هكذا .. فلتكن محبة النبي صلى الله عليه وسلم

مريزيق بن فليح السواط
1433/03/11 - 2012/02/03 01:41AM
إن الحمد لله ....
إن الله تعالى أرسل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، على حين فترةٍ من الرسل، وانطماسٍ من السبل، أرسله والناس يعيشون في جاهلية جهلاء، وضلالةِ عمياء، وشركٍ وظلم وفساد أخلاق، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، فأنارَ به الطريق، وأوضحَ به السبيل، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظُلمتِها، وعمَّ فيها العدل، وانتشر العلم، بعد ظلمها وجهالتها، فكانت بعثته صلوات ربي وسلامه عليه، سببُ هداية من اتبعه إلى طريق النور والإيمان، والنجاةِ من الكفر والخسران "الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزلَ معه أولئك هم المفلحون".
عباد الله:
ببركةِ بعثته صلى الله عليه وسلم، وصدقِ دعوته، وعِظَمِ شفقته ومحبته على أمته، تحملَّ صنوف العذاب، وصبر على ما لقيَّ من شديد العقاب، فهو أرفقُ بنا، و أشفق علينا، من أبائنا و أمهاتنا، أخرجنا الله برسالته من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى، ومن الجهل إلى العلم، فحُقَّ علينا محبتُه وتعظيمُه وتوقيره "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم" عن انس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين".
فَرْضٌ على كل مؤمن أن يحب النبي صلى الله عليه وسلم، فمحبتُه عبادة من أعظم العبادات، وقربةٌ إلى رب الأرض والسموات، نرجو بها عظيم الأجر والمكْرُمات، هي أصل عظيم من أصول الدين، ودعامة أساسية من دعائم الإيمان برب العالمين، فَقِهَ ذلك صحابة الرسول الكريم، فأحبوه حبا عظيما، واشتاقوا إليه شوقا كبيرا، لم يعرف التاريخ له مثيلا، ولا يُذكر له شبيها، قال انس : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبل وما على الأرض أحدٌ أحب إلينا منه" وقال علي : "كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا، وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ".
كلُّ القلوب إلى الحبيب تميلُ
ومع بهذا شاهد ودليلُ
أما الدليلُ إذا ذَكرت محمدا
صارت دموع العارفين تسيلُ
تغلغلت محبته في قلوبهم، وتمكّن توقيرُه من نفوسهم، فكان أحب إليهم من أموالهم وأنفسهم وأهليهم، يأتي عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له بكل صراحة: لأنت أحب إليّ من كل شيء ألا من نفسي، وعمر في الحقيقة يحب الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسه، ويفديه بنفسه ألا أنه غَفَلَ عن هذه الحقيقة!! فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا والذي نفسي بيده، حتى أكونَ أحبَّ إليك من نفسك" فيتذكر عمر الحقيقة الغائبة ويقول مباشرة: لأنت أحبُّ إليّ من نفسي، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم عندها: "الآن يا عمر". ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كان يصبر عنه، بل يشتاق إليه!! وكل يوم يأتي لينظر إليه، في أحد الأيام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ووجهُهُ متغير فقال له الرسول: "ما غير لونُك؟؟" فقال يا رسول الله: مابي وجع، ولا مرض، غير أني إذا لم أراك اشتقتُ إليك!! واستوحشت وحشةً شديدة حتى ألقاك!! ووالله أنك لأحب إلي من نفسي وأهلي وولدي، وأني لأكونُ في البيت، فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرتُ الآخرة عرفت أنك إذا دخلت الجنة رُفعت مع النبيين، وإذا دخلتُ الجنة أنا خشيت أن لأراك فنزل قول الله تعالى: "ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا" وعمر الفاروق رضي الله عنه يقول للعباس: "والله لإسلامك يوم أسلمت أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، و مآبي إلا أني عرفت أن أسلامك كآن أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم. ولما تولى الخلافة فَرَضَ لأسامة بن زيد ثلاثة ألاف وخمسا مائة درهم وفرض لابنه عبدالله ثلاثة ألاف درهم، فيسأله ابنه لما؟؟ فيقول عمر: لأن زيد كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، وأسامة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك فأثرت حب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذو البجادين، صحابي تربى في حجر عمه، فنازعته نفسه إلى الإسلام فقال لعمه: يا عم كنت انتظر سلامتك بإسلامك، فلا أراك تريدُ محمدا، فأذن لي في الإسلام!! فقال عمه: والله لئن أسلمت لانتزعن كل ما أعطيتك حتى ثوبك. فصاح بأعلى صوته وقال: نظرة من محمد صلى الله عليه وسلم أحب إليّ من الدنيا و ما فيها، فجرده عمه من كل شي حتى الثياب، فناولته أمه بجادا لها – هو الكساء الغليظ – فقطعه نصفين، أتزر بنصف واشتمل بالأخر، واتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما أسمك؟؟ فقال: عبد العزى. فقال عليه الصلاة والسلام: "بل عبد الله ذو البجادين" انها التضحية في أسمى معانيها، والحب الصادق في أشرف مراتبه.
