هل أنت ممن أذاعوا به أم ممن ردوه؟
د. عبدالله بن حسن الحبجر
الحمد لله رب العالمين، برحمته اهتدى المهتدون، وبعدله ضل الضالون، لا يسأل عما يفعل وهم
يسألون، اللهم لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، أو خاصة أو عامة، أو سر أو علانية، لك الحمد بالإسلام ولك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بالمال والأهل والمعافاة، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ .
معاشر المسلمين : يقول الحق تبارك وتعالى : ﴿وَإِذَا جَاۤءَهُم أَمر مِّنَ ٱلأَمنِ أَوِ ٱلخَوفِ أَذَاعُوا بِهِۦۖ وَلَو رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰۤ أُولِی ٱلأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ ٱلَّذِینَ یَسَنبِطُونَهُۥ مِنهُم وَلَولَا فَضلُ ٱللَّهِ عَلَیكُم وَرَحمَتُهُۥ لَٱتَّبَعتُمُ ٱلشَّیطَـٰنَ إِلَّا قَلِیلا﴾ .
هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق. وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة، ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة، عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهلِ الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها. فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك. وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة، أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته، لم يذيعوه، ولهذا قال: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة. وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى
الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ. وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة، فيُقْدِم عليه
الإنسان؟ أم لا،فيحجم عنه؟.
يا عباد الله : هذه الآيات الكريمات نزلت على
رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت كان نشر وإذاعة الخبر له وسائله المحدودة والقليلة، والتي لا ينتشر معها الخبر إلى نطاق واسع في زمن يسير.
فكيف بزمن صارت المعلومة أو الخبر أو المقطع يُرسل بأصابع اليد الواحدة، وفي لحظة واحدة، فيصل إلى أقصى الدنيا، بل إلى جميع قارات العالم، يصدق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم (تبلغ الآفاق) كل هذا يدعونا ليس إلى وقفة، بل وقفات في التعامل مع ما يرى الإنسان من أخبار الأمن أو الخوف، وما تتضمنه من معلومات ، ولا يمكن في مثل هذه العجالة الإحاطة بجميع الأمور المتعلقة بالأمن أو الخوف، ولكن يكفي الإشارة إلى جانب من الجوانب التي ربما يكثر نشرها أو الحديث عنها عبرة وسائل التواصل الاجتماعي، أو قنوات الإعلام الأخرى، هذا الجانب يتعلق بما يرى الإنسان أو ناقل الخبر انه من الأخطاء أو الممارسات التي يجب أن لا تقع، أو يرى أنه لابد من تحذير الناس منها، فيجتهد في طريقة نشرها والتحذير مما فيها، ولا يخلو ذلك من عبارات التهويل، أو التكبير للخبر، وربما يكون مع ذلك زيادات مما لا يحتمله الخبر، أو مما لا يكون من مضمون الخبر .
فأقول وبالله تعالى التوفيق :
أولا : لا يوجد عاقل يريد أن يقع الخطأ، أو يقر تعمد
وقصد الخطأ ، لكن العقل في كيفية التعامل مع ذلك الخطأ ، ليس العيب أن يخطئ الإنسان ، إنما العيب أن يعلم انه على خطأ ثم يكابر .
ثانيا : قد يصاحب نشر الأخطاء شيء من الجزع والعبارات التي لم يبق معها إلا ما يشبه النياحة ، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( وكثير من الناس إذا رأى المنكر أو تغيَّر كثير من أحوال الإسلام جزع وناح كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام )(1) .
وحرر قضية الاحتساب تحديدا ، وجعل لها حالين:
قال رحمه الله: ( فمن كان قادراً فعليه الانتصار والمدافعة ومجانبة العجز والإضاعة، ومن كان عاجزاً عن الاحتساب فعليه بلزوم الصبر والتجلُّد والحذر من الجزع واليأس. “فالأمر أمران: أمر فيه حيلة فلا تعجز عنه، وأمر لا حيلة فيه فلا تجزع منه) (2) .
