والعفو عن الناس، والإحسان إلى الخلق، وأزيلوا العداوة والبغضاء، والشحناء بينكم، فإن الأعمال تعرض على الله كل يوم اثنين وخميس، فمن مستغفر فيُغفر له، ومن تائب فيُتاب عليه، ويرد أهل الضغائن بضغائنهم حتى يتوبوا ويصطلحوا.
 
واعلموا أن الصيام إنما شرع ليتحلى الإنسان بالتقوى، ويمنع جوارحه من محارم الله فيترك كل فعل محرم من الغش والخداع والظلم، ونقص المكاييل والموازين، ومنع الحقوق، والنظر المحرم، وسماع الأغاني المحرمة.
فإن كل معصية في الصيام تقدح في الصيام وتنقص أجره، فيجب أن يترك الصائم كل قول محرم، من الكذب والغيبة والنميمة، والسب والشتم.
أيها المسلمون: أروا الله من أنفسكم خيرًا، ولا يكن يوم صومكم ويوم فطركم سواء، فإذا صمتم فليصم سمعكم وبصركم وألسنتكم وجميع جوارحكم عما حرمه مولاكم. 
اللهم كما بلغتنا رمضان، أعنا فيه على القيام والصيام، وتقبل منا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، اللهم أدم علينا أمننا، واحفظ علينا ديننا.
 
 
 

المشاهدات 2401 | التعليقات 0