روح دعاها للوصال حبيبها
فآتت إليه تطيعه وتجيبه
يا مدعي صدق المحبة هكذا
فعل الحبيب إذا دعاه حبيبه
"قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم".
خالد بن معدان رضي الله عنه كان بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم يبكي كل ليلة بكاء شديدا، ويقول: هم أصلي وفصلي، اللهم عجل بقبض روحي حتى مات رضي الله عنه. لما قدم عمر إلى الشام لفتح بيت المقدس، وأذن بلال وهو لم يؤذن لأحد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أذن ببيت المقدس وتذكر الصحابة بأذانه رسول الله بكوا وارتج المسجد بالبكاء فلم يستطع بلال أن يكمل الأذان لشدة محبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا الحب الصادق، سار من جاء بعدهم. فهذا الزُهري رحمه الله: كان من أهنأ الناس، وألطفهم عِشرة، وأقربهم مودة، فإذا ذكر عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنه ما عرفك ولا عرفته، وعبد الله بن زكريا يقول : لو خيرت بين أن أعمر مائة سنة في طاعة الله، أو أن أقبض في ساعتي هذه، لاخترت أن أقبض شوقا إلى الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم. هكذا كان حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وشوقهم له، وطاعتهم لأمره "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا".
الحمد لله على احسانه....
عباد الله:
أصل محبة النبي صلى الله عليه وسلم إتباعه وطاعته، واقتفاء أثره، ولزوم سنته، وتحكيم شريعته، فليست المحبة دعوة يدعيها كل أحد، ولا نسبة ينتسب إليها، ويفخر بها، من أعرض عن هديه، وابتدع في دينه!! قال تعالى: "قل إن كنتم تحبون الله فأتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم" فالبينةُ الصادقة، والشاهدُ العدل، على محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، إتباعه ظاهرا و باطنا، وذلك بتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع.