وقال رحمه الله: (ضد الانتصار العجز، وضد الصبر الجزع، فلا خير في العجز ولا في الجزع، كما نجده في حال كثير من الناس ، حتى بعض المتديِّنين إذا ظلموا أو رأوا منكراً فلا هم
ينتصرون ولا يصبرون، بل يعجزون ويجزعون) (3) .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا * وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا * وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ) .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم …
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد :
فيشتكي بعض الغيورين من بعض قنوات الشر، وينزعج من بعض دعاة الفساد، ويتسخط على انحلال ما يرى من كثير من وسائل الإعلام، ويتأفف من نشاط مواقع الملحدين، ويتأسى على حال الأمة كلها، ثم تجده منطويا على مصالحه الشخصية واهتماماته الضيقة، كسولا نؤوما سلبيا كلّاً .. لا يؤدي رسالة ولا يقوم بإصلاح.
يا هذا : العالم لا يرحم الضعفاء، ولا يعطف على الباكين .
فإذا كنت تريد أن تكون ممن يصلح ما فسد، ويبني ما انهدم من الإيمان والمعرفة والعقيدة والفكر والسلوك والأخلاق وسائر ما ينقص الأمة، فدونك الميدان!
اجتهد على نفسك في البناء والعلم المنهجي الصحيح؛ بنية الإصلاح، وخدمة الإسلام، وإعزاز الأمة المحمدية، بل ورحمة البشرية كلها بنشر نور الرسالة الصحيحة .
ثم انطلق معتزا بإيمانك وقيمك، متضلعاً بعلوم الشريعة، مبصرا لحقائق التاريخ، عارفا بعوالم الأفكار، عالما بسنن الله في الكون والبشر، مدركا لمشكلات واقعك من كل النواحي، وَسَخِّرْ في سبيل ذلك وقتك ومالك وما تستطيع . وعليك قبل ذلك وأثناء ذلك وبعد ذلك من الإكثار من سؤال الله الإخلاص في القول والعمل والإعانة والتوفيق والسداد في أمورك كلها .
وحينها سيكون لصوتك في عقول الناس وقلوبهم صدىً حسن، ولأقوالك وأعمالك في نفوسهم مكانة وأثر.
وتذكر مرة أخرى: العالم لن يرحم ضعفك، والباطل لن ينحسر عمّا حواليك دون مجاهدة منك، فدع عنك التماوت والضعف، وتخلص من الجُبن والكسل، وأشرِقْ على الدنيا بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن؛ فالبشرية كلها بحاجة إليك. ولا تقلق على دين الله تعالى فهو منصور وغالب ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز) القلق فقط على موقعك من هذا الدين .
هل أنت من أنصاره حقا أم لا !!
ثالثا: تذكر دائما فضل الله عليك ونعمته ورحمته فقد قال جل وعلا في هذه الآيات (ولولا فضل الله عليكم ورحمته) أي: في توفيقكم وتأديبكم، وتعليمكم ما لم تكونوا تعلمون (لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) لأن الإنسان بطبعه ظالم جاهل، فلا تأمره نفسه إلا بالشر. فإذا لجأ إلى ربه واعتصم به واجتهد في ذلك، لطف به ربه ووفقه لكل خير، وعصمه من الشيطان الرجيم .وهذه حال المؤمن في أموره كلها، يبرأ من حوله وقوته، ويرد الفضل إلى الله جل وعلا، ومع ذلك يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم الذين يحرص على كل ما فيه ضرر على جماعة المسلمين .
(ربنا لا نزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) .
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ينظر: مجموع الفتاوى: 18/295 .
(2) ينظر: مجموع الفتاوى: 8/320 و 14/39 .
(3) ينظر: مجموع الفتاوى: 16/38 .
المرفقات
أنت-ممن-أذاعوا-به-أم-ممن-ردوه؟
أنت-ممن-أذاعوا-به-أم-ممن-ردوه؟