محبة النبي صلى الله عليه وسلم بامتثال شريعته،والعمل بطاعته، قال ابن القيم : كان عمر رضي الله عنه يهم بالأمر، ويعزمُ عليه، فإذا قيل لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم تركه. هذا عمر الذي بلغ حقيقة المحبة!! فكيف بمن يسابق على معصية الله ورسوله وينبذ شريعته ثم يدعي محبته . أبو جُريّ جابر بن سُليم دخل المدينة وهو لا يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم، قال فرأيتُ رجلا يَصدرُ الناس عن رأيه!! فقلت من هذا: قالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا صورة مجتمع الصحابة انقياد لرسول صلى الله عليه وسلم، ومبادرة إلى أمره، لما كانوا معه عليه الصلاة والسلام في غزوة خيبر حاصروا اليهود، حتى طال عليهم المُكث، وأصابهم جوع شديد، فعمدوا إلى الحُمُر الأهلية فذبحوها، فبينما القدور تغلي بها، إذ جاء نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحومها!!! فقاموا مباشرة إلى القدور فأكفئوها، مع ما هم فيه من الجوع!! امتثالا لأمر الله، وعملا وتطبيقا لتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرى في أُصْبُع أحدِ الصحابة خاتما من ذهب فيأخذه ويطرحه ويقول: "يَعْمدُ أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده" ثم ينطلق ويترك الرجل، فيقول الصحابة لهذا الرجل خذ خاتمك، وانتفع به - يبيعه أو يهديه- فيقول: والله لأرفعه وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا الناس إلى البيعة في صلح الحديبية فكان أول من وصل إليه سِنان الأسدي فقال: أبْسطْ يدك يا رسول الله أُبايعُك!! فقال: "عَلَامَ تُبايعني؟؟" فقال: سنان على ما في نفسك يا رسول الله، استجابة كاملة، ويقينا بأن ما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم هو الخير والصلاح، والفوز والنجاح، حتى النساء يُبادرن أمر النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي أُسيد الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد، وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال: "استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق". قال الراوي: فكانت المرآة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليعتلق به من لصوقها به.
محبة النبي صلى الله عليه وسلم، لا تتم ألا بمعرفة سيرته، والعمل بسنته، ودراسة شمائله وأخلاقه، وخصائصه ومعجزاته، وأحواله ومغازيه، يتعلمها الناس، ويعلمونها أبنائهم ونسائهم في كل زمان، وعلى كل حال، وفي كل مكان، فليست مخصوصة بزمن دون زمن، ولا بمكان دون مكان، فعجب والله أن يُحب بعض الناس مغن ساقط، أو لاعب تاعب، أو ممثل وضيع، يتابعون سيرته، ويهتمون بأخباره،ويقتدون بتصرفاته، بل يلاحقونه في كل مكان،يقرأون ما يكتب!! ويستمعون لما يقول!! وإذا ظهر بقناة فضائية تسمروا أمام شاشتها، مشدودين لكلامه، مبتهجين برؤيته،!!! ثم يدعون محبة النبي صلى الله عليه وسلم ولو سئل أحدهم عن أحواله وسيرته، لما عرف عنها ألا نزرا يسيرا،وعلما قليلا، وعملا شكليا صوريا!!! فأين الصدق في المحبة؟؟ وأين الإتباع والطاعة؟؟ وأين الإقتداء بالسيرة العطرة، والأيام النضرة؟؟ والتي رتب الله عليها الهداية والرحمة "وأن تُطيعوه تهتدوا وما على الرسول ألا البلاغ المُبين" وقال تعالى: "وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون"
محبة النبي صلى الله عليه وسلم، عبادة لا بد فيها من الإخلاص لله، والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، واقتفاء أثر صحابته، فهم أعلم الناس بدينه، وأشدهم حبا له، فليست محبته عواطف كاذبة، ولا أماني خداعة، يستزلُّ الشيطان أصحابها، فيزين لهم سوء عملهم، فتُحْتكر محبته في قصائد تلقى، وأغاني تردد، في يوم مولده، ومأتم تقام يجتمع فيها الأكالون، ويُنشد فيها المغنون، عبارات الغلو والإطراء، مع نهيه عنها، وتحذيره منها " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله". "فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تُصيبهمْ فتنةٌ أو يُصيبَهم عذابٌ أليم".
ثم صلوا وسلموا رحمكم الله.....
المشاهدات 3564 | التعليقات 2

المحبة الصادقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عرفها الصحابة رضي الله عنهم فامتثلوها قولا وفعلا واعتقادا ومن ابتغى طريقا غير طريقهم أو سلك سبيلا غير سبيلهم فقد أخطء الطريق وأبعد النجعة، وهذه الخطبة لبيان حالهم مع حبيبهم عليه الصلاة والسلام لنعرف الطريق عسى أن نسلك السبيل، فإن قصُر بنا العمل فلا أقل من اقتفاء الأثر، فـ "المرء مع من أحب يوم القيامة".


جزاك الله خيرا